في البداية اسمحوا لي أن أصف لكم المشهد حتى أنطلق وإياكم من شيء واقعي واضح ملموس: شيوخ، وكهول، وأطفال، وشباب رؤوسُهم لعبت فيها أصابعُ الحلاقين، يقصدون زرافات نفس المكان في نفس الوقت: مسجد الحي، عند صلاة أولِ صُبح في رمضان. ويمتلئ المسجد عن آخره، فيُستعان بالبُسُط المطاطية على قارعة الطريق لاحتواء أفواج المصلين. ما الذي حدث؟ وأين كان هؤلاء الأتقياء قبل يوم واحد فقط من حلول الشهر الأبرك؟ نفس مسجد الحي يظل فارغا في غير رمضان إلا من زمرة من المصلين يحفظ بعضهم وجوه بعض لا يكادون يتجاوزون صفّيْن عند صلاة الظهر! يجزم الكثير من الناس عن صدق ونقاء سرّ أن أتقياء رمضان منافقون أدعياء. هؤلاء الناس في غالب الأمر صنفان: مؤمنون محافظون على صلواتهم صيفا وشتاء، وغافلون مُغفَّلون لا يُصلون البتة، لا في رمضان ولا في غيره. ففي رأي الصنف الأول، المسلمُ الحق هو من يحافظ على صلاته لا يقطعها وإن كان على فراش الموت، ومن تركها فقد كفر.. غيرةٌ على الدين وإجلال له، وتعظيم لشعيرة الصلاة أن تصير لعبة بين أيدي "مسلمة" العصر مسلمة رمضان. أما الصنف الثاني فيرى الإقبال على طاعة الله في رمضان دون غيره من الشهور محض نفاق ولهو صبيان، ويعتقدون صدقا مع أنفسهم ومع الله أن الاستقامة إما أن تكون كاملة أو لا تكون، فيؤجلون من بين ما يؤجلون الصلاة إلى أن يتزوجوا، أو يشتغلوا، أو يقلعوا عن التدخين، أو يدَعوا إحدى البلِيّات، أو يتوبوا التوبة التي يتشوفون إليها، خشية ترك الصلاة، وارتكاب المعاصي بعد رمضان، فالوقوع في النفاق. وهكذا يصدُّ الناسُ أنفُسَهم والناسَ عن الصلاة عمادِ الدين جهلا بالدين. ومما يبعث على تطرف الفريقين ما رسب في اللاوعي عن زمن الصالحين المجيد والخلفاء الكرام وأحوالهم في المظهر والمأكل ونمط العيش، فيتصورون أن الصلاح لا يمكن أن يتجسد في شاب بسروال لاصق وقَصّة شعر "عصرية"، أو فتاة بكعب عال (وأنا هنا لا أدافع عن أي مظهر بعينه)، أو رجل أنيق بنظارات شمسية؛ وأن سبيل الاستقامة لا بد فيه من قطع الصلة بالأنترنيت، والآيفون، وسائر وسائل ومغرِيات العصر. النفاق في تعريفات الجرجاني، وأكتفي بهذا، هو "إظهار الإيمان باللسان وكتمان الكفر بالقلب"، وهو ما لا يُشم منه رائحة، لا في أتقياء رمضان، ولا في المسلمين عامة، ولله الحمد. في رأيي كلمة (منافقون) الجارحة تنأى كثيرا عما يخالج نفوس الفريقين عند هدوئهما. ألا إنها تعبير وشهادة على أن الصلاة لها مكانة خاصة عند الجميع باختلاف أحوالهم الروحية، وأن سائر الفرائض والسنن التي تحيى وتنتشر في رمضان هي من القداسة والتعظيم بحيث لا يُقبل إزاءها التراخي والاضطراب وتقلب المزاج. وهنا كلا الفريقين مُصيبان. عدا أنهم يُغيّبان في حق "تقاة رمضان" والبشر عامة سنة مؤكدة وناموسا كونيا هو التدرج، ويغفلان عن لازمة مجربة وردت في السنة المطهرة أن الإيمان يزيد وينقص، زيادة غير مسقوفة بدرجة، ونقصانا غير محدود بدركة، وأن الانقلابات الخارقة والطفرات المعجزة إنما هي شأن الأنبياء والرسل عليهم أزكى الصلاة والسلام. ثم إن هذا الانقلاب في حد ذاته ليس أمرا منكرا وليس عيبا. فلقد كان أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم يتبدل حاله في رمضان كليا. في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه : " كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن". على هذا النهج النبوي القويم سار التابعون والصالحون من السلف. وإذن فالعيب هو ذلكم السقوط المدوي من الذُّرى إلى الثَّرى، من الإيمان والاستقامة إلى الغفلة والسفالة، من رَوح المسجد إلى غمّ المقهى. العيب الكبير والغبن الأعظم هو هذا الانقلاب الحياتي السلوكي الذي لا تعقبه خطوة إلى الأمام في السير إلى الله. انقلاب أحوال المغاربة الخلقية والدينية في شهر النفحات الربانية ليس نفاقا. الحرص على الصلاة في المساجد، والإقبال على كتاب الله تعالى حفظا وقراءة وتدبرا، والاحتشام، والتناهي عن المنكر، وترك التبذل والفجور، والبشاشة لسائر الخيرات، يدل على أن نفوس أهل المغرب عطشى للطهارة والعفة والإسلام، وأن الإيمان حي راسخ متجذر في القلوب. وإنما غطى هذا الإيمان ودفعه إلى الركود الحاجةُ إلى الكسب والمعاش في واقع موبوء متأزم يُذهب كلَّ مروءة، وضرورة مسايرة العصر وما يرتبط به من نُظم وقواعد وقِيم وأحكام مفروضة بوازع السلطان، وحالة الانكسار النفسي الشامل أمام حضارة الغرب المادي المنتصر. القضية وما فيها هي قضية همة وإرادة. والهمة والإرادة عاملان عليهما ينبني تغيير ما بالإنسان وقلب دولة الإنسان. وإن الهمة لتسقط طبعا إذا لم تجد ما/من يرفعها، وإن الإرادة لتضعف إذا غاب أو غُيِّب من يصونها ويُقويها في محاضن الإيمان، ومجالس التربية، ونوادي الرجولة. لاسيما والشغل مفقود، والدين منبوذ، والكرامة منعدمة، والسكينة غائبة، والكرة فتنة يومية، والفساد عام، والحرب على الأخلاق ضارية، والآلة الإعلامية تطحن وقت وفكر الجميع، والسواد الأعظم مشتت الذهن، مبعثر الفكر من الحاجة والعوز. يفتر الناس عامة ويعودوا إلى عاداتهم الجارفة لأنه سُدت في وجوه المؤمنين الأقوياء والدعاة الصادقين والعلماء الأحرار الراغبين في التواصل معهم ومخاللتهم ومجالستهم أبوابُ المدارس والمعاهد والنوادي والجمعيات والمؤسسات العامة ومنابر الرأي والتوجيه وحتى الشواطئ وكل صعيد. وإن معركة إحياء الإيمان وبعثه في النفوس لمن أهم المعارك التي على الظفر بها يتوقف مستقبل المسلمين كافة بل الإنسانية المعذبة جمعاء. منكر عظيم واحد يجانب النفاق لا جدال فيه ولا نحسبه كامنا في النفوس، واسألْ من شئت، هو أن يتغير المرءُ وقد بيّت النية على العودة إلى ارتكاب الفواحش والموبقات بعد انصرام شهر الصيام. نسأل الله العافية.