1- دسترة اللغة العربية في المغرب كلغة أولى و قانون السوق اللغوية حضرت العربية كلغة رسمية في لمغرب منذ دستور 1962 و استمر هذا الطابع الرسمي مع دستور 1996؛ و الآن جاء مشروع دستور 2011 ليؤكد على هذا الطابع الرسمي؛ إذ جاء في الفصل الخامس منه : " تظل العربية اللغة الرسمية للدولة" كما جاء في نفس الفصل تأكيد من الدولة على حماية و تطوير اللغة العربية؛ و تنمية استعمالها . (1) إن هذه الدسترة في الواقع ليست سوى إقرارا بواقع لغوي؛ كانت فيه الريادة دائما للغة العربية؛ على امتداد اثني عشر قرنا؛ ليس من منظور إيديولوجي و ديني- كما يحلو للبعض أن يزعم- و لكن من منظور السوق اللغوية – كما صاغها بيير بورديو- حيث " توجد السوق اللغوية عندما ينتج شخص ما خطابا موجها لمتلقين قادرين على تقييمه وتقديره ومنحه سعرا معينا ". (2) و الخطاب ارتبط دوما باللغة؛ و بخصوص اللغة العربية؛ فقد كانت لقرون؛ لغة العلم و المعرفة؛ و لهذا كان سعرها عالي القيمة دائما؛ ليس بسبب ارتباطها بالدين فقط؛ و لكن كذلك لقيمتها الحضارية؛ و حمولتها الفكرية و العلمية. لقد حضرت العربية في المغرب –و ما زالت- كرأسمال لغوي؛ و الحديث عن الرأسمال اللغوي –حسب بورديو- يعني وجود فوائد لغوية. و لعل أهم هذه الفوائد في حالة المغرب؛ هو أن تتمكن منطقة مغمورة في شمال إفريقيا؛ من فرض نفسها كقوة حضارية؛ وصل إشعاعها الحضاري إلى الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط؛ و صنع حضارة ما زالت إسبانيا تحتفظ بآثارها إلى اليوم . و إذا كانت السوق اللغوية-حسب بورديو- بمثابة نمط معين من القوانين (المتغيرة) التي تحكم تشكل أسعار المنتوجات اللغوية؛ فإن اللغة العربية من هذا المنظور؛ و نظرا لامتدادها في جغرافيات متعددة و لمراحل تاريخية طويلة؛ تؤكد تسعيرتها الحقيقية التي لم تتراجع كغيرها من المنتوجات اللغوية الأخرى؛ و من منظور قانون العرض و الطلب؛ فإن المنتوج الذي يحافظ على تسعيرته لوقت أطول؛ هو منتوج عالي الجودة؛ لأن المستهلك اللغوي لن يقبل بمنتوج ضعيف الجودة؛ مع وجود منتوجات لغوية منافسة . إن المشرع المغربي –إذن- و هو يدستر اللغة العربية كلغة رسمية؛ في جميع التعديلات الدستورية؛ لا يقدم على هذه الخطوة فقط للمحافظة على الانتماء العربي للمغرب –لأن هذا أمر واقع لا جدال فيه- و لكن لأن اللغة العربية حضرت في المغرب كرأسمال ثمين؛ ساهم إلى حد بعيد في نقل المغرب إلى مرحلة حضارية جديدة؛ كفاعل إقليمي و قومي و دولي . و نحن هنا حينما نتحدث عن اللغة العربية؛ فإننا نقصد التراكم الثقافي و الحضاري الذي تحمله هذه اللغة؛ ما دامت اللغة في الأخير هي مسكن الكائن كما يؤكد الفيلسوف الألماني (هيدجر). إن الشخصية المغربية (بالمعنى الجمعي) في تشكلها التاريخي؛ فكريا و اجتماعيا ونفسيا؛ هي مدينة في جزء كبير جدا للعروبة؛ كلغة و ثقافة و حضارة و دين؛ و الكتابات التاريخية اللاتينية التي تحدثت عن شمال إفريقيا تقدم لنا صورة حقيقية عن المغرب العربي؛ الذي كان مزرعة كبيرة لروما؛ ينتج القمح و الشعير؛ أما الثقافة و الحضارة؛ فهي حكر على الروماني (المتحضر)/(المتدين)؛ و لا يشاركه فيها (البربري) الذي سلبه الرومان حتى القابلية لتقليد الروماني المتحضر! إن أول ما استطاع الإنسان المغربي تكسيره؛ بعد انتمائه إلى الثقافة و الحضارة العربية؛ هي تلك الصورة النمطية التي رسمها له الرومان؛ باعتباره بربريا/ غير متحضر... حيث نجح خلال وقت قياسي؛ في قلب التوازنات السائدة؛ و ترقى في سلم الحضارة؛ و أصبح مصدرا أساسيا؛ للغة و الثقافة و الدين... و هكذا سيلقن أحفاد الرومان دروسا بليغة؛ حينما نجح في بناء إمبراطورية تمتد من إفريقيا إلى أوربا؛ إمبراطورية تداول على حكمها العرب (الأدارسة؛ السعديون؛ العلويون) و كذلك الأمازيغ( المرابطون؛ الموحدون؛ المرينيون) . لقد ولدت العروبة في المغرب عبر زواج ناجح بين (كنزه الأمازيغية) ابنة زعيم أكبر قبيلة مغربية (أوربة)؛ و (إدريس العربي) الذي دخل المغرب فوحده و بنى أسس إمبراطورية قوية؛ امتدت حدودها بين بلاد تامسنا على المحيط الأطلسي غربا و بلاد تلمسان بالمغرب الأوسط شرقا . و لذلك فإن عروبة المغرب لم تتنكر يوما للإرث التاريخي الأمازيغي؛ بل خلقت حوارا حضاريا يتجاوز قدرات المرحلة؛ و إذا كان (إدريس الأول) هو مؤسس