المؤتمر العاشر للاتحاد المغربي للشغل سمح لهذا الأخير بأن يظهر في صورة جديدة. ذلك أن المؤتمر حمل جديدًا وململ بنية ظلت في نظر الكثيرين نموذجا للتكلس والجمود. والمؤتمر حمَّل الأجهزة المنبثقة عنه بالتزامات كبرى من شأن تفعيلها أن يضمن تحولاً نوعيًا في المسار النقابي المغربي. لحظة المؤتمر مثلت إذن حقلاً لاجتماع عناصر إيجابية متعددة. ولذلك، يجب علينا الاعتراف بأنها شكلت لحظة تقدم، ومناسبة لتلقي رئة المركزية هواء جديدًا. بقي أن يسمح المستقبل بتحول هذه العناصر الإيجابية إلى أسس بنيوية في تشكيل وكيان الاتحاد المغربي للشغل. من المظاهر التي نُقَدِّرُ أنها إيجابية، والتي طبعت لحظة المؤتمر، نذكر مثلا: - حصول نقاش حقيقي وحيوي خلال مختلف أطوار المؤتمر. لم يكن هذا الأخير لحظة للتزكية والتصفيق وتكريس الاستمرارية، بل كان مناسبة لعرض الرأي والرأي المخالف، وحرَّكه السعي لتجويد الوثائق وتحسين المقررات وتطوير الاجتهاد والتفكير. - عدم تسجيل وجود مخطط للحد من النقاش أو قمع المتدخلين، أو حرمان المؤتمرين من حق عرض أفكارهم وآرائهم. كان هناك إذن جو من الحرية، ولم يُلاحظ أن جهة ما رتَّبت أمر مصادرتها. - الاتفاق على حصص لتمثيل النساء (20 %) والشباب في أجهزة المركزية، بل إن مشروع المقرر التنظيمي ذهب إلى حد الإيصاء ب"ضمان مشاركة وازنة للشباب في المؤتمر الوطني الحادي عشر للاتحاد بحيث لا تقل مشاركتهم عن نسبة %25 من المشاركين / ات في المؤتمر". وهذا الرقم يُعتبر اليوم قياسيًا. - انفتاح الجهاز التنفيذي الوطني على فعاليات من اليسار، وتجسيد نوع من التعددية التي لم تكن متاحة في السابق بهذا الشكل. ولقد ظهر أن المنظمة النقابية وخلال الخمسة عشر سنة الأخيرة، على وجه الخصوص، عرفت ازدياد تأثير اليساريين في عملها، رغم كثرة الصعوبات التي واجهوها. لم يسبق لهؤلاء أن تواجدوا بهذه القوة التي أبرزها المؤتمر اليوم، الشيء الذي جعل المؤتمر ينقل مجال تأثيرهم من المستوى المحلي والقطاعي إلى المستوى الوطني لعمل المركزية ككل. وفي هذا الصدد، يذكر مثلا أن تجربة جهة الرباط كانت نموذجية وقدمت مثالاً حيا لروح المثابرة والإقدام التي طبعت تحرك الأطر اليسارية الشابة في حظيرة إ.م.ش. - الاتفاق على الإجراءات الكفيلة بتحقيق نوع من الحسم المالي واللوجستيكي (لجنة المراقبة المالية)، والالتزام بإخضاع المرحلة المقبلة لتدبير مالي معقلن وشفاف وإحصاء وجرد ممتلكات المنظمة وتحديد مآلها، ووضع آليات التتبع والمراقبة في محاولة لاستبعاد أكثر ما يمكن من حالات التسيب وحالات استغلال موارد الاتحاد لأغراض خاصة. - التعهد بتمكين إ.م.ش من ترسانة قانونية وتشريعية داخلية تضبط العلاقات داخل القطاعات والجامعات وفيما بينها، وتحدد قواعد سير الأجهزة، وترسم أوجه المحاسبة والمسؤولية. وقد تم في هذا الصدد الاتفاق على "وضع نظام داخلي للاتحاد في مدة لا تتجاوز السنة، هدفه من جهة تدقيق القانون الأساسي، ومن جهة أخرى المساهمة في أجرأة المقرر التنظيمي". - عدم تعرض أجهزة الاتحاد للاختراق الذي توقعه البعض والذي كان يمكن أن يُخضع المركزية لرياح التأثير الصادر من جهة حزبية جديدة تحمل مواصفات الارتباط بأجهزة الدولة وتطمح إلى إضفاء نكهة يسارية وهمية على تحركاتها، وتحقيق نوع من التجاوز الشكلي لبعض سلوكات النخب التقليدية. - عدم خضوع المؤتمر لآليات التحكم المسبقة، وعدم وجود ما يوحي بأن ترتيبات المؤتمر ناءت تحت ثقل مخطط يهدف إلى إقصاء طرف ما، وتعزيز وجود طرف آخر، وتحضير قاعدة مؤتمرين على المقاس، وتحصين القيادة ضد تيارات النقد والاعتراض. طبعا كانت هناك كالعادة، مظاهر تنافس وسعي حثيث من طرف مختلف الحساسيات لرفع مستوى تمثيليتها، ولكن ذلك لم يصل إلى حد وضع خطة وطنية مركزية، لقطع الطريق على وصول "معارضي" القيادة إلى المؤتمر. - تبني إستراتيجية شاملة لإعادة هيكلة إ.