من مظاهر علاقة مخزن مغرب نهاية القرن التاسع عشر بالقبائل ما سجل من عصيان ارتبط بوضع داخلي استمر لِما بعد فترة حكم الحسن الأول، الذي توفي بشكل مفاجئ أثناء رحلة له وسط البلاد؛ وهو ما كان بتخوف شديد من قِبل حاجبه حول ما قد يحدث من عدم استقرار. وعليه، تجنباً لكل سوء أمر بطلي الجثة بمساحيق للتمويه وربطها في محمل لإكمال رحلة عودةٍ بأمان، آخذاً مكانه أمامه مُظهراً لمرافقيه أنه يتلقى أوامر سلطانية، ضماناً لاستقرار البلاد إلى حين بيعة مولاي عبد العزيز، الذي أثارت خلافته انشقاقات داخل المخزن عمقها تردي وضع البلاد لِما حصل من أزمات طبيعية استفحلت مع بداية عهده، في وقت كان المخزن يواجه فيه صعوبات توطيد سلطته بعد وفاة الحسن الأول، ما يمكن تفسيره بما أفرزه التسرب الأوروبي من تفقير وما توفر لمحرومين من رغبة عصيان عمقتها ضريبة الترتيب مثلما حصل مع حركة الفقيه الجيلالي الزرهوني. ولا غرابة في توجه المجتمع والحالة هذه إلى منقذين في ظل أوضاع صعبة، وبالتالي بروز حركات تمرد استغلت أزمات اجتماعية مثلما حصل مع الزرهوني الذي تقمص شخصية مولاي امحمد ابن الحسن الأول انطلاقاً من تازة. ولعل هذا الشهير ب(بوحمارة) الذي شغلت جبهته مخزن مغرب ما قبل الحماية، كان ينتمي إلى فرقة ولاد يوسف بزرهون عمل في سلك أعوان القايد عبد الكريم بفاس ومع خليفة السلطان عمر بن الحسن الأول، بل كان من مرافقي المهدي المنبهي الذي تولى الوزارة فيما بعد. وكان قد انتقل في بداية أمره إلى قبيلة الحياينة شرق فاس حيث صادف بأحد مواسمها الدينية بعض أعيان قبائل تازة، ليبدأ بنشر أفكاره حول رفض طاعة سلطان البلاد قبل انتقاله فيما بعد إلى مجال قبيلة غياتة بأعالي ايناون بعيداً عن فاس شرقاً حيث الجبل والمناعة، للدعوة لنفسه على أنه ابن السلطان الحسن الأول الأكبر. أقدم على شراء سبعة ثيران سود تم ذبحها في مشهد سيدي محمد ببن الحسن بموسم قبيلة الحياينة، وجلس مستغلا ايقاع الموسم الديني وقد امتلأ بالناس فصار يتحدث للملتفين حول وضع البلاد ويوزع اللويز على الحضور. وقد قام بعض غياتة والحياينة بمبايعته فأركبوه على فرس وأعطوه فسطاطاً، قبل التوجه به إلى تازة بعدما فر عاملها عبد السلام الزمراني المعروف بابن شكًراء. وكانت حركة الزرهوني زوبعة واسعة ارتبطت بإشاعات تبناها بعض علماء فاس حول ظهور مهدي منتظر، ولوقف ما حصل من بلبلة بما يخدم استقرار البلاد أصدر علماء فاس فتوى محذرين المجتمع من انجرافه وراء تيار يروم سفك دماء المسلمين وإضاعة المال وانتهاك الأعراض، ولعل تدخل العلماء في شأن البلاد يعكس واقعَ عدمِ استقرارٍ واجهه المخزن في زمن تقوت فيه الأطماع الاجنبية على حدود البلاد. وكان الزرهوني بدهاء كبير ودراية بوضع المخزن وبخطة منذ البداية قصد الاستيلاء على الحكم وكسب شرعيته، لدرجة أنه عمل على تقليد مولاي امحمد الذي كان ينعت بالأعمش لوجود عاهة بإحدى عينيه، لإيهام الناس وحتى يتظاهر أمامهم بصحة انتمائه إلى المخزن؛ وهو ما تأكد من خلال رواية صهره القائد بن شلال. وكان للزرهوني انطلاقاً من تازة ارتباط