هذا الحوار؛ بعدما تمت مبايعته من طرف القبائل المغربية؛ على اقتناع تام برسالته الحضارية السامية؛ التي حارب و هاجر من اجلها؛ فإن هذا الحوار هو الذي سيستمر لقرون بعده؛ و ما زال يفرض نفسه بقوة رغم المؤامرات التي تواجهه من الداخل و الخارج . لقد آمنت العروبة في المغرب بالتعددية و الاختلاف؛ خلال مرحلة كان السيف هو الحاسم بين الجد الهزل ! و هذا ما شجع المغاربة على الافتخار بالانتماء إلى هذا المعين الحضاري الذي لا ينضب؛ فأحسوا و اقتنعوا لقرون أنهم يشكلون امتدادا للعالم العربي الكبير (مشرقا و مغربا) و هذه حقيقة انغرست في فكر و وجدان المغاربة؛ لم يستطع المستعمر الفرنسي رغم مجهوداته الجبارة اقتلاعها. و هذه رسالة يجب على أذناب الاستعمار الفرنسي في المغرب؛ اليوم؛ أن يستوعبوها جيدا؛ فالمغرب سيظل امتدادا عربيا؛ ليس لأن الأمر مفروض على المغاربة بالقوة و العنف؛ و لكن لأن المغاربة فضلوا هذا الخيار الحضاري؛ و أجمعوا حوله في واقعهم المعيش فكريا ووجدانيا؛ قبل أن يترجم دستوريا . 2- ما بين ترسيم العربية كلغة أولى للدولة و واقع التلوث اللغوي حينما يؤكد دستور 2011 على الطابع الرسمي للغة العربية و يتعهد بحمايتها و تطويرها؛ و تنمية استعمالها؛ و حينما يؤكد على تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية الإسلامية؛ و توطيد وشائج الأخوة و التضامن مع شعوبها الشقيقة؛ حينما يؤكد على كل هذا؛ فهو لا يضع خريطة طريق توضح كيف يمكن الانتقال من التنظير إلى الممارسة. و هذا ما يدفع إلى التساؤل مرة أخرى؛ هل هناك إرادة حقيقية للدولة؛ بخصوص دسترة اللغة العربية كلغة أولى للمغاربة دستوريا و كذلك واقعيا؟ أم إن دستور 2011 سيعتمد نفس منطق الدساتير السابقة؛ التي نصت جميعها على ترسيم اللغة العربية؛ لكن الواقع كان شيئا آخر؛ حيث أن جميع القطاعات الحيوية في الدولة من اقتصاد و إدارة و تعليم عالي ... تعتمد اللغة الفرنسية؛ أما اللغة العربية فإنها اكتفت بحضور رسمي على مستوى الدستور؛ من دون ترجمة النص الدستوري على مستوى الممارسة ؟ لقد علمتنا التجارب الدستورية السابقة؛ أن الدستور شيء و الممارسة شيء آخر؛ لذلك من حقنا أن نتساءل حول طبيعة الترسيم المرتقب للغة العربية في دستور 2011 ؛ فهل سيظل النص الدستوري الخاص بترسيم اللغة العربية؛ نصا فارغ المحتوى؛ يخضع للانتهاك من طرف اللوبي الفرنكفوني؛ الذي يفرض اللغة الفرنسية في المغرب؛ كلغة أولى على مستوى الممارسة ؟ أليس من واجب الدولة أن تكون حاسمة؛ في فرض نصوص الدستور المتفق حولها من طرف المغاربة؛ على الجميع و من دون تمييز؛ خصوصا و أن الفصل السابع و الثلاثين من مشروع دستور 2011 يؤكد : " على جميع المواطنين احترام الدستور و التقيد بالقانون؛ و يتعين عليهم ممارسة الحقوق و الحريات التي يكفلها الدستور بروح المسؤولية و المواطنة المسؤولة؛ التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق بالنهوض بأداء الواجبات" (3) إن دسترة العربية كلغة رسمية أولى في المغرب؛ تواجه في الواقع مجموعة من العوائق التي رسخها الاستعمار الفرنسي؛ حينما وضع نصب أعينه؛ محاربة اللغة العربية في المغرب؛ لأنها تمثل امتدادا حضاريا؛ يمكن أن يعرقل جميع مشاريعه الاستيطانية. و حتى بعد انسحابه من ساحة المعركة على وقع ضربات المقاومة؛ سيعوض انسحابه باستعمار ثقافي؛ و كانت الفرانكفونية هي الجسر الرابط بين الاستعمار العسكري و الاستعمار الثقافي. و لذلك فإن العائق الحقيقي أمام دسترة اللغة العربية في المغرب؛ هو هيمنة اللغة الفرنسية؛ على جميع القطاعات الحيوية في الدولة؛ من الاقتصاد إلى الإدارة إلى التعليم... و هذا ما يجعل ترسيم اللغة العربية؛ لا يتجاوز المستوى الرسمي؛ أما الدسترة الحقيقية و الواقعية فهي للغة الفرنسية رغم أن الدستور لا ينص على ذلك صراحة . لنكن أكثر وضوحا –إذن- في علاقتنا مع الشعب المغربي؛ و إذا كان التيار الفرنكفوني في المغرب يسعى إلى فرض اللغة الفرنسية على المغاربة كلغة أولى؛ فليدافع على خياره أمام المغاربة؛ من خلال دسترة الفرنسية كلغة رسمية للمغرب !!! و عرض ذلك على الاستفتاء الشعبي؛ و إذا قبل المغاربة بذلك؛ فيجب على الدولة أن تفرض هذه اللغة على المغاربة بقوة القانون؛ أما أن نتحايل على نصوص الدستور؛ فنقوم بترسيم اللغة العربية على الورق؛ و ترسيم اللغة الفرنسية على أرض الواقع؛ فهذا هو ما لا يجب أن يقبل به الشعب المغربي؛ من منطلق دستوري واضح؛ يدافع على سيادة الوضوح و الشفافية بين المواطنين؛ الذين يصوتون على الدستور؛ و بين الدولة التي تؤتمن على حماية سيادة الدستور في الحياة العامة . 3- دستور 2011 .. هل من آفاق لتأهيل و تفعيل اللغة العربية في المغرب ؟ جاء ضمن مشروع دستور 2011 في الفصل الخامس؛ تأكيد من الدولة على حماية و تطوير اللغة العربية؛ و تنمية استعمالها. و ذلك بعد التنصيص على طابعها الرسمي؛ و هذا ما يبدو أنه يشكل إضافة نوعية مقارنة مع الدساتير السابقة التي كانت تكتفي بالتنصيص على ترسيم اللغة العربية فقط؛ من دون أي التزام بحمايتها و تطويرها و تنمية استعمالها . فهل يمكن اعتبار هذه الإضافة تعبيرا عن إرادة الدولة للنهوض باللغة الرسمية الأولى للمغرب ؟ في جميع أنحاء العالم؛ تعمل الدول على حماية لغاتها الرسمية؛ عبر وضع قوانين تفرض استعمالها في التعليم و الإدارة... كما تنشئ مؤسسات تقوم بحمايتها و تطويرها و تنمية استعمالها. لكن التلوث اللغوي الذي نعيشه في المغرب؛ جعلنا غير قادرين عمليا على تمييز لغتنا الرسمية؛ هل هي العربية التي يبوؤها الدستور مركز الصدارة؛ أم هي الفرنسية التي يبوؤها الواقع هذه المكانة؛ باعتبارها لغة الإدارة و الاقتصاد و التعليم العالي... و التلوث اللغوي في الحالة المغربية؛ يرتبط بطغيان لغة أجنبية دخيلة على اللغة المحلية المبوأة عبر الثقافة و المعرفة و السلوكات اللغوية المحلية" (4) 3-1- دسترة المجلس الوطني للغات و تحديات تأهيل و تفعيل اللغة العربية في الحياة العامة في الوقت الذي كنا ننتظر دسترة أكاديمية محمد السادس للغة العربية؛ كمؤسسة قادرة على تأهيل اللغة العربية و إدماجها في الحياة العامة؛ باعتبارها اللغة الرسمية الأولى للمغرب؛ خرج علينا مشروع دستور 2011 ليعوض هذه المؤسسة بالمجلس الوطني للغات و الثقافة المغربية. و قد نص دستور 2011 على ما يلي : "يحدث مجلس وطني للغات و الثقافة المغربية؛ مهمته؛ على وجه الخصوص؛ حماية و تنمية اللغة العربية و الأمازيغية؛ و مختلف التعبيرات الثقافية المغربية؛ تراثا أصيلا و إبداعا معاصرا؛ و يضم المؤسسات المعنية بهذه المجالات؛ و يحدد قانون تنظيمي صلاحياته؛ و تركيبته و كيفيات سيره" . (5) و إذا كان إحداث هذا المجلس؛ يستجيب لخطاطة الحقوق الثقافية و اللغوية؛ التي تمثل حصة الأسد في مشروع الدستور؛ فإن هذا الإحداث لا يستجيب لتأهيل اللغة العربية كلغة رسمية أولى؛ خصوصا و أن الأمازيغية التي تم ترسيمها إلى جانب العربية؛ غير مؤهلة اليوم للقيام بوظيفة اللغة الرسمية؛ لأنها ما زالت في طريق المعيرة التي يقوم بها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. و هذا يعني أن الباب سيفتح على مصراعيه أمام اللغة الفرنسية؛ التي ستحتل ما تبقى من المجال العمومي. نحن لا نقول أن اللغة العربية قاصرة اليوم على القيام بوظائفها كلغة رسمية؛ و لكن؛ كان من الأفضل أن تعمل الدولة على تأهيلها أكثر لدمجها في الحياة العامة؛ كي تقوم بوظيفتها. و هذا التأهيل و الإدماج كان من الممكن أن تقوم بهما مؤسسة أكاديمية تمتلك تصورا علميا قادرا على النهوض باللغة العربية. إن التراجع الذي عبرت عنه الدولة؛ و هي تنتقل بسرعة البرق من إرادة تأهيل اللغة العربية و دمجها في الحياة العامة؛ من منظور سياسي واضح؛ إلى التنصيص على حماية و تنمية اللغة العربية إلى جانب الأمازيغية؛ و مختلف التعبيرات الثقافية المغربية؛ باعتبارها (تراثا أصيلا). هذا الانتقال –في الحقيقة- يدفعنا إلى طرح أكثر من سؤال حول مستقبل اللغة العربية في المغرب؛ خصوصا مع تعالي الأصوات الفرنكفونية من هنا و هناك؛ داعية تارة إلى تعويض العربية بالعامية؛ و داعية تارة أخرى إلى تعويض العربية بالأمازيغية. لكن الخلفية الحقيقية التي تتحكم في هذه الدعوات؛ هي محاولة تهميش اللغة العربية؛ لفتح المجال أمام سيادة اللغة الفرنسية؛ و ذلك لان العامية و الأمازيغية؛ لن تكونا قادرتين على منافستها؛ لأنهما معا لم تتجاوزا بعد الطابع الشفوي التواصلي. إن ما لا يمكن للمغاربة أن يقبلوه في مشروع دستور 2011 هو أن يضع لغة عالمية؛ تعتبر من بين اللغات الستة المعتمدة في الأممالمتحدة؛ و من بين اللغات العشرة الأكثر استعمالا