التعريب والتقسيم الطبقي للعمل: بناء على التحليل السابق، يبدو جليا أن الوظيفة الحقيقية للتعريب، لكن المضمرة، هي إنتاج وإعادة إنتاج تقسيم اجتماعي طبقي للعمل: فهناك العمل "النبيل" المطلوب مهام التسيير والإدارة والإشراف والمراقبة والتوجيه والتخطيط وإصدار الأوامر واتخاذ القرارات ومسؤوليات تخص ممارسة السلطة… ، يقوم به أبناء الطبقات الموسرة، الذين حصلوا، بفضل ثراء عائلاتهم، على تعليم باللغة الأجنبية، جيد ونافع، أهّلهم لتولّي تلك المهام. ثم هناك عمل أقل مرتبة و"نبلا"، من حيث قيمته المادية والرمزية مهام التنفيذ والإنجاز والأعمال اليدوية غالبا … ، تختص به الطبقات التي لم تسمح لها شروطها الاقتصادية بالحصول على نفس النوع ونفس المستوى من التعليم الجيد والنافع، ماديا ورمزيا، فاكتفت بالتعليم المجّاني المعرّب، الذي يقل الطلب على خرّيجيه في سوق الشغل "النبيل". وهكذا يكون التفاوت في المستويات الثقافية والتعليمية والمعرفية بين الصنفين من الطبقات، أداة لممارسة العنف الرمزي والثقافي في أجلى صوره، كما يظهر ذلك في فرض الطبقة المهيمنة لثقافتها وقيمها وأفكارها وسلوكاتها ونمط عيشها…، كمرجعية ونموذج يُحتذى به. وللحفاظ على هذا التقسيم الطبقي للعمل، فإن الوظائف "النبيلة" تفقد "نبلها" بمجرد ما يصبح التعليم العمومي المجّاني المعرّب كافيا للوصول إليها، دون التوفر مسبقا على رأسمال اجتماعي طبقي: فمهنة التدريس كانت ذات قيمة اجتماعية كبيرة بعد الاستقلال، لأنها كانت تمثل "ندرة اجتماعية" واستثمارا سابقا لرأسمال اجتماعي متوفر منذ البداية. لكن هذه المهنة فقدت، اليوم، ما كان لها من بريق اجتماعي، وبخست قيمتها المادية والرمزية، بعد أن أصبح التعليم، العمومي المجّاني والمعرّب، يسمح بممارسة هذه المهنة دون توفر سابق على امتياز اجتماعي طبقي. فأضحى الأستاذ الجامعي، اليوم، أقل قيمة، من الناحية المادية والرمزية، من معلم في سبعينيات القرن الماضي. ولهذا "غادرت" الطبقات الموسرة هذه المهنة، بعد أن لم تعد تُحترم فيها الحدود بين الطبقات الاجتماعية. ونفس الشيء يلاحظ، ولو بدرجة أقل، بخصوص مهنة المحاماة، التي كانت من المهن النخبوية ذات القيمة الاجتماعية والرمزية الكبيرة. لقد أخذت قيمتها الاجتماعية والرمزية هذه تتدهور، اليوم، تدريجيا بعد أن أصبح التعليم العمومي، المجّاني والمعرّب، يؤهّل لامتهان المحاماة دون اشتراط امتياز طبقي سابق. وهو ما لا ينطبق، على سبيل المقارنة لإبراز دور اللغة الفرنسية في الرفع من قيمة ومكانة الوظائف والمهن التي تستعمل هذه اللغة، على مهنة التوثيق العصري notariat، التي لا زالت تحتفظ بمكانتها النخبوية المحترمة لكون اللغة التي يشتغل بها الموثّقون هي اللغة الفرنسية. كان من الممكن أن تكون وظيفة التعريب المضمرة هي نفس وظيفته الظاهرة المعلن عنها، لو: 1 أن المدافعين عن التعريب برهنوا على صِدقهم وحسن نواياهم، وذلك بإعطاء القدوة بتسجيل أبنائهم في مدارس التعليم المعرّب، التي ينفرون منها كما لو كانت مراكز لنشر أمراض معدية. 2 أنه كان تعريبا كاملا وعاما، يشمل كل أنواع التعليم، وكل تخصصاته ومستوياته. 3 تم تعريب سوق الشغل وتوحيدها، بدل إبقائها مقسّمة إلى أعمال ووظائف دنيا يقوم بها المتخرجون من التعليم المجّاني المعرّب، وأعمال ووظائف "نبيلة" ومطلوبة يقوم بها المتخرّجون الذين تلقوا تكوينهم باللغة الأجنبية. 4 أن شواهد التعليم العمومي المعرّب تفوق أو على الأقل تساوي في قيمتها، المادية والرمزية، الشواهد التي يمنحها التعليم المفرنس. الوظيفة المضمرة للتعريب تفسّر مفارقاته الظاهرة: إذا كانت وظيفة التعريب الحقيقية، المتمثلة في "تحييد" التعليم، العمومي المجّاني والموحّد لغويا، كوسيلة للصعود الاجتماعي، وفي الحفاظ على تقسيم اجتماعي طبقي للعمل، تمارس من خلاله طبقة مهيمنة عنفها الرمزي على الطبقات الأخرى، تبدو مضمرة dissimulée وغير ظاهرة، ولا يمكن إدراكها إلا عبر سلسلة من الاستدلالات، فذلك «لأن الوظيفة الأكثر خفاء والأكثر نوعية لنظام التعليم تتجلّى في إخفاء وظيفته الموضوعية، أي حجب الحقيقة الموضوعية لعلاقته ببنية العلاقات الطبقية» (La reproduction, p. 250). ثم «لأن المدرسة، كأداة ممتازة instrument privilégié تستعملها البورجوازية لتبرير وضعها المهيمن sociodicée، تمنح لأصحاب الامتياز les privilégiés الامتيازَ الأسمى le privilège suprême بأن لا يظهروا كأصحاب امتياز. وبذلك تنجح في إقناع المحرومين بأن فشلهم المدرسي والاجتماعي راجع إلى نقص في مؤهلاتهم ومواهبهم. تنجح في ذلك بسهولة لكون الإقصاء، في مجال الثقافة، يُقصي أي وعي بهذا الإقصاء» (Ibid, p. 253). وعندما نكتشف هذه الوظيفة الحقيقية المضمرة للتعريب، ونفهمها ونعيها، تصبح كثير من التناقضات، التي لازمت سياسة التعريب، منطقية ومفهومة. هذه بعض منها: 1 نلاحظ بخصوص التعريب بأنه طُبّق بطريقة جزئية وانتقائية، كما سبقت الإشارة. فلم يشمل كل أنواع التعليم وتخصصاته ومستوياته. لماذا؟ لأن ما تبقّى من هذه الأنواع والتخصصات والمستويات، التي تُستعمل فيها اللغة الأجنبية كلغة للتدريس، هو خاص بالخاصة، أي بالنخبة وأصحاب الامتيازات الطبقية. 2 نسمع المسؤولين يردّدون دائما، عندما يتعلق الأمر بموضوع لغة التدريس، بأن "العربية هي لغة التدريس الرئيسية، مع الانفتاح على اللغات الأجنبية". لماذا هذا "الانفتاح"؟ لأنه محفوظ وخاص، كذلك، بأبناء الطبقات الموسرة، الذين يتلقون تكويناتهم بلغة "الانفتاح" الأجنبية. 3 أغلبية دعاة التعريب يسجّلون أبناءهم بمدارس البعثات الأجنبية والمؤسسات الخاصة الراقية، التي تعتمد اللغة الأجنبية لغة رئيسية للتدريس. ليس في هذا الموقف أي تناقض. فالتعريب الذي يدعون إليه ويدافعون عنه هو تعريب التعليم العمومي المجّاني الخاص بالدهماء، وليس التعليم النخبوي الخاص بالنخبة التي ينتمون إليها، والذي يجب أن تكون لغة التدريس فيه هي اللغة الأجنبية. فبهذا التعليم النخبوي، ذي اللغة النخبوية، يحافظون على موقعهم الطبقي النخبوي المهيمن. 4 من المفارقات العجيبة أن اللغة الفرنسية، التي جاء التعريب لتنحيتها لصالح العربية، تعززت مكانتها وارتفعت قيمتها، بسبب قلة العرض وكثرة الطلب عليها نتيجة التعريب نفسه. 5 ونفس المفارقة نلاحظها بصدد اللغة العربية: فبدل أن تصبح إجادتها أفضل مما كان عليه الأمر قبل تعريب التعليم، تعرف هذه اللغة، على العكس من ذلك، تدنّيا مريعا في مستوى ضبطها وإتقانها، حتى أصبح تشكيل جملة قصيرة، أو كتابة كلمة تتضمن همزة، بطريقة سليمة، من "لطائف المعارف"، ليس عند التلاميذ فقط، بل حتى عند الطلبة الجامعيين. وليس في الأمر أي تناقض عندما نعرف أن الوظيفة الحقيقية لكن المضمرة للتعريب، ليست هي إتقان العربية وتعزيز مكانتها والرفع من قيمتها، كما تقول الوظيفة الظاهرة والتمويهية الخادعة لهذا التعريب، وإنما وظيفته هي تعزيز مكانة الطبقات الموسرة والنافذة، والرفع من امتيازاتها ونفوذها، كما أثبتنا ذلك طيلة هذه المناقشة. ملاحظتان لا بدّ منهما: 1 لا يصحّ الاعتراض على هذا التحليل بأن هناك أبناء أسر فقيرة ومعوزة درسوا بالمدرسة العمومية المجّانية والمعرّبة، فاستطاعوا الحصول على شواهد علمية عليا، أهّلتهم أن يشغلوا مناصب سامية و"نبيلة" وذات قيمة عليا، ماديا ورمزيا، ويغيّروا وضعهم الاجتماعي الأصلي الأدنى إلى وضع اجتماعي نافذ وأرقى. لماذا لا يصحّ؟ لأن دراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية، مثل موضوع التعريب والتعليم والمدرسة، لا تتوخّى الوصول إلى قوانين مضبوطة ودقيقة تنطبق على كل الحالات بنسبة 100%، كما في قوانين العلوم الحقة مثل علم الفيزياء مثلا. وإنما أقصى ما تسعى إليه العلوم الإنسانية هو تحديد الاتجاه tendance العام، الغالب سوسيولوجيا وإحصائيا للظاهرة موضوع الدراسة، دون أن ينفي ذلك وجود حالات تشذّ عن هذا الاتجاه العام. فعلاقة التعريب بالامتيازات الطبقية privilèges de classe، من خلال إقراره بهدف الحفاظ على هذه الامتيازات وتعزيزها وإعادة إنتاجها، ثابتة كاتجاه عام، حاضر بنسبة قد تتجاوز 75%، لكن ليس بنسبة 100%. 2 القول، كما يكرّر التعريبيون، بأن فشل التعريب لا يرجع إلى فشل لغة التدريس التي هي العربية، وإنما يرجع إلى التسرّع والارتجال اللذيْن تقرر بهما فرض التعريب، دون إعداد كافٍ ومناسبٍ لشروط نجاحه. هذا غير صحيح إطلاقا. لماذا؟ أولا، سياسة تعريب التعليم لم تفشل لأن ما فشل هو فقط وظيفة التعريب الظاهرة، التمويهية والخادعة. أما وظيفته الحقيقية، لكن المضمرة، فقد أدّت مهامها بنجاح فاق حتى ما كان متوقّعا. والدليل على ذلك هو أن سياسة التعريب أعطت النتائج التي كانت منتظرة منها، والتي من أجلها فُرض التعريب، والتي هي نتائج تخص مستويين: المستوى الأول المتعلق بالوظيفة الحقيقية المضمرة للتعريب، كما سبق أن شرحنا، والتي هي إبقاء الطبقات الفقيرة والهشّة في مستوى فقرها وهشاشتها، وتقوية امتيازات الطبقات المهيمنة والحفاظ عليها (الامتيازات) وإعادة إنتاجها. وهو ما نجح فيه التعريب بشكل فاق توقعات الذين فرضوه وخطّطوا له. المستوى الثاني، المتعلّق بجانب آخر من وظيفته الحقيقية لكن المضمرة، والذي يخص الهوية، والمتجلّي في تحويل المغاربة إلى شعب عربي، أي عملية تحويلهم الجنسي من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى جنس عربي أسيوي، كما ذكرت في أول هذه المناقشة. وهو ما نجح فيه التعريب بشكل يكاد لا يُصدّق، إذا أضحى المغاربة أشد ارتباطا بالعروبة وأكثر دفاعا عنها من العرب الحقيقيين بدول الخليج، مع إنكار مازوشي لانتمائهم الأمازيغي. ثانيا، لأن التعريب لم يفشل، كما رأينا، وإنما حقّق نجاحا باهرا، على مستوى إنجاز الأهداف التي من أجلها تم إقراره، فالنتيجة أنه لم يتقرر بتسرّع وارتجال، بل كان ثمرة إعداد وتخطيط، وتروٍّ وطول تفكير. ما دلالة التراجع عن التعريب؟ بمصادقة البرلمان المغربي، يوم الاثنين 22 يوليوز 2019 بالنسبة لمجلس النواب، ويوم الجمعة 2 غشت 2019 بالنسبة لمجلس المستشارين، على مشروع القانون- الإطار رقم 51.17، المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، والذي يقضي، عبر "حيلة" "التناوب اللغوي"، بتدريس المواد العلمية بالفرنسية (المادة 2 والمادة 31) دون ذكر صريح لهذه اللغة نفسها ، يكون المغرب قد قرّر وضع حدّ لسياسة التعريب والعودة إلى اللغة الفرنسية كلغة لتدريس الرياضيات والموادّ العلمية. هذه العودة إلى الفرنسية تشكّل انقلابا حقيقيا يطرح السؤال حول دلالتها وأسبابها ونتائجها. إذا عرفنا أن المنتمين إلى ما يُدعى ب"الحركة الوطنية" هم من كانوا يديرون، غداة الاستقلال، الدولة التي ورثوها عن الحماية الفرنسية، ويسيّرون شؤونها، ويشغلون أهم وأرقى مناصبها بسبب ما كانوا يتوفرون عليه من رأسمال ثقافي، حسب ما سبق توضيحه، سنعرف لماذا أقرّت هذه الحركة، والوارثون لفكرها وإيديولوجيتها وامتيازاتها الطبقية، تعريبَ التعليم. لأن تعميم التعليم، المجّاني والملقّن بالفرنسية، أنتج، كما سبق تبيان ذلك، منافسين، لهؤلاء "الوطنيين" (نسبة إلى الحركة الوطنية) ولورثتهم، ذوي مستوى تعليمي مكّنهم من شغل المناصب الراقية التي كانت حكرا عليهم، وهو ما راوا فيه تهديدا لمصالحهم وامتيازاتهم. ولوضع حدّ لهذا التهديد كان الحل هو تعريب التعليم، حسب ما شرحناه بتفصيل. فإذا كان صحيحا أن رجال "الحركة الوطنية" هم من نادوا بالتعريب وضغطوا على الدولة دولتهم من أجل فرضه وتعميمه، فليس صحيحا أن ذلك كان من أجل عيون اللغة العربية، ولا حتى عيون العروبة، بل من أجل ما كانوا يجنونه من امتيازات ومصالح باحتكارهم للتعليم باللغة الفرنسية لأنفسهم وأبنائهم وطبقتهم. ولهذا نجد أبناء جميع كبار التعريبيين، المدافعين بشراسة عن التعريب، من علال الفاسي حتى عبد الإله بنكيران، متزعّم جبهة المعارضين لما سمّوه "فرنسة التعليم" التي جاء بها القانون الإطار، درسوا في المدارس الفرنسية أو في الخارج أو في مؤسسات خاصة تعتمد الفرنسية كلغة للتدريس. بل فيهم من يدافع عن التعريب، مثل بنكيران نفسه، لأنه يملك مدارس خاصة تدرّس باللغات الأجنبية، وهو ما يجعل تعريب التعليم يرفع الطلب عليها، ويزيد من عدد الأسر التي تسجّل أبناءها بهذه المدارس الخاصة، رغبة في استفادتهم من تكوين باللغة الأجنبية. لا يمكن أن ندرك ونفهم، فبالأحرى أن نقبل، فكرة أن "الحركة الوطنية" قررت تعريب التعليم للحفاظ على مصالحها الطبقية وحرمان الطبقات الشعبية من نفس التعليم المحفوظ لأبنائها، إلا إذا تجاوزنا الوظيفة الظاهرة والتمويهية، الكاذبة والخادعة للتعريب، وكشفنا عن وظيفته الحقيقية، لكن المضمرة dissimulée، كما يسمّيها مؤلفا كتاب "إعادة الإنتاج". وما موقف القصر من هذا الصراع بين التعريبيين والداعين إلى اعتماد اللغة الأجنبية للتدريس؟ إذا كان الدافع إلى إقرار التعريب، كما شرحنا، هو الحفاظ على مصالح وامتيازات طبقة معيّنة، فسنخلص إلى أن الملكية غير معنية بهذا التعريب ليخدم مصالحها وامتيازاتها، كما يخدم مصالح وامتيازات تلك الطبقة التي جعلت منه أحد الأسس التي تقوم عليها فلسفة التعليم في المغرب. لماذا ليست معنية بذلك؟ لأن مصالح وامتيازات الملكية محفوظة ومضمونة دون حاجة إلى التعريب. فهي ليست بمثابة طبقة اجتماعية تخاف أن تنافسها الطبقات الشعبية التي يدرس أبناؤها باللغة الأجنبية، ليحتلوا مواقع ومناصب كانت حكرا على الملكية. فمصالحها وامتيازاتها لا يضمنها ويحميها التعريب، وإنما الشرعية التاريخية والدستورية. ثم لأن مصالحها وامتيازاتها تتمثّل في حيازتها وممارستها لأعلى سلطة سياسية في المغرب باعتبار الملك الحاكم الأول والحقيقي. فليس هناك إذن طبقة اجتماعية يمكن أن تشكّل تهديدا محتملا لهذه المصالح والامتيازات الخاصة بالملكية، وهو ما قد تستدعي اللجوء إلى التعريب لصدّ هذا التهديد المحتمل، كما فعلت "الحركة الوطنية" وورثتها. ولهذا يجب الاعتراف أن الملكية بالمغرب لم يسبق لها أن كانت متحمّسة لتعريب التعليم. ولا يمكن تفسير ذلك بأنها سبق أن عاشت تحت الحماية الفرنسية. ف"الحركة الوطنية" نفسها نشأت في ظل هذه الحماية الفرنسية وتلقّت تكوينا باللغة الفرنسية. وإذا لم تكن الملكية متحمّسة للتعريب، فلماذا قبلته ووافقت عليه في عهد الحسن الثاني؟ رغم أن حكم الحسن الثاني لم يكن ديموقراطيا، وكان يحكم ويتخذ قراراته بشكل انفرادي وأوتوقراطي، إلا أنه، كسياسي، كان يأخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن يشكّل عليه ضغطا سياسيا حقيقيا، قد لا يستطيع تحدّيه ومواجهته دون خسارة سياسية ليست في صالح العرش. ولهذا شكّلت "الحركة الوطنية"، وامتداداتها الفكرية والإيديولوجية والحزبية والنقابية، ضغطا سياسيا على الحسن الثاني عندما استعملت مسألة التعريب كسلاح لمعارضة حكمه، مع توظيف ماكر للمكانة الدينية للعربية لممارسة الابتزاز على الحسن الثاني. وهو ما جعله يرضخ لمطالب التعريبيين مُكرها سياسيا، إذ كيف يُعقل لأمير للمؤمنين، يستمد شرعيته من الإسلام، أن يرفض التعريب الذي كان يؤوله معارضوه على أنه رفض للغة الإسلام التي هي العربية؟ استمر الحال، مع حكم محمد السادس، كما كان عليه في عهد الحسن الثاني بخصوص تعريب التعليم، إلى أن جاء القانون الإطار رقم 51.17، فألقى بحجرة "التناوب اللغوي" في البركة الآسنة للتعريب. وغير خافٍ على أحد أن قرار هذا "التناوب اللغوي"، الذي به يخفي القانون الإطار تراجعَه عن سياسة التعريب، لا يمكن أن يُتّخذ دون أن يكون بتعليمات من السطات العليا أو على الأقل بقبولها وموافقتها. والسؤال هو: إذا كانت الملكية قد تعايشت، في عهد الحسن الثاني، مع تعريب التعليم دون أن تتدخل لوقفه والعودة إلى اللغة الأجنبية، فلماذا قررت، بعد عشرين سنة من حكم محمد السادس، التراجع عن التعريب بصيغته التي مورس بها إلى الآن، مع اللجوء إلى "حيلة" "التناوب اللغوي" لتبرير هذا التراجع؟ لأن الدولة، إذا كانت قد استطاعت تحمّل الآثار المدمّرة والكارثية لتعريب التعليم لمدة أربعين سنة، فإنها لن تستطيع، نظرا لتضاعف وتراكم هذه الآثار مع مرور الوقت، أن تتحمّلها أكثر من هذه المدة، من دون أن يعرّضها ذلك لمخاطر "السكتة القلبية"، الي حذّر منها الحسن الثاني في خطابه لافتتاح الدورة الخريفية للبرلمان في أكتوبر 1995. فاليوم لم يعد يكفي أن تتعايش الملكية، لدواعٍ سياسية، مع ما "اختاره" الشعب في ما يخص تعريب التعليم، الذي هو في الحقيقة اختيار "للحركة الوطنية" وليس للشعب، كما سبقت الإشارة، لتضمن بذلك الاستقرار السياسي والاجتماعي. لماذا؟ لأن الشعب الجاهل والمجهّل (الذي لقّنته المدرسةُ الجهلَ)، العاطل والجائع، المشحون بالخرافات والغيبيات، إذا كان مفيدا للأنظمة التي تغيب فيها الديموقراطية الحقيقية، فإنه يصبح، على المدى البعيد، خطرا على وجودها واستمرارها، وقد يؤدّي إلى سقوطها وانهيارها. وهذا ما وعته جيدا الملكية التي أدركت أن أكثر من أربعين سنة من تجهيل الشعب بسياسة التعريب، وحرمانه من الاستفادة من تعليم ناجح، مفيد ومنتج، لا يمكن إلا أن يتسبّب في تلك "السكتة القلبية" التي تحدث عنها الحسن الثاني. وإذا حدثت هذه "السكتة"، فإن الملك هو من تُحمّل له المسؤولية، وليس من دعا إلى التعريب ودافع عنه، لأنه هو الحاكم الأول والحقيقي، كما أشرت، بالنظر إلى أن الملكية بالمغرب هي ملكية تنفيذية. وتلافيا لهذه "السكتة"، مع ما تستتبعه من تحميل المسؤولية في ذلك للملك، جاء القانون الإطار رقم 51.17، معلنا نهاية التعريب، ولو بتبرير ذلك بما سمّاه "التناوب اللغوي" لتخفيف الصدمة على التعريبيين. اليوم، وبعد أربعين سنة من التعريب، الجميع واعون ومقتنعون، بمن فيهم التعريبيون، أن هذا التعريب كان جريمة في حق الشعب المغربي، وقف عائقا أمام توفّر الشروط الضرورية لتنمية حقيقية، وحال دون تحقيق أي تقدم ونهوض، وجعل المغرب يتراجع ويتقهقر، وتتجاوزه دول كان متقدما عليها في سبعينيات القرن الماضي بمسافات بعيدة. فالتمادي في هذا التعريب هو إذن انتحار للبلاد ونحر لها على محراب العربية والعروبة، والمصالح الضيقة لطبقة وصولية وانتهازية. فإذا كان هذا التراجع عن التعريب جاء متزامنا مع اعتراف الملك بفشل النموذج التنموي، ودعوته إلى الإعداد لنموذج تنموي جديد، فإن من شروط نجاح النموذج التنموي الجديد هو القطع مع سبب فشل النموذج التنموي السابق، ألا وهو التعريب. فالعنصر الأساسي في كل تنمية هو الإنسان، عندما يتلقّى تكوينا مفيدا ونافعا، يُكسبه علما ومعرفة وكفاءة ومهارات. واداة اكتساب المعرفة والعلم والكفاءة والمهارات هي اللغة. وعندما تكون هذه اللغة غير مناسبة ولا صالحة لهذا الاكتساب، فلن يكون من تلقى تكوينا بها نافعا ولا صالحا ولا كفئا، ولا ذا علم ومعرفة نافعة. والنتيجة أن الشرط الأول لأي إصلاح للتعليم هو إصلاح لغة التعليم. وأول إصلاح للغة التعليم هو القطع مع سياسة التعريب. ولهذا يكون المبدأ المحتشم "للتناوب اللغوي" بداية لوضع حدّ للابتزاز الذي يمارسه التعريبيون على الدولة وعلى الشعب المغربي باسم "لغة القرآن"، ليستأثروا هم ب"لغة المستعمر" لأبنائهم، ويحموا بها مصالهم وامتيازاتهم. ثم إن العودة إلى التدريس باللغة الأجنبية هي أحد مظاهر الديموقراطية، إذ يصبح أبناء المغاربة متساوين من حيث اللغة التي يدرسون بها. وهو ما يعني تكافؤ الفرص بخصوص حظوظ النجاح المدرسي الذي هو مفتاح النجاح الاجتماعي والمهني، بعد أن كانت حظوظ هذا النجاح المدرسي، ثم الاجتماعي والمهني، مقصورة على طبقة انتهازية ومنافقة وأنانية، تختار لأبنائها لغة العلم والحداثة والتكنولوجيا والاقتصاد، وتمنعها عن أبناء الشعب بدعوى أنها لغة "المستعمر" و"الكفار". ليس غريبا إذن أن تكون الملكية قد وافقت على "التناوب اللغوي" للقطع مع التعريب، ذلك أن الملكية، كما يشهد على ذلك تاريخ المغرب لما بعد الاستقلال، كانت دائما متقدمة على الأحزاب، وحتى على المثقفين، بخصوص المسألة اللغوية، سواء في جانبها المتعلق بلغة التدريس، أو في جانبها المتعلق بالأمازيغية.