شديد بحدود المغرب الشرقية لضمان تواصله مع الفرنسيين والإسبان. بالمقابل كان مولاي عبد العزيز برد فعل قوي تجاه فرنسا متهماً سلطاتها في الجزائر بأطماع ترابية في البلاد، من خلال دعمها للثائر وإغراء القبائل بإتباعه كذا مضايقتها للجيش المغربي في مواجهة الفتنة. إضافة لِما كان عليه الفرنسيون بحدود البلاد الشرقية من تشجيع للتجار على التعامل معه ومع أتباعه، بحيث لمَّا كانت تقع بعض الحوادث في المعاملات كانوا يطالبون بتعويضات كبيرة تزايدت بتزايد تعرض المغرب للمتعاملين مع الزرهوني الذي نشر نفوذه من وادي ملوية حتى قبيلة بني ورياغل وخليج الحسيمة. وبقدر ما استنزفت حركة الزرهوني المخزن وماليته لمحاولاته شراء وساطة شرفاء وزوايا لاستغلال نفوذها لإقناع قبائل تازة بإنهاء دعمها لها، فضلاً عن عدم تأسسها على دعوة دينية أو عصبية قبلية أو نداء جهاد، بقدر ما تعدى حجمها حجم الفتن العادية ولم تنته بما آلت إليه انتفاضات عدة بمجرد تحرك جيش المخزن ووسطائه. مع أهمية الإشارة إلى ما ساندها من قبائل كانت مستاءة من ضغط الجباية وأخرى سراً كما قبيلة ولاد جامع وشراكًة، إضافة لِما انظم إليها من عسكر ساخط على ما كانت عليه البلاد من وضع صعب. إضافة لِما زاد من قوة الحركة من شائعات عن سلطان صار يلقب ب"ابن التركية"، وما وفرته فرنسا وإسبانيا لها من مال وسلاح خاصة لما استقر الزرهوني بمنطقة سلوان بالريف الشرقي غير بعيد عن مليلية والجزائر بعد طرده من تازة. وبسبب اتساع مجال تمرد الزرهوني الذي سيطر على المغرب الشرقي متخذاً تازة مقراً له، كان جيش المخزن يتدخل أحياناً انطلاقاً من الجزائر بعد استئذان الحكومة الفرنسية للنزول بنقاط بحرية غير بعيد عن الحدود المغربية، مع أهمية الإشارة إلى ما كان هناك من غض الطرف الفرنسي حول اقتناء الزرهوني لمستلزمات جيشه إما من الجزائر أو عبر مليلية. ونظرا لانشغال سلطات فرنسا بالوضع وجهلها بشخصية الزرهوني، وفي إطار مهمة استعلامية تم تكليف أحد مغامريها "ريجيلوندكان" بالتوجه إلى تازة 1903 للوقوف بعين المكان على الوقائع، وكان تقرير هذا الأخير قد جاء بمتن جمع بين وصف واستعلام ومقارنة وسخرية. ورغبة من الزرهوني في الدعاية لنفسه سمح لضيفه الفرنسي هذا بجمع كل ما يتعلق بحركته ورجاله ومجال نشاطه، معتقداً أن ذلك سينشر على نطاق واسع في صحافة أوروبا وبالتالي ظهوره ليس مجرد مسؤول عادي بل سلطاناً في خدمته وزراء وعسكريين أحسن مما هو بفاس. ومن جملة ما ورد في تقرير "ريجيلوندكان" أن الزرهوني قدمه في حفل استقباله بتازة على أنه قنصل بعدد من الدول، وأنه أثناء اللقاء به دخل فارس يحمل رسالة فضل الزرهوني قراءتها أمامه علانية وقد تضمنت مل قيل حول استسلام قبائل في تافيلالت ومراكش. وأنه قدم له رجلا على أساس أنه كان أميناً للمال في عهد الحسن الأول باعتباره الوحيد الذي يعرف أين توجد ثروة هذا الأخير بفاس، إضافة إلى اطلاعه على أسرى مقيدين مشيراً له إلى أنه لم يتعود على استقبال الأجانب وأن هذا استثناء وذلك حتى يظهر بمكانة سياسية لدى فرنسا. والمثير فيما