هيمنت قضايا اللغة والهوية على المؤتمر السنوي الأول للعلوم الاجتماعية والإنسانية بالدوحة الأسبوع الماضي, ورغم تأكيد عدد من المتدخلين بضرورة بذل مجهود كبير لضمان حضور اللغة العربية في العصر الرقمي، وجعلها جزءا أساسيا من مقومات الهوية العربية، بل منهم من تحدث عن الأمن اللغوي للأمة العربية على غرار الأمن القومي والغذائي و...، فإن الخلاف الأيديولوجي أطل برأسه بوضوح في النقاشات, عندما اعتبر البعض أن معركة ضمان الأمن اللغوي مؤجلة في الظروف الحالية, وأن المعركة الأولى منها هي معركة الدفاع عن الفكر التنويري مقابل هيمنة الفكر الديني (التيارات الإسلامية) في إشارة إلى ظاهرة حصول الإسلاميين على الأغلبية في الانتخابات البرلمانية في أكثر من بلد عربي من قبيل تونس ومصر والمغرب. وفي نفس الاتجاه طالبت أسماء تحسب نفسها على التيار التقدمي بضرورة الانفتاح في موضوع الهوية، وتجاوز المقاربة التقليدية والقديمة لهذا الموضوع, لأن العالم بات مفتوحا بشكل لا ينفع معه تحديد مكونات الهوية وحصرها، لأن الهوية باتت هويات متعددة. وبالطبع دافعت أسماء من التيار القومي والإسلامي هي الأخرى عن أهمية الحفاظ على الهوية العربية مميزة, وعن أحد أسس هذه الهوية وهي اللغة العربية, في عالم تحرص فيه القوة الغالبة والمهينة أن تنمط فيه الناس والشعوب فتفقد خصوصيتها وهويتها وتجهل تاريخها, فتفقد بالتالي البوصلة نحو المستقبل لأنه لا مستقبل لمن لا ماضي له. وبدا واضحا من النقاش أن التيار العلماني أو الليبرالي -الذي يصف نفسه بالتقدمي- فشل في أن يستوعب عبر ودروس الربيع العربي وما كشفه من إصرار الشعوب على الحفاظ على ذاتها وهويتها، والتمسك بحقها في التعبير عن ذاتها, كما هي لا كما يراد لها أن تكون. هل يتعلق الأمر بالمكابرة والعجز عن القيام بنقد ذاتي, أم أنه يعتبر وجهات نظره بمثابة عقيدة يصعب عليه الكفر بها علنا, أم في الأمر سر آخر؟ في كل الأحوال لقد فشلت كل أساليب مسخ الذات والهوية التي مارسها التيار الليبرالي والعلماني في الخفاء والعلن, سواء عبر تمكين أطره في مراكز القرار بالمؤسسات التعليمية والإعلامية والفنية وفرض أطروحاته, مستفيدا بذلك من الاستبداد السياسي والتواطؤ معه، لأنه يخاف من الديمقراطية والتنافس الحر مع منافسيه ومخالفيه، ويفضل الاستقواء بالآخر سواء كانت سلطة سياسية أو استعطاف الخارج بحجة الدفاع عن الحداثة والديمقراطية والقيم الكونية و... ولنا في تونس النموذج الواضح. فما إن قال الشعب التونسي كلمته حتى انهار مشروع التيار المذكور وبدا وكأنه قصر من رمال لم يصمد عند أول مد بحري أو لنقل موجة فقط. في كل الأحوال موضوع اللغة والهوية، موضوع كبير, وتحد يحتاج من صناع القرار بعالمنا العربي أن يعطوه الأولوية, لأن الأمن اللغوي كما سلفت الإشارة لا يقل أهمية عن الأمن القومي، بل هو جزء منه، ولا يمكن أن تكون للأمة العربية بصمتها الخاصة في الحضارة الإنسانية حاليا ومستقبلا من دون الاعتماد على لغتها في نهضتها العلمية والتكنولوجية، ذلك أنه وكما قال الدكتور المهدي المنجرة «لا توجد دولة في العالم انطلقت في المجال التكنولوجي دون الاعتماد على اللغة الأم». أما لعب التيار التغريبي في الوطن العربي على نعرة اللهجات المحلية والإعلاء من شأن «اللغة» العامية بخلفيات فلا يصب إلا في مصلحة احتكار اللغة الأجنبية لكثير من حقول العلم في وطننا العربي، وفي مصلحة من يعمل على تشويه هويتنا وإفقادنا شخصيتنا الحضارية إذا صح التعبير. ومعركة وتحد بهذا الحجم تستدعي الخروج من «التكنات» الحزبية والأيديولوجية، والتفكير في المصلحة الجامعة لأن خطر المسخ الحضاري يتهدد الجميع، والغرب لا يحترم من لا هوية ولا شخصية له حتى وإن «طَبَّل» وسَوَّق له، لأننا في زمن وعصر يعرف صراع الهويات ورغبة خطيرة من الغرب لقولبة الباقي وصياغته على شاكلته, بطرق أقل ما يقال عنها إنها رهيبة ناعمة الظاهر جهنمية الباطن.