الحرية أولا شعرت مثل غيري بسعادة غامرة، وأنا أشاهد جماهير الشعب التونسي تقلب بإصرار وإرادة ملفتين صفحة سوداء من تاريخ بلدها، وترغم أحد طغاة الأنظمة البوليسية على الرحيل خزيان بلا مجد ولا كرامة. لم يكن أحد من الملاحظين المتابعين للشأن التونسي يتوقع أن يحدث ذلك بالسرعة التي وقع بها، فالذين يعرفون شراسة النظام التونسي الذي قام على الرقابة المشدّدة وخنق الأنفاس والتضييق على حريات الإبداع والتعبير والتنظيم والتظاهر، واحتكار وسائط الإتصال والنفوذ والثروة، وإغلاق كل منافذ الهواء الأكثر حداثة ، والتي تظل آخر متنفس للناس لكي يمارسوا أضعف الإيمان، هؤلاء رجحوا أن تقوم السلطة في النهاية بإخماد جدوة الثورة، وإعادة الناس إلى بيوتهم دون تغيير يذكر، كما تمّ ذلك لأكثر من مرة في السنوات الأخيرة. غير أن الشارع التونسي قال كلمته أمام التاريخ، ساعد على ذلك شروط موضوعية كان أهمها تراكم الغليان المكبوت، وكون الرئيس يستند إلى سلطة حرسه وسلطة الأمن لا إلى قوة الجيش الذي اختار في النهاية أن ينحاز إلى الشعب ضد الدكتاتور. غير أن نجاح الثورة لا يكون بالقضاء على نظام الإستبداد، لأن من الممكن في ظل ثقافة التخلف التي رسخها النظام البائد أن يرثه نظام مثله تماما، لتتجدّد المأساة وتفتتح فصول جديدة من ملهاة القهر التي لا تنتهي، وسيكون الشعب التونسي بذلك قد خسر موعده مع الحرية، ولهذا بدت المخاوف من مخاطر ضياع الثورة أكثر من الآمال المعلقة عليها، فسواء تعلق الأمر بالشارع التونسي أو بنخبة البلد التي هي من أجود النخب وأرقاها بإفريقيا والشرق الأوسط، أو بنخب وشعوب الجوار المغاربي، فإن الكلّ يعتبر فشل الثورة التونسية خطرا على مصالح بلدان الجوار، بينما سيسمح نجاحها إن لم يؤدّ إلى تغيير مماثل في بلدان أخرى، بالضغط على الحكومات والأنظمة الفاسدة من خلال النموذج الذي سيمثله، والذي من شأنه أن يتحول إلى تحدّ للواقع المغاربي البئيس. لقد كان المرء من أجل الإستدلال على جدوى الديمقراطية والعقلانية والحرية، يحتاج إلى استحضار نماذج أجنبية غربية، بعيدة جغرافيا وتاريخيا عن النماذج المغاربية، ليستقوي بها نظريا وليثبت أن الشعب يستحق أكثر مما هو فيه، بدليل وجود شعوب تعيش حالة أفضل، وهو ما يمكن القيام به بشكل أكثر مردودية في حالة نجاح التجربة التونسية الواعدة. لم تكن ثورة الشارع التونسي مؤطرة من جهة سياسية بعينها، كانت ثورة الناس الذين تعبوا من الظلم، ولأن الكل شارك فيها فمن البديهي أن يشعر الجميع بالإنتماء إليها، وهذه من عوامل القوة التي ستطبع بشكل إيجابي المرحلة القادمة التي هي أصعب المراحل، إذ ليس هناك من سيعمل على أن ينسب لنفسه فضل التأطير والتوجيه للثورة كما حدث في ثورات أدّت إلى صنع أصنامها، وأقامت على أنقاض الإستبداد نموذجا أسوأ. سيكون على أبناء تونس الذين يحظون بمصداقية لدى الشعب أن يضعوا دستورهم الديمقراطي ، وألا يعيدوا أخطاء الماضي، فالدستور الديمقراطي شكلا ومضمونا هو الذي يبنى على أساس احترام الحريات، حريات التعبير والتفكير والإعتقاد والتنظيم والتجمّع، وعلى التعددية السياسية والدينية والثقافية، التي تجعل التجارب السياسية نسبية وتقي من المطلقات ومن أنبياء السياسة والحكام المقدّسين، وعلى حق المشاركة السياسية للجميع، ومبدإ التداول على السلطة، ومبدإ فصل السلط، ومبدإ المساواة والعدل بين الجميع بغض النظر عن أصولهم أو عائلاتهم أو معتقداتهم أو ألوانهم. الدستور الذي يجعل السياسة تعاقدا بين الشعب والحكام المؤقتين العابرين الذين لا يسمح لهم بتولي الأمر لأكثر من ولايتين أو ثلاثة، ولا يسمح بعودة الإستبداد أيا كانت مرجعية الحاكم أو شعاراته وأولوياته، فقد أثبتت التجارب السياسية في العالم المتقدم بأنه لا وجود لمصداقية أبدية في الديمقراطية، وأن الحاكم لا بد أن يتناقص أنصاره ويتزايد أنصار معارضيه لأن الناس يحبون التغيير والإنتقال من الحسن إلى الأحسن، ولضمان ذلك فالحرية هي الواقي من العودة إلى الوراء، من الأنظمة التوتاليتارية أيا كان منطلقها ومرجعياتها. قد يزول الإستبداد بسهولة إن كان نظاما قائما، غير أنه قد يصعب التخلص منه عندما يكون ثقافة مستحكمة، تعشعش في النفوس والعقول وتتكرس في السلوكات وأنماط الوعي، وخطورة الإستبداد ليست في نتائجه المباشرة فقط، بل في صنعه لأجيال من "الرعايا" الذين يستبطنون ثوابت العبودية، فيكرسونها من حيث لا يشعرون حتى بعد تحرّرهم، ومن هنا ضرورة التربية على الحقوق والحريات، وشحذ ملكات الإبداع والإبتكار من أجل تجاوز ثقافة العبودية وضمان استمرار الديمقراطية وتجذرها في العقول والضمائر. لقد قيل الكثير عن البطالة والخبز والقهر المادي في تونس، حتى يخيل للمرء أن ثورة الشعب كانت فقط بسبب الجوع أو الحاجة المادية، والحقيقة أن الناس ضجروا لأنهم علاوة على أنهم كانوا يعيشون ضائقة مادية خانقة، إلا أنهم لم يكن لديهم حتى الحق في قول ذلك، أي التعبير عن آلامهم، و نقد السياسات العمومية. الحرية أولا لأن سياسة النهب والفساد والإفساد والقهر والتفقير إنما تعشش في وكر الإستبداد ومناخ تكميم الأفواه، لقد ثبت من تجارب الشعوب والأمم المعاصرة، بأن من أكبر الأسباب التي كانت تجعل الإستبداد يضرب بجذوره وأنظمة الرقابة البوليسية تتسلط على رقاب الناس، هو اعتبار الحرية أمرا ثانويا أسبق منها الخبز والسكن والملبس والضروريات المادية، هذا ما حدث في دول الأنظمة الشيوعية باسم "العدالة الإجتماعية" ومواجهة المعسكر الرأسمالي، وهذا ما يحدث في النظام الإيراني الذي يرزح تحت رعب العمائم السوداء التي تشغل الناس عن حقوقهم الأساسية بوهم القوة النووية الموعودة ومواجهة "الشيطان الأكبر". لماذا الحرية أولا ؟ ولماذا هي الضامن لاستمرار الديمقراطية وعدم سرقة ثورات الشعوب؟ لأن قمع الحريات يؤدي إلى إسكات الأصوات النقدية، في ظلّ تسرب الفساد إلى المؤسسات وإلى النفوس والعقول التي تربت في كنف الإستبداد والقهر، فتكثر النميمة والغيبة و ثقافة التجسس والتنصت لإثبات حسن النية تجاه النظام المتغطرس، فتصبح المؤسسات والأفراد في خدمة النسق القمعي، والذين يشذون عن القاعدة مآلهم النفي أو السجن أو القبر، وهكذا يبدأ العد العكسي لدينامية الإنتاج والعمل والإبداع، فتغرق البلاد في غسق الإنغلاق والعزلة السياسية، ويتكرس التراجع على كل الواجهات، هكذا يصبح الأمل الوحيد والمخرج الأخير من الضائقة هو استعادة الحرية المغتصبة. لم تكن ثورة تونس من أجل الخبز ولا بسبب الجوع فقط، فالخبز بلا كرامة أشبه بالعلف الذي يلقى به للبهائم والماشية، كانت ثورة كرامة إنسانية جوهرها التحرر الذي يعيد بناء الوطن.