لا يزال ورش المنوغرافيات في تاريخ المغرب براهنية وأهمية وهّاجة، على أساس ما يمكن أن يضيفه هذا النهج للخزانة المغربية من نصوص تاريخية بقيمة مضافة بحثاً وتنقيباً وتحليلاً وجِدَّة. وما أكثر قضايانا التي لا تزال بحاجة لمقاربات وفق ما ينبغي من ببليوغرافيا وأرشيف أكثر تأسيساً لمعرفة تاريخية علمية، لعل منها ما يرتبط بزمن مغرب نهاية القرن التاسع عشر وفترة الحماية. وفي علاقة بمطلع القرن الماضي يسجل أن من مظاهر علاقة مخزن نهاية القرن التاسع عشر بالقبائل، ما عرفته البلاد من وضع داخلي صعب استمر لِما بعد فترة حكم الحسن الأول الذي توفي فجأة أثناء رحلة له، وهو ما كان بتخوف شديد من قِبل حاجبه مما قد يحدث. وعليه، أمر بطلي الجثة بمساحيق للتمويه وربطها في محمل لإكمال رحلة عودةٍ بأمان، آخذاً مكانه أمامه مُظهراً لمرافقيه أنه يتلقى أوامر سلطانية إلى حين بيعة مولاي عبد العزيز الذي أثارت خلافته انشقاقات داخل المخزن، عمقها تردي وضع البلاد لِما حصل من أزمات طبيعية استفحلت مع بداية عهده في وقت كان المخزن يواجه صعوبات توطيد سلطته، الوضع الذي يمكن تفسيره بما أفرزه التسرب الأوربي من تفقير وما توفر لمحرومين من رغبة عصيان عمقتها ضريبة الترتيب مثلما حصل مع حركة الزرهوني. ولاغرابة في توجه المجتمع لمنقذين في ظل أوضاع صعبة وبالتالي بروز حركات تمرد استغلت أزمات اجتماعية مثلما حصل مع الزرهوني، الذي تقمص شخصية مولاي امحمد ابن الحسن الأول انطلاقاً من تازة. ولعل هذا الشهير ب(بوحمارة) الذي شغل مخزن مغرب ما قبل الحماية، كان ينتمي لفرقة ولاد يوسف بزرهون عمل في سلك أعوان القايد عبد الكريم بفاس ومع خليفة السلطان عمر بن الحسن الأول، بل كان من مرافقي المهدي المنبهي الذي تولى الوزارة فيما بعد. وكان قد انتقل في بداية أمره إلى قبيلة الحياينة شرق فاس حيث صادف بإحدى مواسمها الدينية بعض أعيان قبائل تازة، ليبدأ بنشر أفكاره حول رفض طاعة سلطان البلاد قبل انتقاله فيما بعد لمجال قبيلة غياتة بأعالي ايناون بعيداً عن فاس شرقاً حيث الجبل والمناعة، للدعوة لنفسه على أنه ابن السلطان الحسن الأول الأكبر. حيث أقدم على شراء سبعة ثيران سود تم ذبحها في مشهد سيدي محمد ببن الحسن بموسم قبيلة الحياينة، وجلس مستغلا ايقاع الموسم الديني وقد امتلأ بالناس فصار يتحدث للملتفين حول وضع البلاد ويوزع اللويز على الحضور. وقد قام بعض غياتة والحياينة بمبايعته فأركبوه على فرس وأعطوه فسطاطاً، قبل التوجه به الى تازة بعدما فر عاملها عبد السلام الزمراني المعروف بابن شكًراء. وكانت حركة الزرهوني زوبعة واسعة ارتبطت بإشاعات تبناها بعض علماء فاس حول ظهور مهدي منتظر، ولوقف ما حصل من بلبلة بما يخدم استقرار البلاد أصدر علماء فاس فتوى محذرين المجتمع من انجرافه وراء تيار يروم سفك دماء المسلمين وإضاعة المال وانتهاك الأعراض، ولعل تدخل العلماء في شأن البلاد يعكس واقعَ عدمِ استقرارٍ واجهه المخزن في زمن تقوت فيه الأطماع الاجنبية على حدود البلاد. وكان الزرهوني بدهاء كبير ودراية بوضع المخزن وبخطة منذ البداية قصد الاستيلاء على الحكم وكسب شرعيته، لدرجة أنه عمل على تقليد مولاي امحمد الذي كان ينعت بالأعمش لوجود عاهة بإحدى عينيه، لايهام الناس وحتى يتظاهر أمامهم بصحة انتمائه للمخزن وهو ما تأكد من خلال رواية صهره القائد بن شلال. ولضمان تواصله مع الفرنسيين والإسبان كان الزرهوني انطلاقاً من تازة في ارتباط بحدود المغرب الشرقية، بالمقابل كان مولاي عبد العزيز برد فعل قوي تجاه فرنسا متهماً سلطاتها في الجزائر بأطماع ترابية في البلاد، من خلال دعمها للثائر وإغراء القبائل بإتباعه كذا مضايقتها للجيش المغربي في مواجهة الفتنة. اضافة لِما كان عليه الفرنسيون بحدود