أحدثت الخرجات الإعلامية المنسقة لأقطاب الإعلام الرسمي، المعارضة للتعديلات التي ضمنها وزير الاتصال في دفاتر تحملات القنوات المغربية، جدلا سياسيا واسعا داخل المجتمع، الغريب أن هذه الضجة المفتعلة أثيرت بعد أن وافق مسؤولي هذه القنوات على ما ورد في هذه الدفاتر، وصادقت عليها الهيئة العليا للسمعي البصري "الهاكا" ونشرت في الجريدة الرسمية. إذن، ماذا حدث حتى خرج بن الشيخ وسيطايل والعرايشي ليعلنوا رفضهم لإصلاحات وزير الاتصال الذي يفترض أنه صاحب القرار في القطاع الذي يتحمل مسؤولية إدارته؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، من المفيد جدا التوقف قليلا عند التصريحات الغريبة لأقطاب الإعلام الرسمي حتى نستطيع فهم خلفيات هذه الأزمة المفتعلة. فقد صرح الرئيس المدير العام لقطب الإعلام الرسمي فيصل العرايشي إن استقلالية الإعلام العمومي تبقى مقدسة وأن هذه الاستقلاليته عن تأثير السياسي مسألة أساسية، ومبدأ لا يمكن التفريط فيه وأن الإعلام العمومي لا يمكن أن يكون مجالا لتصريف أفكار سياسية أو حزبية... من يقرأ هذا الكلام يخال نفسه أنه أمام مؤسسة إعلامية حرة ومستقلة، تدافع عن استقلاليتها، والحال أن إعلام العرايشي لا علاقة له من قريب أو بعيد بشيء اسمه الاستقلالية، لأنه إعلام لا زال يتحرك وفق التعليمات والتوجيهات من خارج قطاع الإعلام، وهذا الأمر لم يعد سرّا ولا يوجد أحد يجادل فيه، ومن يشاهد قنوات القطب العمومي المتجمد، سيصاب بجميع أنواع الأمراض النفسية والعصبية، بل لا أكون مبالغا إذا قلت إن هذا الإعلام سبّب الإحباط والنفور لقطاع كبير من المشاهدين المغاربة، لأنه إعلام لا يزال خاضعا لمراكز نفوذ تتحكم في برامجه. وعندما يتحدث السيد العرايشي عن الاستقلالية، فهو لا يقصد قطعا الاستقلال عن مؤسسات ومراكز نفوذ أخرى تتحكم في الإعلام، وإنما يقصد أساسا الاستقلال عن الأحزاب السياسية وتأثيرها على الإعلام الرسمي، وهو بذلك يعترف ضمنيا بأن هذا الإعلام غير خاضع لوصاية وزارة الاتصال، التي يشرف عليها وزير سياسي وليس تقنوقراطي، والفرق طبعا واضح، وبالتالي فإن مضامين التعديلات التي أحدثها الخلفي في دفاتر التحملات الخاصة بالقنوات الرسمية، لا تعني المدراء والمسؤولين الكبار داخل هذه القنوات، لأنهم بكل بساطة لا يخضعون لسطة وزير الاتصال وإنما هم تابعون لسلطات خارج المجال الإعلامي. من جهتها عبّرت مديرة الأخبار بالقناة الثانية السيدة سيطايل عن رفضها لبعض مضامين دفاتر التحملات الخاصة بالقناة الثانية، ودافعت عن نشرة الأخبار الرئيسية بالفرنسية وعن توقيتها "التاريخي " لأنها بزعمها موجهة إلى مليوني مغربي بالخارج، أما مغاربة الداخل فهي غير معنية باللغة التي يفضلون، رغم كونها هم الذين يؤدون راتبها الشهري الكبير. مدير الأخبار معروفة بعدائها ليس فقط للغة العربية، بل لكل ما له علاقة بالثقافة العربية الإسلامية، وهذا الأمر أصبح معروفا من خلال خرجاتها الإعلامية المثيرة للجدل، الغريب أنها - وحتى لا تُتهم بالدفاع عن الفرونكوفونية في بلد عربي مسلم، دافعت عن الدارجة المغربية، لأنها اللغة التي يتحدث بها جميع المغاربة على اختلاف ألسنهم، لكنها نسيت أو تناست أنه في المغرب ليست هناك دارجة واحدة حسب مناطق المغرب، كما أن الدارجة في أصلها هي لغة عربية اختلطت بلهجات ولكنات عربية وأمازيغية وأجنبية، وإذا كانت السيدة سيطايل صادقة في دفاعها عن الدارجة