الشعب الذي أنجز أول ثورة شعبية في تاريخ العرب المعاصر ومهرها بتوقيعه في الرابع عشر من كانون الثاني 2011، هو أكثر شعوب العرب مسالمة ونبذا للعنف وتشبّعاً بالمعنى العصري للسياسة كتدافع سلميّ، وليس في تاريخ حراكه الاجتماعي والسياسي دماء إلا ما كان من دماء أهرقتها السلطة في انتفاضة العام 1978 أو في مناسبات صدام أخرى بين المجتمع وسلطة 7 تشرين الثاني/ نوفمبر ورصاص أجهزتها. ومع ذلك، ثار الشعب المسالم المتحضر فأسقط الطاغية. إذاً، فالثورة ممكنة حتى في البيئات الاجتماعية التي توحي بأنها أبعد البيئات عن ظاهرة كبيرة مثل ظاهرة الثورة. والنظام القوي بجبروت حاكمه وأجهزة سلطانه، من أمن ومخابرات، وبدعم القوى الأجنبية له (مكافأة على تصفيته الدموية للحركة الإسلامية)، وبصمت الأحزاب عن بطشه وخوف الناس من عسفه، سقط صريعاً في شوارع العاصمة ومدن صفاقس والقيروان ونابل وقابس وسواها وكأنه لم يكن ينشر الرعب. ومعنى ذلك ان سقوط أي دكتاتور أو طاغية لم يعد أمراً في عداد المستحيل ان ارتفع حاجز الخوف وتدفقت الإرادة التي يكيل إليها شاعر تونس (أبو القاسم الشابي)، بنفحة معتزلية، دور صُنع التاريخ (= الحياة). والأجهزة الأمنية التي كانت ترتعد لها فرائض المواطنين، في بلد الثورة الغرّاء، من شدة بطشها بهم وامتهانها لكرامتهم طيلة ثلاثة وعشرين عاما من الكابوس القمعي المديد، هي عينها الأجهزة التي منعت أفرادا من عائلة الطاغية من مغادرة الأراضي التونسية لاتصالها بالفساد، الذي خرّب عمران بلد ابن خلدون. ومعنى ذلك ان الثورة لحظة صانعة لصحوة الضمير حتى لدى من يعتقد الطغاة أنهم جندهم وخدمهم في السراء والضراء. هي، إذاً، حقائق ثلاث تذكّرنا بها الثورة الشعبية في تونس بعد ان كادت حقبة اليأس والحبوط العجفاء تأخذ أذهاننا إلى الذهول عنها: الثورة ممكنة، وسقوط الطواغيت والدكتاتوريات أقرب الى الاحتمال من سقوط المطر في سنوات القحط، وانقلاب الأجهزة على حكامها أشبه بانقلاب الليل على النهار. لا شيء يستحيل مع الإرادة: انها المفتاح السحري لفهم أسرار السياسة ومستغلقاتها. والإرادة ليست الإرادوية لأن الأولى حالة واعية ناضجة والثانية افتعال واصطناع. لا تقف دروس الثورة الشعبية التونسية عند هذا الحد فقط، تفيض تعليماً وإفادة. تقول لنا، مثلا، إن الثورة الاجتماعية إذا كانت ما تزال ممكنة فقط، أو بشكل رئيس، في مجتمع بلغ فيه الوعي السياسي حدا من التراكم والنضج يفتح أفق التغيير المنسد. الدكتاتورية والقمع البوليسي وحدهما لا يكفيان لإطلاق ثورة، قد يغلقان عليها الطريق لأجيال. لا بد لهذه من شرط يسبقها ويفتح لها أسباب الإمكان. درس تاريخي عريق هذا الدرس، لكن تجربة الثورة في تونس تقيم عليه دليلا متجددا. والحق أن معدل الوعي السياسي في تونس أعلى من غيره في معظم المجتمعات العربية. فإلى ان نسبة التعليم عالية في البلاد (لا تقارن بها نسبة التعليم في أي بلد من بلدان المغرب العربي أو مصر)، فإن تونس تتمتع بنخبة ثقافية حية ومبدعة، وحياة أكاديمية رفيعة، مقارنة بجاراتها، ومعارضة سياسية عميقة الجذور. حتى حركتها الإسلامية كانت الأكثر انفتاحا وعصرية ووطنية مقارنة بغيرها من الحركات الإسلامية في البلاد العربية المعاصرة. من يملك ان يجحد ما لهذا الميراث من أثر في توليد تلك الدينامية الذاتية المذهلة في المجتمع التونسي التي أسقطت نظام الطاغية وعهده البوليسي البغيض. لا أتخيل ان نظاما سياسيا نشر الخوف والرعب في المجتمع والناس، وأحصى الأنفاس، وكبت الحريات، وأطلق مافيات النهب والفساد في مقدرات الشعب والوطن مثل نظام بن علي، وبعض من يشبهه ممن يتحسر على رحيله. لقد ابتلينا في الوطن العربي بنظم حكم دكتاتورية اغتصبت السلطة بالحديد والنار والانقلابات العسكرية. لكنها على سوئها جميعاً، وعلى فقرها الحاد إلى الشرعية الدستورية، لم تبلغ في البطش والإرهاب ما بلغه نظام الطاغية المخلوع. لعل الفارق بينها أن النظام البوليسي أشد وحشية من النظام العسكري، ولعل الفارق أمراً آخر لم نتبينه بعد. لكن زمن القهر والقمع، وإن عُمّر وامتد، ينصرم في اللحظة التي يرتفع فيها حاجز الخوف، ويبلغ فيها وعي الناس درجة الشعور بمسؤوليتهم عن صنع مصيرهم بأنفسهم، وتتحقق فيها إرادة العمل المشترك بين القوى الحية في المجتمع لإنهاء الفساد. وهي اللحظة التي انطلقت في الهزيع الأخير من العام الماضي لتصل ذروتها في الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير 2011. الثورة التونسية ثورة شعبية حقيقية وكبيرة ولا تُقاس إلا بنظيراتها الكبيرة في التاريخ كالثورة الفرنسية والثورة الروسية والثورة الإيرانية. هي الثورة الأولى في تاريخ العرب. لكنها قطعاً لن تكون الأخيرة... إذا ما الشعب يوماً أراد الحياة. أستاذ الفلسفة جامعة الحسن الثاني المغرب عن جريدة "السفير" اللبنانية