البلاد من تشجيع للتجار على التعامل معه ومع أتباعه، بحيث لمَّا كانت تقع بعض حوادث المعاملات كانوا يطالبون بتعويضات كبيرة تزايدت بتزايد تعرض المغرب للمتعاملين مع الزرهوني الذي نشر نفوذه من وادي ملوية حتى قبيلة بني ورياغل وخليج الحسيمة. ونظراً لانشغال فرنسا بالوضع وجهلها بشخصية الزرهوني، وفي اطار مهمة استعلامية تم تكليف أحد مغامريها "ريجيلوندكان" بالتوجه الى تازة 1903 للوقوف بعين المكان على الوقائع، وكان تقرير هذا الأخير قد جاء بمثن جمع بين وصف واستعلام ومقارنة وسخرية. ورغبة من الزرهوني في الدعاية لنفسه سمح لضيفه الفرنسي هذا بجمع كل ما يتعلق بحركته ورجاله ومجال نشاطه، معتقداً أن ذلك سينشر على نطاق واسع في صحافة اروبا وبالتالي ظهوره ليس مجرد مسؤول عادٍ بل سلطاناً في خدمته وزراء وعسكريين أحسن مما هو بفاس. ومن جملة ما ورد في تقرير"ريجيلوندكان" أن الزرهوني قدمه في حفل استقباله بتازة على أنه قنصلاً بعدد من الدول، وأنه أثناء اللقاء به دخل فارس يحمل رسالة فضل الزرهوني قراءتها أمامه علانية وقد تضمنت مل قيل حول استسلام قبائل في تافيلالت ومراكش. وأنه قدم له رجلا على أساس أنه كان أميناً للمال في عهد الحسن الأول باعتباره الوحيد الذي يعرف أين توجد ثروة هذا الأخير بفاس، اضافة الى اطلاعه على أسرى مقيدين مشيراً له أنه لم يتعود على استقبال الأجانب وأن هذا استثناء وذلك حتى يظهر بمكانة سياسية لدى فرنسا. والمثير فيما تضمنه تقرير"ريجيلوندكان" في علاقة هذا الملف بأطماع فرنسا في البلاد، كون المترجم الرئيسي للزرهوني كان جزائرياً من وهران وأول من استقبله بتازة في البداية، وأن من كبار الموظفين الذين كانوا بجواره بمقر اقامته بتازة هناك عبد المالك الجزائري الذي كان مراقباً قبل أن يتحول الى وزير حرب فيما بعد. وكان من أهداف فرنسا عدم إلحاق الهزيمة بالزرهوني بل الحفاظ عليه، وما حصل من توغل ترابي فيما بعد أثبت تفهم هذا الأخير لأطماع فرنسا في المغرب بحيث لم يحرك ساكناً عند احتلال وجدة 1907. بل أقدم بعدما تبين له أن المخزن لم يعد قادراً على مواجهته منذ 1906، على إبرام صفقات تجارية مع الفرنسيين والإسبان الذين استغلوا حاجته للمال والسلاح. وبخلاف دهاء الفرنسيين أعلن الإسبان تأييدهم للزرهوني مقابل اعترافه ببقائهم في مليلية وهو ما كان بأثر في رفع معنوياته ودعمه، واستهداف إضعاف اسبانيا للمغرب بهذا الموقف كان بهدف سيطرتها على أطراف من شمال شرق البلاد. وسواء الفرنسيين أو الإسبان فقد كانا معاً يعملان على استغلال مواجهة المخزن للزرهوني لبسط نفوذهما باقتطاعهما أجزاء من البلاد مثلما حصل في وجدة والدار البيضاء والجنوب، وكان قصدهما إضعاف المخزن وإبعاده عن القضايا الأهم وإفراغ ماليته في مواجهة فتن داخلية من أجل تعميق استدانته واستعانته بالخارج. وتبقى قضية الزرهوني كتاريخ وذاكرة تاريخية مغربية بعيداً عن أن أي تسطيح مدرسي، من أساليب كيدٍ استعماري عجل باحتلال البلاد لكونها نشأت في كنف أطماع فرنسية واسبانية أرغمت المغرب على قروض وضعه في حافة انهيار، بسبب كلفة تصديه لها في زمن كان فيه وجهاً لوجه مع توغلات ترابية أجنبية. وحتى تتمكن فرنسا من تحقيق أطماعها إثر انقطاع طريق فاسوجدة بسبب أحداث الزرهوني، لجأت لاستغلال بروتوكولات تخص التعاون بينها وبين المغرب في مجال الشرطة والتجارة والجمارك بحدود البلاد الشرقية. حيث أقدمت على مضاعفة نقاط احتلالها مستغلة ما كان يروجه فريقها الاستعماري حول ما قيل أنها فوضى مغربية مهددة لمنطقة وهران داعية لاحتلال البلاد لإعادة الهدوء إليها. وكان حدث 1909 البارز هو نهاية الفقيه الزرهوني الذي اتخذ من تازة مقراً له بعد إلقاء القبض عليه في بني زروال شمال فاس لما كان