بدعوة الدكتور أحمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عامة المسلمين إلى زيارة القدس نكون أمام منعطف غير مسبوق في هذا الموضوع، حيث يمكن اعتبار موقفه الأخير الذي أصدره في المؤتمر العالمي لنصرة القدس بالرباط بعد أحداث العيد في الأقصى خرقا كبيرا في جبهة الرافضين لزيارة الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وذلك لتوجه الرجل والهيئة التي يشرف عليها، فلم يسبق أن خرج أحد رموز التيار الإسلامي بمثل هذا الموقف، فقد كانت معظم الدعوات محتشمة تصدر من أطراف هامشية أو من بعض الجهات الرسمية الفلسطينية وكذا العربية، فيما كانت التيارات التي تملك زخما شعبيا ونضاليا ترفض هذا المسعى. المؤكد أن هذه الدعوة ستسيل كثيرا من المداد وستحدث انقساما في الموقف منها بما يشكل انتكاسة ورجوعا للوراء. نفهم أن الهجوم الشديد على القدس وفي ظل الإحساس بالعجز قد يجعل البعض يبحث عن أي مخرج للمؤامرة العالمية على تصفية القضية الفلسطينية، وقد تبدو فكرة عمارة المدينة بأفواج من المصلين من شتى البلدان الإسلامية حلا لمواجهة اعتداءات قطعان المستوطنين وإعادة الاعتبار لقضية المسلمين المقدسة المنسية وسط غبار الأزمات المتراكم على الأمة العربية والإسلامية، لكن الحقيقة أن هذا المسار نتائجه عكسية ويضر كثيرا بالقضية على المدى البعيد، فضلا على أنه لا يلامس جوهر المشكلة. فالفلسطينيون لم يشتكوا من عدم قدرتهم على الحشد وهم لم يتأخروا يوما عن الهبوب لنصرة الأقصى حين تتوفر الإمكانية لهم بالدخول إليه، لهذا فإن التحاق أعداد إضافية بالمرابطين من خارج الحدود الفلسطينية لن يقدم الشيء الكثير لهم، فالمشكل الجوهري يتمثل في مبدأ منع المصلين من طرف قوات الاحتلال الصهيوني من الولوج إلى الأقصى، وهذا أمر يهم المقدسيين كما يهم غيرهم من المصلين مهما تعددت جنسياتهم والقرار الصهيوني لن يستثني أحدا، فإذا عجز أهل البلد عن الوصول إلى الحرم القدسي وهم أدرى الناس بحارات مدينتهم وأزقتها وطرقها الالتفافية فكيف سيكون الحال بأولئك السائحين الذين لن يدخلوا القدس إلا أفرادا أو بمجموعات صغيرة تحت أعين الحراسة الصهيونية المشددة التي ستتعاطى معهم بأريحية تامة، فإن لمست أي تهديد محتمل فيهم أو في بعضهم فإن سيف المنع سيسلط عليهم بسهولة، وحتى إن لم يتم منعهم فالصهاينة سيتحكمون في موعد دخولهم للأقصى وفي الكيفية التي سيلجون فيها إليه، وهم لن يتركوا ليواجهوا اعتداءات الشرطة الصهيونية أو المجموعات اليهودية المتط،رفة وسيبرر الأمر على أنه حرص على أمنهم كما فعلوا في حالات سابقة مع بعض الزائرين. لتتحول زيارتهم إلى شكل دعائي يظهر وجه إسرائيل السمح الكاذب، ناهيك عن الخدمة المجانية للسياحة الصهيونية والأخطر هو الاعتراف بسيادة الصهاينة على الأراضي الفلسطينية، الشيء الذي لا تفيد فيه النية التي اشترطها الريسوني للإقدام على شد الرحال للأقصى من باب "استفت قلبك" وكأن المسألة قلبية فقط، والحال أن المسألة لن تختلف كثيرا على أرض الواقع بين أن تكون الزيارة بنية نصرة الأقصى أم من أجل دعم "إسرائيل" ما دامت ستفضي لذات النتيجة في الأخير، أي الترويج للاحتلال. بل إن النية الساذجة الناجمة عن السطحية في فهم الصراع مع الكيان الصهيوني قد تورط البعض في أشكال تطبيعية أخرى دون قصد، ذلك أن الريسوني يتحدث مع عامة المسلمين الذين يغيب عن كثير منهم تفاصيل المشهد في الأراضي المحتلة خصوصا أن دعوته تلك هلامية لم تقدم خارطة طريق واضحة لزوار القدس عن أدوارهم فيها. هذه ليست المرة الأولى التي يقع فيها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في خطأ الضبابية، ولنتذكر هنا تلك الفتوى الغريبة التي أصدرها الاتحاد قبل سنوات ووقع عليها العشرات من العلماء المسلمين التي تدعو الشباب المسلم إلى الجهاد في سوريا، حيث ساهمت بتوريط المئات وربما الآلاف في المحرقة السورية دون توجيههم وإرشادهم، غير أن تلك الفتوى صبت في اتجاه مزيد من التطرف الأعمى، أما دعوة الريسوني اليوم فتتجه نحو مزيد من التفريط بمقدسات وثوابت الأمة، الفتوى الأولى مصبوغة بالدم والتي ساهمت في إفساد ثورة سلمية والأخيرة تندرج في إطار النضال الناعم الذي يشوه معالم الكفاح الفلسطيني الحقيقي، في الحالتين فإن الاتحاد يتأرجح من النقيض إلى النقيض في المواقف بشكل معكوس. نقطة أخرى مستفزة في كلام الريسوني هي حديثه نيابة عن المقدسيين، حين جزم بأن الزيارة تفرحهم وذلك كي يظهر قناعاته على أنها قناعات تحظى بإجماع مقدسي وفلسطيني، والحقيقة أن القوى الحية الفلسطينية كانت ولا تزال ترفض زيارة القدس وتدرجها في خانة التطبيع، وليرجع في هذا الصدد إلى بيانات حركة حماس التي يفترض أنه يتقاسم معها نفس المرجعية، وحدها سلطة أوسلو وأنصارها من يتولون كبر الترويج لزيارة القدس والضفة الغربية. الغريب أن الفقيه المقاصدي الذي طالما قفز على النصوص الفقهية التي لا تروق له تحول عن نظرته المقاصدية في هذه النقطة وتقمص دور العالم النصوصي السلفي، حين رأى أن شد الرحال إلى الأقصى أمر مطلوب شرعا بغض النظر عن آثاره السلبية على الحرم القدسي وعلى القضية الفلسطينية. التطور الآخر في نظرة الريسوني للقضية الفلسطينية تجلى في دعوته فلسطينيي الداخل للمشاركة في الكنيسيت الصهيوني، ورغم أنه أقر بأن أهل مكة أدرى بشعابها، فقد سمح لنفسه بأن يتدخل في شؤون عرب 48 ويملي عليهم مصلحتهم متناسيا أن أهل الداخل يعرفون جيدا تلك المؤسسة التي يطلب منهم الانخراط فيها، وهم يعيشون سجالا دائما حول جدوى مشاركتهم فيها، حيث يرفضها قطاع واسع منهم وعلى رأس الرافضين الدخول إليها الحركة الإسلامية التي يتزعمها الشيخ رائد صلاح بعد أن ظهر لهم عبثيتها وأنها صممت لخدمة يهودية الكيان والحفاظ على مصالحه على حساب الحق الفلسطيني. الجدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يخلق فيها الدكتور أحمد الريسوني الجدل بخصوص القضية الفلسطينية، فقد سبق له أن دعا حماس إلى عقد صلح مع الكيان الصهيوني في 2006، كما اعتبر مؤخرا أن موقف الإمام حسن البنا وعامة الحركات الإسلامية من فلسطين هو موقف تقليدي جامد، واليوم يفاجئ الرأي العام العربي والإسلامي بهذا المؤتمر الصحفي الغريب، الشيء الذي يؤكد على أننا أمام قناعات راسخة لديه وليست هفوات ناجمة عن سوء تقدير، وهو إن كان حرا في تبني ما شاء من آراء ومن مواقف، فإن توريط الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بها أمر سيكون كارثيا إن تم مثلما وعد في اللقاء الصحفي، حين ذكر أن الاتحاد يعكف على تحرير فتوى جامعة لزيارة القدس.