المغربية، فلتتحمل مسؤوليتها وتدرجها في نشرات الأخبار بدلا عن الفرنسية " اللي ما كيفهمهاش وما كيتكلمش بها غير كْميشَة من المغاربة". حقيقية الضجة الإعلامية التي أثارتها قوى مناهضة للإصلاح والتغيير داخل القطب الإعلامي المتجمد وحتى داخل بعض الأحزاب والجمعيات، تقف وراءه قوى سياسية متنفذة أقلقها بعض الإشارات "الإسلامية" البسيطة في دفاتر التحملات، لأن هؤلاء القوى غير مستعدة لإعادة الاعتبار للثقافة العربية الإسلامية في الإعلام الرسمي، بل هي حارسة شرسة لقيم "الحداثة" داخل هذا القطاع، وهي عبارة عن لوبيات شكلت خلاياها النائمة عبر سنوات، تدافع عن "مكتسباتها" التي راكمتها، وتعتبر أي مساس بها هو تهديد لوجودها ومصالحها، وهذا ما يفسر الهجمة الشرسة التي يتعرّض لها وزير الاتصال لمجرد أنه أدرج بعض المواد الدينية البسيطة في برامج بعض القنوات الرسمية، وقراره منع إشهار القمار في هذه القنوات، رغم أن الدين الإسلامي الذي هو دين الدولة ويدين به غالبية المجتمع المغربي يقضي بذلك، وبالتالي فهذه الإشارات التي أدخلها الوزير تعبر عن معتقد غالبية المغاربة الذين منحوا الثقة لحزب العدالة والتنمية باعتباره حزبا يدافع عن هويتهم العربية والإسلامية. في الدول الديمقراطية، عندما ينتخب الشعب حزبا لقيادة الحكومة، فإن ذلك يعني أن الحزب مفوض من طرف الشعب لتنفيذ برنامجه الانتخابي، في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية وغيرها، لأن الحزب الحاكم هو المسؤول أما الناخبين عن تنفيذ برنامجه، وإنجاز الوعود التي قدمها للشعب، وبالتالي لا مجال لوجود قوى أو مراكز نفوذ مضادة تعرقل تنفيذ برنامج الحزب الذي يقود الحكومة، ويبقى من حق المعارضة البرلمانية القيام بدورها في مراجعة ومناقشة هذا البرنامج دون أن يصل ذلك إلى حد تعطيله في أي مجال من المجالات العامة. هذه التقاليد الديمقراطية لم تصل بعد إلى المغرب، إذ لا يتوفر الإعلام الرسمي على شروط الإعلام العمومي المستقل عن تأثيرات مراكز النفوذ السياسي والاقتصادي، وبالتالي فإن أحدا من الأحزاب السياسية مهما حظي به من شرعية انتخابية وسياسية، لن يستطيع أن يغيّر شيئا من معادلة الإعلام المغربي، حتى لو قام وزير الاتصال بتغيير المدراء العامين والمسؤولين الكبار في هذه القنوات (إن سُمح له بذلك)، فإن ذلك لن يحل مشكل الاستقلالية داخلها، لأن هناك قوى متنفذة تتحكم في تعيينهم وإقالتهم، وبالتالي فهم لن يخضعوا لسلطة وزير الاتصال رغم كونه يعتبر من الناحية الإدارية رئيسهم المباشر، لأنه ليس هو من يملك سلطة التعيين والإقالة. ولذلك فإن السؤال يطرح حول ما مدى قدرة وزير الاتصال ومن خلفه حزب العدالة والتنمية باعتباره الحزب الذي يقود الحكومة، بمقاومة هذه المراكز والقوى المناهضة للإصلاح، وبالتالي تنفيذ البرنامج الذي وضعه والذهاب بعيدا في إصلاحاته مهما كلفه ذلك من ثمن، وهذا ما سيحدد مستقبلا استقلالية الإعلام العمومي عن السلطة من عدمه، لأن الشعب ينتظر القيمة المضافة التي سيقدمها الحزب الذي يقود الحكومة في جميع القطاعات التي يشرف عليها، لابد من أن يترك بصمته "الإسلامية"، رغم أن ذلك ليس بالأمر الهين، لكن يكفي شرف المحاولة، وكما يقول المثل العربي" فوق جهد لا تلام"، أما إذا الرضوخ للأمر الواقع والتنازل عن ممارسة الصلاحيات الدستورية، فإنه سيعرض الحزب إلى فقدان ثقة الشعب كما حصل مع حزب الاتحاد الاشتراكي في تجربة التناوب.