أثار انتباهي مقال منشور في الموقع الإلكتروني com.lakome بعنوان "الصراع الإسلامي العلماني وازدواجية الدولة" بتوقيع الأستاذ أحمد عصيد الذي أكن له كامل الاحترام والتقدير، وأثمن كتاباته رغم اختلافي معه في كثير من القضايا، ولكن الاختلاف لا يفسد المودة بقدر ما يستفز الإنسان للبحث والتنقيب والاستزادة من المعرفة، التي تفتح الآفاق، وتنوع الرؤى، وتغني الفضول المعرفي. بادئ ذي بدء، أشير إلى أن القراءة الأولية للعرض توحي للمطلع بموضوعية المقال، لكن القراءة المتأنية تكشف عكس ذلك إن على مستوى الشكل أو على مستوى الدلالة. أدرك جيدا خلفيات الأستاذ ومرجعياته. وأعي تمام الوعي تشبعه المطلق بالفكر الغربي الحر، وهذا شأن يخصه، و لا ندعي محاسبته، أو تبخيس اتجاهه، أو مناقشة توجهاته. ولكن حين يتعلق الأمر بإطلاق أحكام قيمية لا أسس علمية لها، ولا تحليلا مبنيا يسندها، ولا واقع مطابقا يشهد لها بالصحة، فهذا، في نظري، أمر في غاية الخطورة، لكون أحمد عصيد يتحمل مسؤولية تقتضي منه النزاهة والتجرد، لكي يخدم مصلحة الوطن لا مصلحة فئة على حساب فئة أخرى. لقد انطلق من الحديث عن الصراع العلماني_ الإسلامي الذي يدور حول الأصالة والمعاصرة، والتقليد والحداثة، فخلص إلى أن هذه الازدواجية هي " التي عرقلت بشكل كبير المشروع التنموي الوطني لما بعد الاستقلال". وكنا ننتظر منه أن يعلل هذا الحكم تعليلا يحتكم إلى الصرامة العلمية، أو إلى التذكير ببعض المراجع والدلائل، ولكنه آثر القفز بشكل غير مبرر، فألقى الحبل على الغارب. وأضاف في حديثه عن تلك الثنائية قائلا: "وخلقت أزمة هوية عميقة يعكسها تمزق الفكر بين المرجعيات المختلفة"، و كأني به يريد أن يفرض رأيا واحدا، بدليل إشارته إلى تشتت الفكر بين مرجعيات متنوعة، وهو الذي يرفع شعار التعدد والانفتاح، بغض النظر عن كون هذه الأزمة التي يحس بها ليست إلا في ذهنه وأذهان أولئك الذين يظنون أنهم وحدهم من هم على صواب، وأن غيرهم في الخطأ غارقون. ولا أدري عن أي هوية يتحدث، ما دام أن المغاربة أو جلهم يعتزون بهويتهم الإسلامية والعربية، التي تؤمن بسعة صدرها، وأريحيتها لاستيعاب جميع الأجناس، واللغات، والأعراق، والأديان. والتاريخ الإسلامي يشهد على ذلك في كل مظاهره ومراحله. والمغرب شاهد على احتضانه لليهود، والقبول بهم للعيش بين ظهرانينا. أما إذا أراد الأستاذ أن يدعي غير هذا فليُدر وجهه شطر الدول التي يريد أن يتخذها مثالا يُحتذى، ويطمح أن يستبدل هويته بهويتها، ليرجع إليه بصره خاسئا وهو حسير، لأن مجازر الأوربيين للهنود الحمر الأصليين في أمريكا، لن يمحوَها هذا البريق الذي يظهر ويختفي حسب المصالح، كما أن الحروب الصليببية لن يستطيع مواراتها، بله تقتيل الفلسطنيين العزل بالصواريخ والطائرات أمام أنظار العالم "الحر" الذي ينظر ويسجل من دون أن يتدخل. وهذا لن يحجبه ادعاء الديمقراطية في إسرائيل، ولا وصف أولئك الفلسطينيين بالإرهابيين والمتطرفين. ولن أسترسل في تقديم العينات ولا في تصنيفها، لأن كتب التاريخ تعج بالتفاصيل المملة. من البديهي أن نشهد أنّ الهوية المغربية هوية راسخة، ولن تتبدل بكتابات السيد عصيد، ولا ب"صدمة" الحداثة على المستوى الفكري، ولا بالعلمانية في الأفق السياسي.