في طريقه متسللاً عبر دار الضمانة ربما باتجاه طنجة حيث التمثيليات الدولية، وهو ما اعتبرته فرنسا حدثاً مؤثراً على استقرار المنطقة ومهدداً لمصالحها ولعله ما جعل ليوطي يضاعف من عنايته بمجال تازة وممرها الاستراتيجي. وبعد أسابيع من اعتقاله أسر قنصل ألمانيا في إحدى الليالي لشخص يدعى ادريس منو كان يجالس الزرهوني في البيت الذي سُجن فيه بفاس، أن يعلم السلطان بأن قناصل الدول سيأتون اليه غداً ليطلبوا منه اطلاق صراحه الخبر الذي دفع للأمر بقتله وقطع رأسه وأحراق جثته. ولم تكن نهاية الزرهوني تعني أن مصاعب مولاي عبد الحفيظ في الحكم قد انتهت بانتهائه، فخلال هذه الفترة تحديداً دجنبر 1909، اهتز السلطان مجدداً بعصيان جديد قاده أخوه مولاي الكبير في تازة، وكان قد أرسله أخوه مولاي عبد العزيز على رأس أول محلة لمحاربة الزرهوني بها. وضع دفع المخزن لإرسال قوات من عشرة آلاف رجل تجاه القبائل المحيطة بوادي ايناون، وبما أن ما تم إرساله من تعزيزات لعدة مرات لم يتحقق معه أي شيء ميدانياً، تم تنظيم محلة اعتمدت أسلوب سلبٍ ونهبٍ وإحراقٍ لِما في دواوير المنطقة وأسواقها الى جانب اعتراضها للقوافل. وقد ورد أن مولاي الكبير التحق بالجبال في محاولة لبلوغ عرش البلاد، وكان مولاي عبد الحفيظ قلقاً من تحركات أخيه الذي تردد كثيراً في طلب العفو من أخيه بعدما صودرت أملاكه. وأثناء إعداد محلة مخزنية للتوجه الى شرق البلاد بعد تحقيق الانتصار على الزرهوني، ولما عُلِم أن قائد المحلة هو"سي محبوب" أحد الأقرباء من جهة الأم لمولاي الكبير الذي كان بتازة في 1909، عُوض هذا القائد ب"عمر بن العبدي" خليفة وزير الحرب وقريب الكًلاوي خوفاً من انضمامه إليه. وقد زاد مولاي الكبير من إثارة الشك حول وضع البلاد السياسي والأمني، عندما بايعته قبائل الحياينة واتسول والبرانس ومكناسة بتازة. وعلى إثر توجه مولاي الكبير نحو وجدة ودخوله المنطقة الفرنسية وما تسبب فيه من حرج بين السلطات الفرنسية ومولاي عبد الحفيظ، تم نقله من وهران عبر طنجة باتجاه فاس بعدما ضمنت فرنسا حمايته، وما ظل عليه مولاي الكبير من خوف رغم الضمانات جعله يتجه الى بلاد الأنجرة شمال البلاد، قبل أن تتم مطاردته واعتقاله واقتياده نحو فاس رغم الحماية الفرنسية ليظل أسيراً بدار المخزن بعد إنهاء تحركه في أواسط خريف 1910. وإذا كانت أطماع فرنسا في مغرب مطلع القرن الماضي قد اعتمدت مخططاً انبنى على إفقار البلاد وتفكيك بنيتها القبلية وإضعاف موقف المخزن بتحميله مسؤولية ما حصل، فإن ما حصل من تمردات من صنعها مثلما حصل مع الزرهوني انطلاقاً من تازة لا تزال بحاجة لمقاربات في اطار منوغرافي أكثر بناء وتأسيساً، وعياً بأن التاريخ عِبر وباطن ونظر وتحقيق وفق طرح ابن خلدون. وكان عبد الله العروي في "الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية" بإفادة على درجة عالية من الأهمية بذكاء المؤرخ حول هذه الفترة الحرجة من تاريخ المغرب المعاصر، لمَّا أورد أن ما سمي بالفوضى المغربية التي تداولتها الأدبيات الكولونيالية على نطاق واسع(1900)، تعني وضع لا نظام ولا أمن وتفسر أشكال تدخلات سياسية وعسكرية مضيفاً أن هذه هذه الفوضى قامت على مفهومين متباينين سياسي وانتروبولوجي. وحول قضية الفقيه الزرهوني كذاكرة تاريخية مغربية، أشار العروي الى أن دور فرنساواسبانيا ودور السلطات الفرنسية بوهران في حركته لا تزال بحاجة لبحث وتنقيب، مضيفاً أن ببليوغرافيا الإشكال غير متوفرة بل مهملة ومتقطعة ومتفاوتة القيمة. مع أهمية الاشارة الى صعوبة القفز على حركة الفقيه الزرهوني كذاكرة من خلال تسطيح تناولها ووقعها وموقعها وابقاءها في اطارها المدرسي. عضو مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث