شكلت الثورة التونسية صفعة كبيرة وُجهت لليبراليين العرب الجدد. جوهر عقيدة هؤلاء وخلاصتها تتمثل في قمع الإسلاميين، وضربهم، واستئصالهم من الحياة السياسية والاجتماعية، والانصياع للغرب ولإسرائيل، والباقي كله مقبول من الحاكم الذي يتقيد بهذه العقيدة ويمشي في هديها. نظام بن علي كان هو النموذج بالنسبة لليبراليين العرب. كانوا يروجون أنه حقق تنمية سريعة، ووفر العمل، والمسكن، والتطبيب للشعب التونسي، وأنه حرر المرأة من كافة أشكال الاضطهاد، وأنه استأصل الإسلاميين ومحقهم من الساحة، فإذن من وجهة نظرهم، فإنه كان نظاما ناجحا، واعتُبر في رأيهم قدوة يتعين أن يقتاد به باقي الحكام العرب. هذا النظام انهار وسقط بسرعة البرق. تبين أنه كان كيانا من ورق. انهياره على يدي الشعب التونسي الذي أسقط رئيسه بن علي من عليائه، وطرده خارج الديار التونسية يؤكد أنه نظام فاشل، وأن رهان الليبراليين العرب عليه كان رهانا خاسرا. بقدر ما تهاوى نظام بن علي، تهاوت معه وفي ركابه النظرية الليبرالية العربية التي تختزل النجاح في وطننا العربي في قمع الإسلاميين وقهرهم. من خلال التجربة التونسية، توضح بالمكشوف وبالملموس، أن بالإمكان استئصال الإسلامين من الساحة، والتغني بذلك، وبيعه للناس كأنه نجاح كبير وباهر، غير أن هذا لا يعني إدراك ما يطلبه الشعب ويتمناه. لقد مثل استئصال الإسلاميين في تونس مدخلا لقهر باقي أطياف الشعب والاعتداء على حرياته الأساسية. إذا قبلنا أن هناك مكتسبات اجتماعية تحققت للتونسيين في عهد بن علي، فمن المفروض أن الشعب التونسي هو الذي حقق تلك المكتسبات، بجهده، وعرقه، وإخلاصه في العمل. الشعب الذي حقق هذه المكاسب وأنجزها، يتعين أن يتمتع، إلى جانبها، بحقوقه المدنية الأخرى، ومن ضمنها، حقه في التعبير عن رأيه، بصحافة حرة، وتكوين أحزاب، ونقابات، وجمعيات للمجتمع المدني مستقلة، وتنظيم انتخابات حرة يختار فيها من يمثله، وأن يكون هناك تداول سلمي على السلطة يغير الوجوه التي تدير شؤونه، وفقا لإرادته. الشعب العامل المنتج المتطور اجتماعيا واقتصاديا، بالقياس إلى دول الجوار، يتعين أن يكون متطورا أيضا على مستوى باقي الحقوق الأخرى. هذه لا ينبغي أن تلغي تلك. حين قام بن علي بتغييب الحقوق المدنية التي صار مطلب التمتع بها أساسيا لكل الشعوب، وتغول في قهر معارضيه، بدعوى التصدي للإسلاميين، دفع ذلك جميع أطياف الشعب للالتفاف والتآزر والتضامن فيما بينها، للثورة ضد استبداده وتكميمه للأفواه وللأنفاس. استبداد الرئيس وقمع حرية النقد والمراقبة الشعبية أنتج الفساد ممثلا في ارتشاء أقرباء الرئيس وأصهاره وسيطرتهم بغير وجه حق على الاقتصاد التونسي. الثورة التونسية أثبت حقيقة لا غبار عليها هي أن للقمع حدودا. وأن كافة مشاكل المجتمعات ينبغي أن تحل في المقام الأول بالسياسة. معاوية بن أبي سفيان قال قرونا قبل هذا العصر: ( إنّي لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها). بن علي اكتفى بالسيف وبالسوط، وقطع الشعرة، فكانت الثورة، وإنها لعبرة..