وأن يكن من أمر فإن مقومات الأمم تصمد دائما في وجه الغزو العسكري والثقافي، ليس لكره الآخر، وإنما لكون الأمم تريد أن تعيش حميميتها، و تتمتع باستقلاليتها النسبية. فالهوية لها جذور ضاربة في أعماق التاريخ، ولا يمكن لأحد أن يحكم على شعب أو نصفه بأزمة الهوية بجرة قلم. وما سمعنا أحدا يريد أن يدّعِيَ أبا غير أبيه الشرعي لما فيه من تلطيخ لسمعة الأم و شرفها. ولم يكتف الأستاذ بهذه المغالطات التاريخية والمعرفية، بل عقب ذلك بقوله: "فالتياران معا نتاج تحولات المجتمع المغربي بعد صدمة الحداثة و بعد الاحتكاك الدرامي المباشر للمغرب بنموذج أجنبي ممثل في فرنسا". وهذا فيه نوع من مجانبة الحق ومجافاة الحقيقة، لكون التيار الإسلامي لم يظهر مع الحداثة ولا مع احتكاك المغاربة بالفرنسيين. وما هذا إلا إرادة مقصودة منه لجعل التيار العلماني الحديث تيارا يعادل التيار الإسلامي من حيث الزمن. ثم إنه حين يذكر التيار الإسلامي، فهو يصفه بلفظ "المتطرف"، وإذا ما تحدث عن العلمانيين يصفهم ب"اليسار والفكر الحداثي"، وحين يجمعهما ويريد البعض من الكل، فإنه يلطف الوصف من القدح الجلي، إلى المصطلح المختص: "الراديكالي". وأثناء حديثه عن القضايا الخلافية بين التيارين، والتي لم يُحسم فيها بين الفريقين بعد، أردف قائلا: " ما زال العلمانيون يعتبرون استعمال الدين في السياسة متعارضا مع قواعد الديمقراطية". ومن يقرأ هذا الطرح يظن أن العلمانيين سوف يتنازلون في يوم ما عن هذا الركن الأساس في عقيدتهم؛ "ما لقيصر لقيصر وما لله لله". أما حين يشير إلى ما ينتج عن هذا الإيمان الإسلامي، غير المقبول في النظام الديمقراطي من: تكفير و تحريض ديني، و تمييز بين المؤمن والكافر، وكذا اعتبار العلمانية زيغا وضلالا، فإنه يخلص إلى نتيجة تؤدي حسب تعبيره إلى تهديد الاستقرار، و إثارة الفتن، لكنه في المقابل لم يتحدث عما يصدر عن العلمانيين من تمييز بين الحداثي المتنور، والأصولي الرجعي، و لا بين الأمرد والملتحي، ولا بين إشهار المثلية، وإباحة الجنس، و الإفطار العلني في رمضان، والدعوة إليه، ولا إلى شرب الخمر في الطرقات، وما ينتج عن هذا من آفات آنية ومستقبلية من انحلال الأسرة، والحمل غير القانوني، وحوادث السير المميتة في حالة السكر ... وكيف يتحدث عن حقوق المرأة، و ينسى أو يتناسى أن يبين تجليات هذه الحرية ومواطنها. فهل يا ترى نجدها في الاستغلال المقيت للمرأة في الإشهارات، أم في ترقيصها في الكاباريهات، أم في الإغتصابات، أم في العنف المتواصل، أم في جلب الزبناء لكبار المتاجر والفنادق...؟ و يختم هذا المقال بحكم يجانب الصواب، ويُبَسّط النتيجة، ويَحصر أسباب تبطيء التحديث في صراع هذين التيارين. فلا أدري إن كان فعلا يقصد ما يقول، أم أن اللغة خانته هذه المرة، فقال ما يضمر بعكس ما يشهر. ويصدق عليه بيت ابن القيم الشهير: فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبة *** وإن كنت تدرى فالمصيبة أعظم ولا غرو أن الفكر الماركسي يؤمن بالجدلية والصراع. ولا يؤمن بالمصادفة، فكيف يُلمّح إلى أنه لو خلا الجو للتيار العلماني لقطع المغرب أشواطا بعيدة في التحديث؟ أسارع إلى القول: إنه يستحيل حصر كل المشاكل السياسية والتحديثية وإلصاقها بهذين التيارين وحدهما، لأن المغرب أكبر من هذا الاختزال الذي لا يقبله ذوو الفكر الحر والحداثي، كما لا يستسيغه أولئك الذين يصفهم بالمتطرفين. فأولى بالأستاذ أن يقول الحق، ويتحرى الصدق ما أمكن، ويبتعد عن الذاتية المفرطة، لأنه يعمل في مؤسسة تعنى بالشأن اللغوي المغربي كله. فحمولة المصطلحات التي أطلقتها على عواهنها، والأحكام الجاهزة التي كالها لا تخدم المصلحة الوطنية ولا ما ي"دافع" عنه من "قيم". ولا يمكن لأي شخص مهما علا وارتقى أن يبني على أنقاض الآخرين، ولا أن ينقص من قدرهم، أو يحط من شأنهم. فأن نختلف مع الآخر شيء مقبول ومحمود لكن الإقصاء منبوذ ومرفوض. وليس يعزب عن بال الأستاذ أن المنهج العلمي يقتضي التقيد بالملاحظة الدقيقة، ووصف الظاهرة وصفا تزامنيا أو تعاقبيا بخضوع تام لصرامة الواقع أو المصدر والتريث في إصدار الأحكام بيد أن هذه المرة قد خالفه الحظ.