بعد الخرجة الإعلامية الموفقة (بالمقاييس الدعائية!) لوزير التجهيز والنقل الحالي، والتي طرح من خلالها موضوع المستفيدين من ريع (الكريمات)، مثيرا زوابع رملية تسببت في غبش الرؤية! وبعد التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات الذي أثار العديد من الاختلالات والخروقات المالية والإدارية بعدد من المؤسسات العمومية والجماعات الترابية، واضعا أسماء وازنة في عالم السياسة والمال والأعمال في متناول المتابعة القضائية، وتدفق سيل من التصريحات الرسمية على أعلى المستويات تنحو نفس المنحى، بات من المرجّح أن لاعبا أساسيا يقف خلف ستار الحكومة الملتحية ويدير لعبة مشوقة عبر جهاز (التحكم عن بعد)! باعثا بإشارات معينة للتأثير على الشارع المغربي وخلق حالة من الاستقطاب لوأد أصوات انبثقت مع الربيع العربي تطالب بتغييرات جوهرية على مستوى البنية المخزنية. فالبعض! ممن يحمل (مصفاة) في جمجمته، سيجد صعوبة في تقبل فكرة انفراد وزير التجهيز والنقل الحالي باتخاذ قرار الكشف عن لائحة المستفيدين من رخص النقل، وعدم تلقيه للضوء الأخضر من جهات عليا! وهي الجهات نفسها التي يرجح وقوفها خلف تسليط الكثير من الضوء على تقرير المجلس الأعلى للحسابات، وإعطائها الإشارة لانطلاق مهرجان (الكشف)! كوسيلة فعالة لتدبير أزمة تداعيات الربيع العربي، وصرف أنظار الشعب المغربي عن جملة من الانتظارات! وهو ما يدخل ضمن فن (الإدارة بالأزمات)! الذي تمرس عليه النظام المغربي لدرجة الإتقان! فالملاحظ، أنه منذ (تسلم)! حزب العدالة والتنمية (مقاليد)! الحكومة طفرت العديد من القضايا الشائكة بشكل ملفت، وطُرحت على بساط المناقشة أمام الرأي العام، وأصيبت المؤسسات العمومية ب(إسهال) الكشف! فتبارت في أيها تحرز أكبر قدر من الاهتمام، وتُنازع المجلس الأعلى للحسابات على موقع الصدارة! فها هي وزارة الاتصال تكشف عن لائحة الدعم المالي المخصص للصحافة المكتوبة، والوزارة المكلفة بالعلاقة مع البرلمان تكشف عن حجم المساعدات الأجنبية للجمعيات، ووزارة المالية تحيل سبعة وعشرين تقريرا للمفتشية العامة للمالية على وزارة العدل، ومجلس الدارالبيضاء هو الآخر تصيبه عدوى الكشف فيضرب بسهمه في (الجعجعة)! وغيرها من المؤسسات التي مستها جرأة غريبة على الكشف! بل حتى نبيل بنعبد الله وزير الإسكان والتعمير وسياسة المدينة، الذي عودنا على لغة مخزنية عتيقة خلال توليه لحقيبة الاتصال و (النُّطق الرسمي)! في الحكومة ما قبل الأخيرة، سارع بدوره إلى الاعتراف بوجود ممارسات فاسدة داخل وزارته! وضع غريب وحالة شاذة لا ينسجمان مع واقع تكرّس لأزيد من خمسة عقود من السنوات وأفرز مؤسسات مهترئة ودكاكين سياسية تقتات على الريع السياسي ومتحكم فيها من قبل أناس تمت تزكيتهم من الكاب 1 ووزارة الداخلية على عهد الوزير القوي في عهد الحسن الثاني! فمَن مِن المدركين للتركيبة المخزنية للنظام المغربي سيصدق أن ما وقع ويقع ناجم عن تفعيل لمقتضيات دستورية وتفعيل أيضا لدور الحكومة في تدبير الشأن العام بعيدا عن وصاية حكومة الظل؟! ومَن مِن أولائك سيبتلع دعاية مركزة تستهدف تحميل تلك الإشارات (الكاشفة)! معنى فصل السُّلط وتفعيل دور الرقابة على المال العام؟ في حين أن وزير العدل، الذي سوق لنا عنه صورة الصقر الذي لا يرضى بأنصاف الحلو! لا يجد غضاضة في التحذير من الأصوات الداعية إلى إبعاد النيابة العامة عن وصاية وزارة العدل! فالمرجّح أن هناك أمر ما يحدث خلف ستار الحكومة الملتحية يمكن أن يستشف منه ما يلي: وضع الحكومة الحالية في معترك المواجهة مع نخبة المال والأعمال والسياسة لصرفها عن التفكير في تنزيل شعاراتها الكبيرة التي رفعتها قبل أن تدخل لطاحونة الحكم! (وهذا استنتاج فيه الكثير من حسن الظن بالحكومة الحالية! وقدر غير يسير من الغباء السياسي!!). إكساب الحكومة الحالية مزيدا من المصداقية أمام الرأي العام المغربي لحيازة أكبر قدر من التأييد الشعبي، لاجتياز مرحلة سياسية دقيقة كانت من تداعيات الربيع العربي. إعطاء الانطباع بكون النظام جاد في إحداث تغييرات جوهرية في بنية الحكم العتيقة، وتقوية الطرح القائل بجدوى الإصلاحات الدستورية الأخيرة. ويمكن للنظام أن ينجح مؤقتا في تمرير رسائله، وتحقيق هدنة مؤقتة مع الشارع، إلا أن المستقبل يبقى حابل بالمفاجآت، والتي سيكون من أبرزها فراغا سياسيا هائلا سيعيد إنتاج نخب سياسية غير متوقعة!