على مستوى شبكة الانترنيت؛ إلى جانب لهجات لا تتوفر على رصيد كتابي –حتى- يؤهلها للقيام بوظيفتها التواصلية على أكمل وجه. كما لا يمكننا أن نقبل اعتبار لغة عالمية حية( تراثا أصيلا)؛ إن العربية لغة تفرض نفسا في عالم اليوم بقوة؛ و هي لا تتطلب منا سوى احترام هذه المكانة؛ التي صنعتها النخب الفكرية و العلمية العربية؛ أما أن نخون نضالات مفكرينا و سياسيينا؛ و نمارس على أنفسنا مازوشية مرضية؛ فهذا ما لن تقبله منا الأجيال القادمة؛ التي ستجد نفسها فاقدة لأصولها الثقافية و الدينية ... التي تمكنها من بناء خصوصيتها بين الأمم . يجب على سياسيينا –إذن- أن يكونوا في مستوى تحيات المرحلة؛ و ألا يلعبوا بالنار؛ لأن هذا اللعب/المغامرة؛ يمكنه في أي وقت أن يأتي على كل ما شيدته الأجيال السابقة علينا؛ و هي تحلم بمغرب يستمد هويته من التاريخ العربي المجيد؛ و يعبر عن هذه الهوية بلغة عربية فصيحة؛ ساهم المغاربة في تطويرها إلى جانب إخوانهم من المشارفة . نحن هنا لا نعارض خطاطة الحقوق و الحريات التي يقوم عليها مشروع دستور 2011 و من هذا المنطلق لا يمكن لحسنا الديمقراطي أن يدافع على انتهاك الحقوق اللغوية لمجموعة من المغاربة؛ و لذلك فإن ترسيم اللغة الأمازيغية يمثل إضافة نوعية لثقافة التعددية و الاختلاف التي يجب أن ندافع عليها في مغرب اليوم. و لكن –لنكن صرحاء- هذا ليس مبررا البتة لفقدان حسنا الاستراتيجي؛ الذي يعتبر أن اللغة العربية في المغرب؛ (غنيمة) تواصل حضاري دام لقرون- و ليست طبعا غنيمة حرب- بين الأمازيغ و العرب؛ و لهذا يجب أن نحافظ على هذه الغنيمة و نطورها؛ لأنها جزء من تاريخنا القديم و الحديث؛ و كذلك رصيد حضاري متميز؛ يحمل قيما سامية؛ ساهمت إلى أبعد الحدود في تشكيل المغرب على الصورة التي نفتخر بها اليوم كمغاربة . ننتظر أن تتحمل الدولة كامل مسؤوليتها؛ في تشريع قوانين تنظيمية واضحة؛ تترجم النص الدستوري؛ الذي يؤكد على الطابع الرسمي للغة العربية؛ كما يؤكد على التزام الدولة بحمايتها و تطويرها و تنمية استعمالها. و هذا يفرض على الدولة إعادة النظر في الواقع اللغوي السائد؛ الذي يقوم على انتهاك النص الدستوري الخاص بترسيم اللغة العربية؛ و ذلك حينما يتم فرض اللغة الفرنسية على المغاربة في القطاعات الحيوية للدولة؛ من دون أي سند دستوري واضح . إننا لا نسعى إلى محاربة الانفتاح اللغوي و الثقافي الذي تعيشه بلادنا؛ لأننا نعتبره مكسبا حضاريا يفتخر به جميع المغاربة؛ و لكن لا يجب أن نسير بهذا الانفتاح إلى حدود انتهاك مقوماتنا الحضارية؛ لان هذا الوضع الخطير الذي يسعى اللوبي الفرنكفوني إلى فرضه على المغاربة؛ يمكنه أن يهدد في أي حين الأمن اللغوي الذي نعم به المغاربة لقرون؛ في توافق تام بين المحافظة على الهوية الوطنية؛ و الانفتاح على الثقافات و اللغات المختلفة . لقد كان المغرب على مر التاريخ؛ معينا حضاريا لا ينضب؛ نجح لقرون في تصدير الثقافة و اللغة و الدين ... لجواره الأوربي و الإفريقي؛ كما مثل لقرون نقطة ارتكاز حضاري في منطقة البحر الأبيض المتوسط. و قد حضرت اللغة العربية دائما كرأسمال ثمين؛ ساهمت إلى أبعد الحدود في تحقيق هذا الإشعاع الحضاري . من هذا المنظور؛ لا يمكن للنخبة الوطنية أن تسمح بتحويل المغرب إلى هامش؛ بعد أن كان يمثل المركز لقرون؛ و عندما نرفض وضع الهامش؛ فإننا نقصد بذلك ألا نتحول إلى مطرح نفايات لفرنسا؛ نستورد البضائع الثقافية المنتهية الصلاحية؛ و العمل على تزوير تاريخ صلاحيتها؛ لإعادة ترويجها في العالم كبضائع صالحة الاستعمال. و على قائمة هذه البضائع (المنتهية الصلاحية) تحضر اللغة الفرنسية؛ التي يسعى اللوبي الفرنكفوني في المغرب إلى تزوير تاريخ صلاحيتها؛ مع أن السوق اللغوية الدولية؛ تؤكد بالأرقام التراجع المريع الذي تعرفه في العالم؛ فهي تحضر دائما في مؤخرة التصنيف؛ و إذا أضفنا إلى ذلك الاختراق اللغوي الأنكلوساكسوني داخل فرنسا؛ يمكن أن نفهم بشكل جيد جدا ما نقصد بانتهاء صلاحية استعمال الفرنسية. إن محافظة المغرب على وضع المركز في منطقة البحر الأبيض المتوسط؛ لن يمر بالتأكيد عبر اللغة الفرنسية؛ التي تفقد تباعا آخر معاقلها عبر العالم؛ و لكنه يمر عبر اللغة العربية التي تعتبر مركز الهوية المغربية؛ بالإضافة إلى الانفتاح على اللغة الإنجليزية؛ التي تفرض نفسها