"أحاول أن أستعيد ذاكرة إنسان ما قبل التاريخ، الذي دون طريقة عيشه وعلاقته بالكائنات الأخرى، على شكل رسوم صخرية، وأشتغل على راهنيتها المعاصرة بناء على تصور تشكيلي يتخذ من بروز وتفاعلات المادة والحركة بؤرها البصرية ومفرداتها المشهدية". هذا ما قاله مبارك عمان بالتحديد، حين سئل ذات يوم. عن طبيعة ورهان مشروعه الفني وفي معنى الالتزام لهذا المشروع يستطرد قائلا : "إن المغامرة الفنية، التي تتأسس عليها أعمالي، تنبني وفق قناعات شخصية، إذ بحثت كثيرا في تاريخ البشر، ووجدت أن اليد التي رسمت الخربشات الأولى على الصخور والكهوف، وتغذى مخيالها على الأشياء البسيطة، هي اليد ذاتها التي ترسم على القماشة، وتستعين بالإزميل في نحت أعمال تظل خالدة". لكن ما معنى اليوم، أن ترتبط تجربة فنية بتاريخ سحيق وذاكرة فنية موغلة في التاريخ. تفصلنا عنها ملايين السنين؟ وبعبارة أخرى ما معنى أن يتخلص الفن من حاضره بنفوذه وإغراءاته، ويختار السفر الطوعي إلى عوالم بعيدة في الزمان والمكان؟ هذه الأسئلة، استبدت بذهني، حين استعرضت المسار الإبداعي لمبارك عمان، الفنان والإنسان؛ وبدت لي تجربته الغنية في التشكيل والحياة، شهادة أصيلة اليوم، على القلق الوجودي والإبداعي لفنان أراد أن يكون شاهدا على عصره، بإعلان تجاوزه، فكانت هذه التجربة علامة بارزة على مفارقة ممتعة ومؤلمة في الوقت نفسه، وهي تجاوز الفن لعصره من جهة، وحتمية تكيفه معه، من جهة أخرى. بين إغواء الحاضر وإكراهاته، والسفر الفني لاكتشاف المحاولات الفنية الأولى للإنسان، تبزغ أعمال عمان وتعلن عن نوع من الاستقلالية الاستثنائية، ولكنها تعلن أيضا عن نوع من غرابة الفن، واغترابها عن عصرها، لكن في نفس الوقت التزامها المستميت والعنيد بقضايا الإنسان وهمومه وأسئلته. معادلة صعبة تحيلنا إلى ما قاله يوما المفكر المغربي الكبير الراحل عبد الكبير الخطيبي: "إني أحافظ على التزامي باستكشاف قضايا وثقافات أخرى غير ثقافتنا، فأنا باحث يستكشف منظورات متعددة ومواقع وموضوعات وقضايا وأشياء تضعني في موطن مخاطرة". في الواقع تمنحنا تجربة عمان في الإبداع الكتابة والحياة مشهدا عميقا لكينونة الفكر في علاقته بالذاكرة، فالفن بهذا المعنى، يرفض بعناد وصاية المجتمع والواقع عليه، على الماضي، كما يرفض أن يمارس أي شكل من أشكال الوصاية على الإنسان والتاريخ ومن ثمة بالذات فرادة هذه التجربة وتميزها، ولكن أيضا وضعها المأساوي كفن يعيش وينمو خارج النسق. إن هذا الاختيار الفني لعمان مبارك، ينسجم بشكل فريد مع عوالمه الجمالية حيث تحضر الرسوم والرموز والنقوش المخلدة للمغامرات الفنية الأولى للإنسان، إلى جانب الأشكال الهندسية المتنوعة (المثلث، المربع، المستطيل)، إضافة إلى التوظيف النوعي لمواد طبيعية بسيطة (الحناء، الزعفران، التراب...)