تضمنه تقرير"ريجيلوندكان" في علاقة هذا الملف بأطماع فرنسا في البلاد، كون المترجم الرئيسي للزرهوني كان جزائرياً من وهران وأول من استقبله بتازة في البداية، وأن من كبار الموظفين الذين كانوا بجواره بمقر اقامته بتازة هناك عبد المالك الجزائري الذي كان مراقباً قبل أن يتحول إلى وزير حرب فيما بعد. وكان من أهداف فرنسا عدم إلحاق الهزيمة بالزرهوني بل الحفاظ عليه، وما حصل من توغل ترابي فيما بعد أثبت تفهم هذا الأخير لأطماع فرنسا في المغرب بحيث لم يحرك ساكناً عند احتلال وجدة 1907. وأقدم، بعدما تبين له أن المخزن لم يعد قادراً على مواجهته منذ 1906، على إبرام صفقات تجارية مع الفرنسيين والإسبان الذين استغلوا حاجته للمال والسلاح. وبخلاف دهاء الفرنسيين أعلن الإسبان تأييدهم للزرهوني مقابل اعترافه ببقائهم في مليلية؛ وهو ما كان بأثر في رفع معنوياته ودعمه، واستهداف إضعاف إسبانيا للمغرب بهذا الموقف كان بهدف سيطرتها على أطراف من شمال شرق البلاد. وسواء الفرنسيين أو الإسبان، فقد كانا معاً يعملان على استغلال مواجهة المخزن للزرهوني لبسط نفوذهما باقتطاعهما أجزاء من البلاد مثلما حصل في وجدة والدار البيضاء والجنوب، وكان قصدهما إضعاف المخزن وإبعاده عن القضايا الأهم وإفراغ ماليته في مواجهة فتن داخلية من أجل تعميق استدانته واستعانته بالخارج. وتبقى قضية الزرهوني كتاريخ وذاكرة تاريخية مغربية بعيداً عن أن أي تسطيح مدرسي، من أساليب كيدٍ استعماري عجل باحتلال البلاد لكونها نشأت في كنف أطماع فرنسية وإسبانية أرغمت المغرب على قروض وضعه في حافة انهيار، بسبب كلفة تصديه لها في زمن كان فيه وجهاً لوجه مع توغلات ترابية أجنبية. وحتى تتمكن فرنسا من تحقيق أطماعها إثر انقطاع طريق فاسوجدة بسبب أحداث الزرهوني، لجأت إلى استغلال بروتوكولات تخص التعاون بينها وبين المغرب في مجال الشرطة والتجارة والجمارك بحدود البلاد الشرقية، حيث أقدمت على مضاعفة نقاط احتلالها مستغلة ما كان يروجه فريقها الاستعماري حول ما قيل إنها فوضى مغربية مهددة لمنطقة وهران داعية إلى احتلال البلاد لإعادة الهدوء إليها. وكان حدث 1909 البارز هو نهاية الفقيه الزرهوني الذي اتخذ من تازة مقراً له بعد إلقاء القبض عليه في بني زروال بمنطقة جبالة شمال فاس لما كان في طريقه متسللا عبر دار الضمانة وزان ربما باتجاه طنجة حيث التمثيليات الدولية، وهو ما اعتبرته فرنسا حدثاً مؤثراً على استقرار المنطقة ومهدداً لمصالحها، ولعله ما جعل ليوطي يضاعف من عنايته بمجال تازة وممرها الإستراتيجي. وبعد أسابيع من اعتقاله، أسر قنصل ألمانيا في إحدى الليالي لشخص يدعى إدريس منو كان يجالس الزرهوني في البيت الذي سُجن فيه بفاس أن يعلم السلطان بأن قناصل الدول سيأتون إليه غداً ليطلبوا منه إطلاق صراحه الخبر الذي دفع إلى الأمر بقتله وقطع رأسه وأحراق جثته. ولم تكن نهاية الزرهوني تعني أن مصاعب مولاي عبد الحفيظ في الحكم قد انتهت بانتهائه. فخلال هذه الفترة تحديداً دجنبر 1909، اهتز السلطان مجدداً بعصيان جديد قاده أخوه مولاي الكبير في تازة، وكان