اليوم كلغة تواصل علمي و فكري و حضاري ... عالمي. و هذا يتطلب شجاعة سياسية؛ تمكن صناع القرار السياسي في المغرب؛ من التمييز؛ بين العلاقات الاقتصادية و السياسية الإستراتيجية مع فرنسا؛ و بين التبعية ثقافيا و لغويا و حضاريا لفرنسا؛ و ذلك لان هذه التبعية العمياء لا يمكنها أن تساعدنا في بناء شخصيتنا الوطنية؛ بخصوصيتها العربية/الإسلامية/الأمازيغية/المتوسطية/الإفريقية؛ بل ستفرض علينا بعدا استعماريا واحدا؛ تجسده اللغة الفرنسية؛ ليس باعتبارها لغة تواصل علمي/فكري؛ و لكن باعتبارها سلاح المعركة؛ التي قادها المستعمر الفرنسي؛ لاستئصال جذور هذه الهوية المتعددة المشارب؛ التي ساعدت اللغة العربية و الدين الإسلامي في ترسيخها؛ من خلال الإيمان بالتعددية و الاختلاف و الانفتاح ... 3-2- مشروع أكاديمية محمد السادس للغة العربية بين الإعلان الرسمي و عراقيل الدسترة و التفعيل في إطار التصورات الرسمية لحماية و تطوير اللغة العربية؛ تم إنشاء أكاديمية محمد السادس للغة العربية؛ و معلوم أن هذه الخطوة الهامة تتماشى مع مضامين الميثاق الوطني للتربية و التكوين و خاصة المادة 111 منه التي تنص على إحداث هذه المؤسسة ابتداء من 2000-2001. و هي تطبيق للقرار الوارد في الرسالة الملكية الموجهة في 14 شتنبر 2001 بمناسبة الدخول المدرسي؛ و القاضي بإحداث أكاديمية للغة العربية . و قد جاء في تصريح المتحدث الرسمي باسم القصر الملكي السابق حسن أوريد بعد صدور قرار الإحداث؛ أن هذه المؤسسة التي سيطلق عليها (أكاديمية محمد السادس للغة العربية) سيقتصر دورها على النهوض باللغة العربية التي تمثل "مكونا أساسيا للهوية المغربية الغنية بتعدديتها". وأضاف أوريد أن الأكاديمية "ستعمل على وجه الخصوص على تكريس دور اللغة العربية في التربية والثقافة والعلوم من خلال تأهيلها لمواكبة التطور العلمي والتكنولوجي", كما أن من بين أهداف الأكاديمية "تحديث اللغة العربية وتبسيطها بما يجعلها في متناول كل الشرائح الاجتماعية وكل مجالات الحياة الوطنية". رغم الطبيعة الرسمية لهذا القرار؛ فإن المتتبعين اعتبروا أنه يمثل خطوة في المسار الصحيح و أن هذه المؤسسة؛ ستقوم على الأقل بدور أكاديمي؛ لتطوير و تأهيل اللغة العربية؛ تمهيدا لإدماجها إدماجا حقيقيا في الحياة العامة؛ لتقوم بدوها كلغة رسمية للمغرب. فهذه الخطوة –حسب الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري- تمثل إنجازا تاريخيا كبيرا في سبيل المأسسة اللغوية الفاعلة؛ المرتبطة بسياسة لغوية تتجه إلى الوضوح؛ و الوعي بأهمية النهوض باللغة الوطنية الرسمية في المستوى المطلوب؛ درءا للاختلالات المترتبة عن عدم العناية الكافية بها؛ و خاصة في التعليم و في مختلف مجالات الحياة العامة؛ علاوة على الاختلالات ذات البعد الحضاري؛ أو البعد الاجتماعي/ السياسي . لقد مر من تاريخ التأسيس إلى الآن عقد من الزمن؛ من دون أن تخرج هذه الأكاديمية إلى حيز الوجود؛ و هذا ما يدفعنا دائما إلى التشكيك في القرارات الرسمية؛ التي تظل حبرا على ورق؛ و لعل ما يحير أكثر هو أن الأكاديمية خرجت بقرار رسمي؛ عبر مرسوم ملكي؛ كما اهتمت الهيئة التشريعية بالمشروع؛ من خلال عقد جلسة مجلس النواب يوم 24 أبريل 2003 تم خلالها تقديم مشروع القانون المرتبط بتأسيس الأكاديمية؛ كما تم عقد جلسة نيابية في 17 ماي 2006 بغية مناقشة تفعيل هياكل البحث العلمي بالأكاديمية . 3-3- تصريح وزارة التربية الوطنية .. كشف المستور على الرغم من الطابع الرسمي لأكاديمية محمد السادس للغة العربية؛ فإنها ما زالت مجمدة إلى حدود الآن؛ بل إن وزارة التربية الوطنية خرجت علينا في جواب لها على سؤال شفهي في جلسة برلمانية؛ حول أسباب تأخر إحداث أكاديمية محمد السادس للغة العربية؛ لتؤكد بالمباشر و الصريح؛ أن هذا التأخر الملاحظ؛ في إحداث الأكاديمية يخدم مصلحة الوطن و المنظومة التربوية ! كيف ؟ تجيبنا الوزارة: أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين قد أحدث هذه الآلية، في سياق يرتبط بنهاية القرن الماضي، حيث كانت تتواجد، في كل قطر من الأقطار العربية، مجمعات لغوية تعمل على النهوض بأوضاع اللغة العربية. لكن، وبعد مرور 12 سنة على ذلك، نلاحظ أن أغلب هذه المجمعات اللغوية بالعالم العربي قد دخلت مرحلة فتور إن لم يكن وجودها قد انعدم، باستثناء مجمع الأردن الذي نهض بدور أساسي في عدة مجالات. و تضيف الوزارة موضحة: أن العشرية الأخيرة عرفت تطورا غير مرتقب، بالنسبة للجميع، في مجال التكنولوجيات الرقمية، مما زاد من تعقيد أوضاع اللغة العربية على مستوى التنافسية العالمية !؟ وللإشارة، فإن ما يتداول اليوم على مستوى الأنترنيت، لا تشكل منه مضامين اللغة العربية إلا ما بين 0,1% و 0,2% وبذلك، نجد أنفسنا أمام أوضاع أكثر تعقيدا على مستوى حضور اللغة العربية. و تختم الوزارة تصريحها؛ أنها بصدد إعادة النظر، في هذه الآلية هيكلة وأهدافا ووظائف. إذ ليس الغرض هو إخراج مؤسسة شكلية ذات طبيعة صورية، فقط لنسجل على مستوى المبدأ أن لنا مثل هذه الآلية. ومن ثمة يستحيل علينا أن تتمم مبادرة فقدت جدواها. لكنها تستدرك لتطمئن النفوس بلغة دبلوماسية: و في هذا السياق أؤكد أن هناك فرقا تشتغل بكل مهنية على هذا الموضوع، مستحضرة كل التجارب وتقوم بتقييم مجمعات اللغة العربية على امتداد الأقطار العربية، حيث توجهت هذه الفرق إلى تونس ومصر وسوريا والأردن من أجل الوقوف عن كثب على هذه التجارب واستخلاص الدروس منها. (6) و يعتبر جواب وزارة التربية الوطنية هذا؛ حاسما في إقبار كل المجهودات التي بذلت من أجل إخراج هذه الأكاديمية إلى الوجود؛ و الوزارة تعبر في الأخير عن قرار رسمي للدولة؛ الأمر الذي يؤكد مرة أخرى أن مسألة تأهيل اللغة العربية و دمجها في الحياة العامة؛ هو قرار سياسي أكثر من كونه إداريا؛ و في هذا الصدد يمكن استحضار الضغوط الكبيرة التي يمارسها التيار الفرنكفوني في المغرب؛ و هي ضغوط تعرقل جميع المبادرات الرسمية الهادفة إلى دمج اللغة العربية في الحياة العامة. أما بخصوص التبريرات التي قدمتها وزارة التربية الوطنية؛ فهي تبريرات واهية لا قيمة علمية لها؛ ما عدا التغطية على العراقيل الحقيقية أمام دمج اللغة العربية و دمجها في الحياة العامة؛ و هي عراقيل نعرف جميعا مصدرها الفرنكفوني. و مع ذلك لا بد من الرد على هذه التبريرات –رغم سطحيتها- و الكشف عن تهافتها: فيما يخص التبرير الذي جاء فيه؛ أن العشرية الأخيرة عرفت تطورا غير مرتقب، بالنسبة للجميع، في مجال التكنولوجيات الرقمية، مما زاد من تعقيد أوضاع اللغة العربية على مستوى التنافسية العالمية. يمكن أن نؤكد أن العشرية لأخيرة تعتبر عشرية ذهبية في تاريخ اللغة العربية؛ لأنها حققت قفزة جد هامة في السوق اللغوية الدولية؛ و يمكن التركيز على ثلاث مجالات أساسية؛ حضرت فيها اللغة العربية بقوة: 3-3-1- حضور اللغة العربية في مجال الإعلام خطت اللغة العربية خطوات جبارة؛ كلغة للتواصل الإعلامي دوليا؛ و قد ساهم في ذلك الانتشار الواسع للقنوات الإخبارية العربية الكبرى (الجزيرة-العربية) باعتبارها مصدرا دوليا للخبر و المعلومة؛ و هذا ما شجع معظم القنوات الدولية الرائدة في العالم؛ على تأسيس أقسام عربية ضمن حصص بثها (التلفزيون الألماني- التلفزيون الفرنسي – التلفزيون الروسي ... ) كما أقدمت مؤسسات إعلامية أخرى على تأسيس قنوات تبث باللغة العربية في جميع حصص بثها ( قنوات الحرة؛ قناة البي بي سي؛ قناة العالم ...) . و لعل هذا النجاح الإعلامي الكبير؛ هو ما أهل اللغة العربية؛ لتكون حاضرة ضمن اللغات الحية الأكثر تداولا في العالم. 3-3-2- حضور اللغة العربية على شبكة الانترنت إذا كانت وزارة التربية الوطنية في تصريحها؛ قد أكدت أن ما يتداول اليوم على مستوى الانترنيت، لا تشكل منه مضامين اللغة العربية إلا ما بين 0,1% و 0,2%؛ فإن هذه الإحصائيات غير دقيقة؛ حيث أظهرت أحدث الإحصائيات (2010) أن اللغة العربية تراوحت رتبتها عالميا على مستوى الانترنت؛ بين الرتبة السابعة عند صعود المؤشر؛ و عند الرتبة الثامنة عند هبوطه؛ لكنها مع ذلك حافظت على مكانتها ضمن اللغات العشر الأوائل في العالم؛ و هذا ما يوضحه الرسم البياني التالي: كما يقدم الجدول التالي إحصائيات دقيقة؛ حول استعمال اللغات على شبكة الانترنت؛ و عدد المستعملين: Top Ten Languages Used in the Web ( Number of Internet Users by Language ) TOP TEN LANGUAGES IN THE INTERNET Internet Users by Language Internet Penetration by Language Growth in Internet (2000 - 2010) Internet Users % of Total World Population for this Language (2010 Estimate) English 536,564,837 42.0 % 281.2 % 27.3 % 1,277,528,133 Chinese 444,948,013 32.6 % 1,277.4 % 22.6 % 1,365,524,982 Spanish 153,309,074 36.5 % 743.2 % 7.8 % 420,469,703 Japanese 99,143,700 78.2 % 110.6 % 5.0 % 126,804,433 Portuguese 82,548,200 33.0 % 989.6 % 4.2 % 250,372,925 German 75,158,584 78.6 % 173.1 % 3.8 % 95,637,049 Arabic 65,365,400 18.8 % 2,501.2 % 3.3 % 347,002,991 French 59,779,525 17.2 % 398.2 % 3.0 % 347,932,305 Russian 59,700,000 42.8 % 1,825.8 % 3.0 % 139,390,205 Korean 39,440,000 55.2 % 107.1 % 2.0 % 71,393,343 TOP 10 LANGUAGES 1,615,957,333 36.4 % 421.2 % 82.2 % 4,442,056,069 Rest of the Languages 350,557,483 14.6 % 588.5 % 17.8 % 2,403,553,891 WORLD TOTAL و تؤكد هده الإحصائيات بالملموس؛ مكانة اللغة العربية على الشبكة العنكبوتية؛ حيث تفوقت على الكثير من اللغات الحية في العالم؛ و منها الفرنسية التي جاءت ثامنة في الترتيب بعد اللغة العربية؛ التي احتلت المرتبة السابعة؛ و هي اللغة (الفرنسية) التي تسعى وزارة التربية الوطنية لتسويقها في المغرب؛ كلغة العلم و التقنية ... و هلم جرا ! (7) 3-3-3- العربية كلغة رسمية في الأممالمتحدة تعتبر العربية من بين اللغات الرسمية الستة المعتمدة في أروقة الأممالمتحدة؛ إلى جانب الإنجليزية و الصينية و الإسبانية و الفرنسية و الروسية؛ و قد جاء في القرار الأممي ما يلي: " إن الجمعية العامة إذ تدرك ما للغة العربية من دور هام؛ في حفظ و نشر حضارة الإنسان و ثقافته. و إذ تدرك أيضا أن اللغة العربية هي لغة تسعة عشر عضوا من أعضاء الأممالمتحدة؛ و هي لغة عمل مقررة في وكالات متخصصة؛ مثل منظمة الأممالمتحدة للتربية و العلوم و الثقافة؛ و منظمة الأممالمتحدة للأغذية و الزراعة؛ و منظمة الصحة العالمية؛ و منظمة العمل الدولية؛ و هي كذلك لغة رسمية و لغة عمل في منظمة الوحدة الإفريقية. و إذ تدرك ضرورة تحقيق تعاون دولي أوسع نطاقا؛ و تعزيز الوئام في أعمال الأمم وفقا لما ورد في ميثاق الأممالمتحدة (..) تقرر إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية و لغات العمل المقررة في الجمعية العامة و لجانها الرئيسية؛ و القيام بناء عليه بتعديل النظام الداخلي للجمعية العامة المتصلة بالموضوع. (8) و قد اعتمدت إدارة الأممالمتحدة لشؤون الإعلام قرارا للاحتفال باليوم الدولي للغة الأم؛ الذي يحتفل به في 21 شباط/فبراير من كل عام بناء على مبادرة من اليونسكو للاحتفال بكل لغة من اللغات الرسمية الست للأمم المتحدة؛ و قد تقرر الاحتفال باللغة العربية في 18 كانون الأول/دجنبر؛ باعتباره اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة 3190 (د-28) أكيد أن هذا الاعتراف باللغة العربية كلغة رسمية في الأممالمتحدة ليس منحة يقدمها المنتظم الدولي للعالم العربي؛ خصوصا إذا عرفنا صورة العرب و الإسلام لدى الغربيين المتحكمين في المؤسسات الدولية؛ و لكن الأمر يتعلق بالتسعيرة الدولية التي حصلت عليها اللغة العربية؛ التي يصل عدد المتكلمين بها كليا أو جزئيا إلى مئات الملايين عبر العالم؛ كما تعتبر اللغة الرسمية الأولى في أغنى منطقة في العالم (منطقة الشرق الأوسط)؛ كلها عوامل حاسمة في فرض العربية كلغة عالمية؛ و هذا ما اعترفت به الجمعية العامة للأمم المتحدة نفسها . 4- ترسيم اللغة العربية في المغرب و تحدي الفرنكفونية اعتمادا على هذه المعطيات الواضحة و الدقيقة؛ كيف يمكن تصور أن اللغة العربية تعيش وضعية صعبة اليوم؛ و إذا كان الأمر كذلك؛ فماذا يمكن القول عن مئات اللغات العالمية الأخرى؛ خارج اللغات العشرة الأولى الأكثر استعمالا على مستوى الانترنت؛ و خارج اللغات الرسمية الستة المعتمدة من طرف الأممالمتحدة ؟! إن وضع اللغة العربية اليوم؛ هو الأفضل منذ قرون؛ و الإحصائيات الدولية تؤكد ذلك؛ أما ما يروج –خاصة في الدول العربية الفرانكفونية- من أوهام؛ حول تراجع اللغة العربية؛ و حول ضعفها و عجزها عن مواكبة التطور الحاصل في العالم ... كل هذه الجعجعة الفارغة؛ لا تعدو أن تكون كوابيس إيديولوجية؛ تسكن نفوس أذناب الفرانكفونية؛ سواء في المغرب أو في تونس و الجزائر . و هي كوابيس مرضية لا تلتزم أبسط معايير المنطق الحسابي البسيط؛ ما عدا تلك الحساسية المفرطة تجاه اللغة العربية؛ و هي حساسية كرسها الاستعمار الفرنسي؛ في محاربته للغة العربية؛ باعتبارها تحمل فكرا تحرريا؛ كان أكبر تحد واجهه. و إذا كانت فرنسا قد انسحبت من مستعمراتها عسكريا -على وقع ضربات المقاومة- فإنها عوضت هذا الانسحاب باستعمار ثقافي؛ يعتمد اللغة الفرنسية كسلاح المعركة. فقد كانت فرنسا واعية تمام الوعي؛ بأن تحقيق الاستمرارية؛ في بسط الهيمنة على مستعمراتها؛ لا يمر بالضرورة عبر التواجد العسكري؛ و لكن قد يكون الأمر أقل كلفة و أكثر ربحا؛ من منظور الاستعمار الثقافي. و ما دامت اللغة هي المدخل الرئيسي في أي استعمار بهذا الشكل؛ فإن الأمر كان يتطلب التفكير في الوسائل اللازمة لفرض اللغة الفرنسية على المستعمرات؛ إما كلغة أولى (السنغال مثلا)؛ أو على الأقل كلغة ثانية (نموذج دول المغرب العربي). و حتى تتمكن فرنسا من ترسيخ الهيمنة الثقافية؛ كان من اللازم مواجهة العربية كلغة و ثقافة و حضارة؛ خصوصا و أن تجذر هذه اللغة في وجدان المغاربة؛ كان أكبر من الاختراق الاستعماري؛ حيث وقفت العربية جدارا صلبا في وجه هذا الاختراق؛ من خلال غرس قيم التحرر و الكرامة و الاستقلال ... و هي قيم تتجاوز المستوى الأخلاقي؛ لتحضر كقيم عملية؛ تعمل على تهييء الفرد و الجماعة لمواجهة تحديات الاستعمار؛ القائمة على أساس سلب الحرية و الاستقلال؛ و ممارسة الإهانة؛ و ذلك بهدف تحقيق الإخضاع في الأخير . و بالنظر إلى قوة اللغة العربية في المواجهة؛ فإن الفرنكفونية التي عوضت الحضور الاستعماري الفرنسي؛ دخلت في حرب قذرة ضد جميع مظاهر التعريب؛ و استعملت في ذلك جميع الأسلحة (المحرمة حضاريا) هادفة بشكل مباشر إلى استئصال اللغة العربية من الوجود الثقافي و الحضاري المغربي. و نظرا للحضور القوي للوبي الفرنكفوني في المغرب؛ و الذي يمتلك نفوذا اقتصاديا قويا؛ نظرا لهذا الحضور القوي؛ تواجه اللغة العربية تحديات جمة؛ في ممارسة حقها كلغة رسمية أولى للمغرب كدولة و شعب؛ و يرتبط هذا اللوبي الذي يتشكل من مغاربة و فرنسيين بشبكة من المصالح مع فرنسا؛ تمكنه من بسط سيطرته على قطاعات واسعة في المغرب؛ تتجاوز الاقتصاد إلى الثقافة و التعليم و الإعلام... و تشكل قوة سياسية تدافع عن مصالحها من خلال التأثير على القرار السياسي و توجيهه في الاتجاه الذي يخدم مصالحها. إن الوعي بهذه التحديات الجمة التي تواجه اللغة العربية في المغرب؛ هو الذي يجب أن يستنهض همم النخبة السياسية و الثقافية الوطنية للدفاع عن أهم مكون؛ شكل هويتنا لقرون؛ كما يجب على النخبة المغربية ألا تستهين بالخطر المحدق بلغتنا الوطنية؛ لأن الخطر اليوم أكثر جدية من أي وقت مضى؛ خصوصا و أن فرنسا تتخذ بلدنا ساحة خلفية؛ لمواجهة الاكتساح الثقافي و اللغوي الأنكلوساكسوني الذي أصبح يهددها في عقر دارها. و لعل الحضور القوي للمغرب في منظمة الفرنكفونية؛ ليعتبر أهم مؤشر على هذا الاختراق؛ فرغم الطابع الاقتصادي/المصلحي الذي عادة ما يسعى التيار الفرنكفوني إلباسه لهذا الحضور؛ فإن حقيقة الأمر تؤكد غير ذلك بالتمام. إن جميع دول العالم تربطها علاقات مصالح؛ لكن لا يجب أن نذهب بهذه العلاقات إلى مدى ابعد حتى نغدو ذيلا تابعا لفرنسا في كل شيء؛ نأتمر بأوامرها و ننتهي بنواهيها؛ و هذا هو المدخل الرئيسي لفقدان شخصيتنا الوطنية . *كاتب و باحث أكاديمي الهوامش: 1- جاء التأكيد بنفس الصيغة على الطابع الرسمي للغة العربية؛ في جميع التعديلات الدستورية من 1962 إلى 1996؛ و ذلك على الشكل التالي: المملكة المغربية دولة إسلامية؛ ذات سيادة كاملة؛ لغتها الرسمية هي اللغة العربية. 2- أنظر: بيير بورديو- السوق اللغوية- تر: حسن أحجيج- مجلة فكر و نقد – ع: 20 3- أنظر: الفصل 37 من نص دستور 2011 4- عبد القادر الفاسي الفهري – اللغة و البيئة – منشورات الزمن – ع: 38- ص: 25 5- أنظر الفصل الخامس من نص دستور 2011 6- أنظر جواب وزارة التربية الوطنية على السؤال الشفهي ؛حول مشروع أكاديمية محمد السادس للغة العربية؛ في موقعها الرسمي www.men.dov.ma 7- هذه الإحصائيات التي تقوم بها مجموعة Miniwatts marketing group، هي إحصائيات دورية، ترتكز في مصادرها على أطراف دولية مختصة. 8- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3190 (د-28)- الجلسة العامة 2206- 18 كانون الأول/دجنبر 1973)