خلفت تصريحات رئيس الحكومة المغربي عبد الإله بن كيران حول سياسة حكومته في التعامل مع قضايا الفساد موجة من الانتقادات لما اعتبرته منظمات الدفاع عن النزاهة والمال العام تطبيعا من قبل الحكومة التي يقودها الإسلاميون مع لوبيات الفساد. وتصب هذه الانتقادات في نفس سياق سابقاتها من التعليقات التي واكبت البدايات الأولى لتشكيل الحكومة المغربية الحالية واعتبرت أن سياستها العامة تقوم على منطق تصالحي مع ما سمي ب"بؤر الفساد المناهضة للإصلاح"، حيث عاب الكثيرون على رئيسها بن كيران مهادنته وتخليه عن صلاحياته للملك، خلافا لما ينص عليه الدستور الجديد الذي تم الاستفتاء حوله في الأول من يوليو/تموز عقب موجة احتجاجات شهدها المغرب طالبت بالعدالة الاجتماعية وإنهاء الفساد. سياسة "عفا الله عما سلف.." تعود القضية إلى الأربعاء الماضي (25 يوليو/تموز) حيث استضاف برنامج "بلا حدود" على قناة الجزيرة القطرية رئيس الحكومة المغربية عبد الإله بن كيران. وفي سياق الحديث عن السياسة العامة التي تنتهجها الحكومة الحالية ل"تخليق" الحياة السياسية في المغرب، أكد بن كيران على أن سياسته في التعامل مع قضايا الفساد تقوم على منطق "عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه". وتقوم سياسة "العفو عما سلف"، كما فصل فيها بن كيران، على منطق يستحضر "الصعوبات التي ترتبط بالبحث في الملفات القديمة للفساد"، والذي قد يتحول، حسب بن كيران، إلى ما يشبه "مطاردة للساحرات". وقال بن كيران إنه لن يحمل "مصباحا ويبحث عن المفسدين في أركان الدولة.. إذا كنتم تعولون على حكومة بن كيران أن تنهي الفساد في ستة أشهر فهذا غير ممكن". واعتبر بن كيران أن "الزج بالمفسدين في السجون أمر غير ممكن٬ ويخلق الرعب في المجتمع"، مضيفا بأنه لا جدوى من ملاحقة المفسدين ومحاسبتهم ما دام ما أخذوه من المال العام قد "راح". ولعل أولى الانتقادات لتصريحات رئيس الحكومة أتت من منطلق استشهاده بالآية القرآنية "عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه"، حيث اعتبر المنتقدون أن استعمالها من قبل بن كيران كان بعيدا عن سياقها في النص القرآني [3]، و"أن الربط بين موضوع الآية وموضوع الفساد.. يتعلق فقط بمحاولة سطحية لإضفاء غطاء قرآني ورباني على اختيارات تدبيرية تتظاهر بالإصلاح بينما تضمر العجز وغياب الإرادة لتطهير البلاد من الفساد وخاصة عندما تكون للفساد حماية من مستويات عليا في القرار.. فضلا عن الاعتداء على ذوي الحقوق وضحايا الظلم والفساد بكل أشكاله وأنواعه، والذين لم يعلنوا أبدا رغبتهم في العفو عن المسؤولين عن الفساد ومرتكبي جرائمه مهما كان نفوذهم ومنصبهم، بل ليس لأحد في السلطة أن يقرر مكان ذوي الحقوق ويعفو عن المجرمين". "ترانسبارانسي المغرب" تنتقد بن كيران كما شكل حديث بن كيران عن منطق حكومته في معالجة قضايا الفساد المالي والاقتصادي موضوع انتقادات من منظمات غير حكومية معنية بالدفاع عن النزاهة والمال العام، على رأسها "الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة- ترانسبارنسي المغرب" التي اعتبرت في بيان أصدرته عقب بث البرنامج الحواري للجزيرة وعبرت فيه عن استيائها واستغرابها من تصريحات بن كيران لما تنطوي عليه "من غموض في تحليل هذه الآفة وما تسمح به من تبريرات لتطبيع التعامل معها وما يؤشر به من تعامل حكومي لين مع المتعاطين لجرائمها". وأكدت "ترانسبارانسي المغرب" على " أن الإفلات من العقاب هو أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تفشي الرشوة والفساد في المغرب وأن تنفيذ القانون ليس حقا في ملك الحكومة بل واجبا دستوريا وسياسيا وأخلاقيا يأتي على رأس ارتباط المسؤولية بالمساءلة". خطاب تهدئة سياسية أم تطبيع مع لوبيات الفساد؟ يمضي المدافعون عن أداء الحكومة الحالية إلى اعتبار تصريحات بن كيران مجرد خطاب سياسي يسعى إلى تهدئة لوبيات الفساد التي قد يؤدي استفزازها إلى مواجهة سياسة الحكومة وعرقلة برامجها. ويستشهد أصحاب هذا الرأي بأن الحكومة الحالية، بالرغم من تصريحات رئيسها الأخيرة، كانت سباقة في فتح عدد من ملفات الفساد المالي [4]، كما أنها كانت أولى الحكومات في تاريخ المغرب المستقل في نشر لوائح المستفيدين من اقتصاد الريع ومن رخص الاستفادة من الثروات الطبيعية. كما أن الحكومة الحالية، يقول المدافعون عنها، قد واصلت في توفير الإطار المناسب لاستمرار محاكمة المتورطين في تبديد المال العمومي في السابق، هذا بالإضافة إلى التدابير التي أعلنتها للتخفيض من ميزانيات التسيير وترشيد النفقات العمومية. بيد أن رأيا آخر يعتبر تصريحات بن كيران الأخيرة تجسيدا حقيقيا وفعليا للمنطق المحافظ لحزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه بن كيران.. في هذا الاتجاه يقول د.نجيب أقصبي، باحث في السياسة الاقتصادية، إن تصريحات بن كيران "تعكس المنطق المحافظ الذي تقوم عليه الحكومة الحالية، منطق سعت وفقه الحكومة منذ بدايتها إلى إعادة إنتاج البنيات المتحكمة في اقتصاد الريع". ويضيف "إن رئيس الحكومة الحالي، وبعيدا عن خطابات الاستهلاك حول محاربة الفساد التي رفعها خلال الحملة الانتخابية الأخيرة ومكنته من إحراز نتائج انتخابية هامة، يسعى مثل غيره من رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا طيلة الأربعين عاما الماضية، إلى الحفاظ على الهيكل العام لاقتصاد الريع الذي يتحكم في بنيات النظام السياسي". وعن مبادرة الحكومة المغربية إلى نشر لوائح بعض المستفيدين من اقتصاد الريع قال أقصبي إن الأمر لا يمكن إلا أن يكون إيجابيا رغم بعض العيوب التي شابته، لكنه انتقد في المقابل تخلي الحكومة عن المضي في ذلك مستغربا من التبريرات التي قدمها بن كيران الذي حمل مسؤولية توقف الحكومة عن المضي في التدقيق في لوائح الريع إلى الصحافة. ويورد أقصبي مثالا آخر لما أسماه بهشاشة الحكومة وطبيعتها الرامية إلى إعادة إنتاج اقتصاد الريع، هو اعتراضها على قانون الضريبة على الثروة في الغرفة الثانية وتبريرها ذلك بالحرص على استقرار المستثمرين. كما انتقد أقصبي ما اعتبره انتقائية في التعاطي مع الملفات المعروضة على القضاء، التي يتم فيها تجاهل أسماء كبيرة مقربة من الحكم، وهو ما يعتبر، حسب أقصبي، دليل غياب للعدالة. ولا يعترف الباحث في السياسة الاقتصادية للمغرب بوجود فوارق دالة بين فترة التناوب التوافقي، حيث أوكلت مسؤولية التسيير الحكومي لليسار نهاية التسعينات، وبين الفترة الحالية حيث يقود الإسلاميون الحكومة الائتلافية، فالمسار بالنسبة إليه مستمر، مصالحة مع اقتصاد الريع وعجز متواصل عن محاربة الفساد المالي والاقتصادي. --- المصدر: فرانس 24