قد أرسله أخوه مولاي عبد العزيز على رأس أول محلة لمحاربة الزرهوني بها. وضع دفع المخزن إلى إرسال قوات من عشرة آلاف رجل تجاه القبائل المحيطة بوادي ايناون، وبما أن ما تم إرساله من تعزيزات لمرات عديدة لم يتحقق معه أي شيء ميدانياً، تم تنظيم محلة اعتمدت أسلوب سلبٍ ونهبٍ وإحراقٍ لِما في دواوير المنطقة وأسواقها إلى جانب اعتراضها للقوافل. وقد ورد أن مولاي الكبير التحق بالجبال في محاولة لبلوغ عرش البلاد، وكان مولاي عبد الحفيظ قلقاً من تحركات أخيه الذي تردد كثيراً في طلب العفو من أخيه بعدما صودرت أملاكه. وأثناء إعداد محلة مخزنية للتوجه إلى شرق البلاد بعد تحقيق الانتصار على الزرهوني، ولما عُلِم أن قائد المحلة هو "سي محبوب" أحد الأقرباء من جهة الأم لمولاي الكبير الذي كان بتازة في 1909، عُوض هذا القائد ب"عمر بن العبدي" خليفة وزير الحرب وقريب الكًلاوي خوفاً من انضمامه إليه. وقد زاد مولاي الكبير من إثارة الشك حول وضع البلاد السياسي والأمني، عندما بايعته قبائل الحياينة واتسول والبرانس ومكناسة بتازة. وعلى إثر توجه مولاي الكبير نحو وجدة ودخوله المنطقة الفرنسية وما تسبب فيه من حرج بين السلطات الفرنسية ومولاي عبد الحفيظ، تم نقله من وهران عبر طنجة باتجاه فاس بعدما ضمنت فرنسا حمايته، وما ظل عليه مولاي الكبير من خوف رغم الضمانات جعله يتجه إلى بلاد أنجرة شمال البلاد، قبل أن تتم مطاردته واعتقاله واقتياده نحو فاس رغم الحماية الفرنسية ليظل أسيراً بدار المخزن بعد إنهاء تحركه في أواسط خريف 1910. يبقى أن أطماع فرنسا في المغرب منذ مطلع ق 20م اعتمدت مخططاً انبنى على إفقار البلاد من جهة وتفكيك بنيتها القبلية من جهة ثانية، كذا إضعاف موقف المخزن بتحميله مسؤولية ما حصل وإثارة حركات تمرد مثلما حصل مع الزرهوني من خلال تسليحه وتأطير أتباعه وإذكاء صراع بين السلطانين عبد العزيز وعبد الحفيظ. وحول ما أثاره موضوع وحركة الفقيه الزرهوني من قراءات في علاقته بتازة قبيل فرض الحماية على المغرب وما أحيط به من تناول يفتقر لِما هو نظر وتحقيق وتأسيس بالاقتصار على الجاهز كذاكرة وجدانية، كانت إفادة عبد الله العروي في "الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية" على درجة عالية من ذكاء المؤرخ، عندما أورد أن ما سمي بالفوضى المغربية بداية 1900 التي تداولتها على نطاق واسع من قِبل الأدبيات الكولونيالية، تعني وضع لا نظام ولا أمن وتفسر أشكال تدخلات سياسية وعسكرية، وأن هذه الفوضى كانت تقوم على مفهومين متباينين سياسي وأنثروبولوجي. وحول الزرهوني كتاريخ وذاكرة تاريخية مغربية، والذي اتخذ من تازة مقراً بعد مبايعته في موسم قبيلة الحياينة شرق فاس بإركابه على فرس واعطائه فسطاطاً، أشار العروي إلى أن دور كل من فرنسا وإسبانيا في حركته بحكم مصالحهما ودور السلطات الفرنسية في وهران لايزال بحاجة إلى بحث وتنقيب، مضيفاً أن ببليوغرافيا الموضوع بقدر ما هي غير متوفرة بقدر ما هي مهملة متقطعة ومتفاوتة القيمة. *عضو مركز بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث