مع مطلع يوم الخميس 9 شتنبر 1909، الموافق للثالث والعشرين من شهر شعبان من عام 1327، تم إعدام الجيلالي بن عبد السلام اليوسفي الزرهوني، المشهور في مغرب مطلع القرن العشرين بكنية «بوحمارة» وبلقب «الروكَي». اضطر يومها السلطان المولى عبد الحفيظ إلى إصدار أوامره المطاعة بإعدام «الفَتَّان» في مشور بلاطه العامر بفاس. طيلة سبع سنوات، وبينما جموع المغاربة تتابع أصداء ما يقوم به الروكَي عبر الروايات الشفوية، أو عبر ما يردده «البرَّاحون» أو ما يتسلل إلى علمها من مضمون الإرساليات المخزنية حول «فتنة بوحمارة»، اكتشف الرأي العام الأوروبي وجود الرجل وعلم ببعض أخباره عن طريق الصحافة والمجلات الأوروبية، وتابع أخباره بشغف لم يكن يعادله سوى حجم أطماع حكومات القارة العتيقة الرامية إلى احتلال المغرب. وتتضمن السلسلة هذه مجموعة من هذه المقالات الغربية التي صاغها صحفيون و كتاب عاصروا الروكَي بوحمارة. نتابع في حلقة اليوم كذلك، قراءة ما كتبه أوبان في 10 فبراير 1903 عن بوحمارة ومحاولات المخزن للقضاء على انتفاضته، وذلك ضمن الفصل الذي خصصه للروكَي كتابه : «بسرعة، تم جمع عدة فيالق وإرسالها إلى وادي نهر إيناون لمساندة مْحلة مولاي الكبير، وذلك تحت قيادة شريفين من العائلة المالكة، مولاي محمد ومولاي عبد السلام لمراني، إضافة إلى أخ وزير الحرب بنفسه، سي العباس المنبهي. ورغم استقلالية المحلات الأربعة عن بعضها البعض، فقد كان عليها تنسيق عملياتها، علما أن عدد جنودها الإجمالي بلغ خمسة عشر ألف رجل. ومع وصول الجيش الشريف إلى ساحة العمليات، على بعد حوالي مائة كيلومتر من العاصمة، انطلق، كما تقضي بذلك العادة، في القيام بصوكَات متكاسلة. ونظرا لاستفحال الخلافات بين قادته، الشريفان من جهة وغير الشريف من جهة ثانية، فقد فوجئ الجنود، مساء 22 دجنبر، أي في نهاية رمضان، وهم يعودون إلى المخيم لتناول وجبة الإفطار، بفرسان غياثة مسيطرين على الموقع المهجور، بدون مقاومة تقريبا. وفي المعكسر، وجد خيالة القبيلة المنتفضة الأكل جاهزا، والخيام منصوبة، ومدافعا، وبنادق، ودخيرة، وإماء زنجيات لكبار الرؤساء، ونسوة بيضا بسيطات غنمهن المحاربون العاديون. أجل، فجأة وكما لو أن الأمر نتيجة تعزيم، اختفى الخمسة عشر ألف مجند مخزني. مر يومان، فشرع الفارون في الوصول إلى فاس، حيث خلقت حالتهم هلعا مروعا، فهم يرتدون مجرد أسمال ومجردون من السلاح. وبالفعل، لم يكتف الحياينة الحقودون بمساعدة غياثة سريا خلال احتلالها المعكسر، بل طاردوا المنهزمين ونهبوهم. هذه الواقعة فتحت طريق فاس أمام الروكَي ، بشكل يسمح له، شرط التحرك بسرعة، بإخضاع العاصمة الأولى للإمبراطورية والمخزن لسلطته، بل والسلطان نفسه. «لكن الوقائع ستتكفل بسرعة بإبراز إحدى السمات المميزة للحروب المغربية، حيث لا تتمثل غاية المواجهات العكسرية إطلاقا في تحقيق هدف استراتيجي، بل في التأثير على مسار المفاوضات فقط. ومن ثمة، وبدل المضي قدما نحو فاس، عاد الروكَي إلى تازا حيث احتفل ب»العيد الصغير» في أبهة إمبراطورية، وفي الوقت ذاته، وسعيا إلى تمتين علاقاته مع قبيلة غياثة، عقد قرانه على فتاة منها منحدرة من فخدة أهل الطاهر القوية. والأمر هذا مقضي، راسل الروكَي جميع القبائل الشرقية داعيا إياها إلى الانضمام إليه، ثم نظم مخزنا، وأقام مْحلة مستغلا ما غنمه من المعسكر الشريف، فكان أن وجد المغرب نفسه بحكومتين، واحدة شرعية وأخرى ثورية. يتوفر بوحمارة اليوم فعلا على أتباع كثيرين، كما أن جميع قبائل واد إيناون، منتمية لجبالة كانت أو للبربر، تنزع إلى اعتناق دعوته، رغم حفاظها على علاقات احتياطية مع المخزن. ومع ذلك، فمشاركة جنود هذه القبائل في حملات المطالب بالعرش تميزت بعدم الاستمرارية، لتبقى قوته الضاربة الفعلية مكونة من أنصاره الأوائل، غياثة. ويشاع كذلك أن قبائل شرق المغرب مستعدة لدعم بوحمارة، كما أن بعض قبائل جبالة، رغم تحفظها المعروف، وجدت الفرصة سانحة لتصفية حسابات قديمة، فهاجمت قبائل بلاد المخزن المجاورة لها، مما خلق تخوفات حول انضمامها النهائي لصفوف المنتفضين. أما الحياينة، المستقرين في السهل، فقد نفذ صبرهم جراء تزويدهم طرفي النزاع، طوال ثلاثة أشهر، بالرؤوس المقطوعة والماشية المسلوبة، فألحوا على الطامع في العرش كي تتقدم مْحلته وتعسكر خارج حدود أراضيهم. ولذا، لم يجد بوحمارة بديلا عن الاستقرار في خميس الكَور، على بعد ست ساعات من فاس، بل إنه انتقل إلى ثْلَيّْثَة النخلة، التي لا تفصلها عن المدينة سوى أربع ساعات. وبفعل مجمل هذه العوامل، وجد الروكَي نفسه على مرمى حجر من العاصمة، شهرا بعد انتصاره الكبير، وكان أول احتكاك بين جيشيهما، في حالة غلبة المعارضين، سيرهن مآل شمال الإمبراطورية جميعه. «من جهته، لم يظل المخزن مكتوف الأيدي، إذ بمجرد انقشاع سحابة ذهوله، استجمع أتباعه، أي حوالي عشرة ألف رجل، ممن لجأوا إلى داخل أسوار حي بوجلود. أما ثلث الجند السابقين، فقد انتهزوا الفرصة للفرار، بينما التحق كل رجال الغرب تقريبا بقبائلهم، لتبقى الفيالق البربرية، ومعها فيالق الحوز، وفية ومجندة بمفردها. وعلى مستوى آخر، حول تنامي أعداد الفارين من الجندية، نواحي فاس إلى مناطق غير آمنة، كما انتاب الخوف الجالية الأوروبية المحدودة المقيمة بالمدينة، فرحلت عنها مثل سربة عصافير. وفي الحقبة ذاتها، اعتبرت البعثتان البروتستانتيان في العاصمة، البعثة الإنجليزية والأمريكية، الظرف غير ملائم لمواصلة التبشير، بينما هجر ثلاثة ألمانيين أعمالهم وإيطاليان معمل السلاح. وبفعل هذا، لم يستمر مستقرا بالعاصمة غير فرنسيين وإنجليزيين لا يتجاوز عددهم اثني عشر فردا، ربما بسبب انتفاعهم أكثر من الآخرين، أو بسبب إلمامهم أفضل بشؤون المغرب.»