، والتفوق في اختيار الألوان وجدل الضوء والظل مما جعل لوحاته تتألق لتمنحنا إبداعات نجحت في الجمع بين عمق الموضوع، جمالية المادة والتقنية المركبة. إن تصور مبارك لمهامه ومسؤولياته كفنان يطابق تصوره لمفهوم الحياة نفسها حيث يرفض احتواءه في أنساق أو أنماط جاهزة، ولا يتردد في ممارسة نقد عنيف وجريء. إنه يرسم فقط شهادة، بالمعنى الأنطولوجي والاستطيقي. إنها شهادة ترفض النسق، لأن غايتها هي فقط تعقب آثار الفن وبصماته في الحاضر. إن الفن بهذا المعنى نوع من الحفر الأركيلوجي في الذاكرة الفنية للإنسان، تعقبه عملية تفكيك مضنية، قبل الشروع في إبداع لوحات تحتفي على حد تعبير عمان: "بذاكرة أناس مروا من هنا وتركوا آثارهم وذاكرتهم ومخيالهم الجمعي." مبارك عمان، هذا العاشق المتيم بالذاكرة، العلامات والرموز، بالنقوش، الأشكال والألوان والمواد الطبيعية؛ هذا المولع برصد التاريخ في علاقته بالحاضر، بصراعاته وانكساراته، أفراحه وهواجسه. هكذا يتحول الفن إلى تصور عام للعالم، إلى منهجية ذات عمق استراتيجي تتخطى الحدود وتتجول في دروب الذاكرة، لا من أجل الهروب من واقع صعب أو الانتصار لرؤية فولكلورية ضيقة بل من أجل التأسيس لتجربة فنية تستلهم الذاكرة المبعثرة في الكهوف والجدران والصخور. في المسافة الفاصلة بين الإرث الفني للإنسان وحاضره تسجل أعمال مبارك تدخلها. وفي هذه المسافة بالذات تسكن ركائزه هذه التجربة. إنها عملية وضع هذا الإرث الفني فوق طاولة التشريح، تشريح ركائزه ومسلماته التي تدخل بعد ذلك قارة الفن المعاصر لتستريح بعد عناء طويل. في هذا المنظور بالذات، وفي ضوء هذه الأبعاد المختلفة والمركبة لهذا المشروع الفني يؤسس هذا الفنان لمغامرة تتحرك في مواقع متباينة، وتقوم بقياس مساحات ماضية وحاضرة، كما تسافر عبر مسافات طويلة سعيا نحو الأفق. تطرح علينا هذه التجربة أيضا سؤالا عميقا واستراتيجيا حول قضايا العلاقات المتداخلة بين الفن الفلسفة والتاريخ. لقد استطاعت تجربة عمان تكسير الأنماط التقليدية والكلاسيكية المتداولة بحيث أصبحت اللحظة الفنية كما مارسها هو، في شكلها المتميز والاستثنائي تكثيفا لأبعاد وجودية، تاريخية، فنية، وفلسفية متشابكة في لوحاته. في هذا السياق الإبداعي العميق تحولت أعمال عمان ليس فقط إلى نوع من التداخل والتركيب الفني، بل إلى شكل من أشكال الهدم الابستيمولوجي لكل الحدود الفاصلة بين تجارب فنية ماضية أو معاصرة، أو بين أشكال تعبيرية مختلفة. مبارك عمان، ذلك الفنان الذي يحيى من أجل الفن والذي كرس حياته للتشكيل وحده، لم يدع يوما اعتناق مذهب أو الانتساب لمدرسة، ولم يطلب حتى الاحتفال بإبداعاته كما يحتل بغيره. بل سار وحيدا يلفت انتباهنا منذ أن اختار بجرأة وجودية قل نظيرها توديع مدرجات كلية الحقوق والاتجاه بدون تردد لعوالم الفن التشكيلي. انه يشتغل بصمت وتواضع مبدعا أعمالا فنية تستفز معرفتنا وتدعونا إلى المغامرة.