م.ش، وإغناء بنيته بخلق مؤسسات جديدة (لجنة التحكيم)، وتفعيل المؤسسات القائمة، وشن حملة للاستقطاب والتجديد والتشبيب، وتوسيع رقعة التواجد. ويجذر بهذا الصدد التنويه مثلاً بمبادرة "تأسيس وهيكلة (مركز الاتحاد المغربي للشغل للتكوين النقابي والثقافة العمالية) وتوفير الإمكانيات المالية والبشرية واللوجستيكية الضرورية لتسييره"، على أساس ألا يظل مثل هذا الأمر هذه المرة حبيس الأوراق. - قبول القيام بوقفة نقدية مع الذات، والخلوص إلى أن الاتحاد مُطالب بتحقيق نوع من "التأهيل الديمقراطي" لمواجهة الخصاص الديمقراطي الملحوظ على امتداد المسار الطويل للتجربة. ويؤكد مشروع تقرير لجنة العلاقات مع المؤسسات التمثيلية والقوى السياسية والاجتماعية والمجتمع المدني، بهذا الخصوص، على أن الأمر "يستدعي منا بشكل هادئ ومسؤول إطلاق العنان لتفكيرنا الجماعي من خلال العمل على نقد تجربتنا نقدا بناءا ومسؤولاً من أجل الاستمرار في تجديد وتدقيق مفاهيمنا ومنهجية عملنا في هذا الاتجاه إن على المستوى المركزي والقطاعي أو الجهوي والمحلي. الأمر الذي يدعونا إلى مأسسة علاقتنا التنظيمية والاحتكام للديمقراطية سواء في التسيير أو القرار حتى نجعل من الاتحاد المغربي للشغل وجهة لعموم العاملات والعمال وسائر حلفائهم من مأجورات ومأجورين وكادحين". - نقد أداء الاتحاد المغربي للشغل داخل قبة البرلمان والمؤسسات الأخرى. فبعد تأكيد ضرورة التواجد وشرعيته، واعتباره حقا منتزعا نتيجة نضالات مريرة يجب مواصلتها، سجَّل مشروع التقرير المشار إليه سابقًا "أن تواجد الاتحاد المغربي للشغل داخل هذه المؤسسات يطرح علينا مساءلة الذات التنظيمية حول دور الاتحاد من خلال منتدباته ومنتدبيه وحول أدائه من خلالهن ومن خلالهم، وإلى أي حد استطاعت المنظمة بحضورها في هذه المؤسسات أن تجعل من هذه التمثيلية النقابية منبرا لفضح الأساليب الحكومية والممارسات المضادة حتى تضطلع بمهامها. إن منظمة نقابية بهذا التاريخ الزاخر، منظمة فاعلة في المجتمع المغربي على جميع الواجهات هي في حاجة ماسة وبشكل مستمر لتجديد منهجية عملها وأدائها داخل المؤسسات التمثيلية، وهو الأمر الذي يدعو إلى تطوير نمط مساهماتنا في هاته المؤسسات ليسمو لدرجة الأداء الفعال بدينامية تكون في مستوى تطلعات مناضلات ومناضلي المركزية وعموم الطبقة العاملة المغربية وأن يكون أطر الاتحاد المغربي للشغل خير مدافعين عن قضايا العاملات والعمال داخل هذه المؤسسات، سواء ذات الطابع التشريعي أو التمثيلي أو ذات صبغة المجالس الإدارية أو الاستشارية أو تلك المرتبطة بمجال تخليق الحياة العامة أو اللجان الوظيفية على المستوى الوطني أو الجهوي". - انتقاد الطريقة التي كان يجري بها اختيار ممثلي إ.م.ش في المؤسسات، بما فيها البرلمان، والتأكيد على "ضرورة اعتماد معايير الشفافية والديمقراطية والكفاءة والفعالية – وفق قوانين الاتحاد – لحظة اختيار ممثلاته وممثليه في كل المؤسسات والهيئات التمثيلية المعنية، مع ضرورة وضع الآليات التي تفرض امتثالهن وامتثالهم لتوجهات المنظمة لحظة التعبير أو اتخاذ المواقف التي تمليها القضايا ذات الصلة بالتمثيلية". ولهذا، تضمنت مشاريع الأوراق دعوة إلى اعتماد "مقاربة تداولية" حتى لا تظل مواقع التمثيلية حكرا على أحد. كما تضمنت المشاريع أيضا دعوة إلى "خلق إطار وطني لتتبع عمل ممثلات وممثلي الاتحاد في المؤسسات". - التأكيد الواضح على انتماء إ.م.ش إلى صفوف اليسار وتحالفه مع القوى الممثلة له. فهو "منظمة وطنية ديمقراطية تقدمية، وكذلك فصيل من فصائل اليسار الوطني التحرري، مع التأكد على أن أي تحالف يجب أن يكون مع قوى سياسية من هذه الطينة: قوى قوية وقادرة على الفعل اليومي داخل المجتمع". - الاقتناع بضرورة الانفتاح ونسج أواصر التنسيق والتضامن والعمل المشترك مع القوى الاجتماعية وهياكل المجتمع المدني التقدمية والديمقراطية، والالتزام ب"المساهمة في تأطير جميع المعارك التي تخوضها التنسيقيات التي تناهض غلاء المعيشة، وتدافع عن الخدمات العمومية والاجتماعية". هذا التقدم الذي سجله المؤتمر العاشر للاتحاد المغربي للشغل تدخلت فيه ربما عدة عوامل لعل أبرزها هو: أولا، تأثير الروافد البشرية الجديدة التي غذت صفوف المسيرين النقابيين، والتحاق أجيال جديدة بهذه الصفوف – رغم الضمور العام لقاعدة النقابات-. وهي أجيال لا علاقة لها بثقافة التسيير النقابي القديم. وثانيا، تقدير الأمين العام الجديد بأن عليه أن يعطي لمرحلته معنى متميزًا، وأن يقود المنظمة إلى تأهيل نفسها لمواجهة التحديات الجديدة والإكراهات القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تفرض موضوعيًا على البنية النقابية حدًا ضروريًا من التغيير. يكفي مثلاً أن نعلم أن عددًا من التجديدات التنظيمية التي أقرها المؤتمر العاشر ستُفرض مستقبلاً على جميع النقابات بقوة القانون. ومع ذلك، فإن المؤتمر عرف بعض السلبيات، منها مثلاً: - مواصلة العمل بأسلوب لجنة الترشيحات، علما بأن هذه الأخيرة كادت أن توقع المؤتمر في أزمة، بعد أن جاءت بقائمة لأعضاء اللجنة الإدارية تضم 163 اسما، بينما كان المؤتمر قد صوت على أن تضم القائمة 125 اسما فقط. - الكوطا النسائية لم تُوَفَّر لها شروط الأجرأة والتطبيق، كما أنها واجهت معارضة شرسة، مما يعني استمرار قوة النزعة المحافظة داخل المركزية، حتى وإن اتخذت لبوس اليسار الراديكالي أحيانًا. - استمرار الحديث عن إ.م.ش باعتباره "الممثل الشرعي"، وعدم دعوة المركزيات النقابية الأخرى لحضور جلسة افتتاح المؤتمر. - اعتماد الخطاب الرسمي للاتحاد على نفس الفهم الأورثودكسي لقضية وحدة الطبقة العاملة، والذي يرى أنها لا يمكن أن تتم إلا داخل إ.م.ش كمبدأ ثابت ومقدس لا يقبل النقاش، بينما الظرفية والتحولات الطارئة، والتي تفيد مثلا بأن الاتحاد لا يمثل اليوم وحده أغلبية الطبقة العاملة المغربية المنظمة، كافية وحدها لدفعنا إلى تبني مقاربة أكثر مرونة لقضية وحدة الطبقة العاملة. - اتسام الجانب السياسي في التقرير العام المقدم إلى المؤتمر العاشر ببعض أوجه الغموض والعمومية. فهو يضع تقريبا كل الأحزاب في سلة واحدة، ولا يعلق على أهم التحولات والأحداث التي عرفها الحقل السياسي منذ 16 سنة، كظاهرة التناوب والوافد السياسي الجديد...إلخ. وعلى العموم، فإن إ.م.ش خطا خطوة إلى الأمام عبر مؤتمره العاشر. فهل سيعقب ذلك خطو حثيث في نفس الاتجاه أم أن التراجع وارد؟ هناك اليوم، في حظيرة الاتحاد تعايش بين جناحين: أحدهما محافظ يمثل المدرسة القديمة ذات الطبع البيروقراطي المتأصل. هذا الجناح فقد بعضًا من مواقعه وسطوته، وجمد بعضًا من أساليبه في هذه المرحلة. وهناك جناح يساري، بدأ باكتساح بعض القطاعات، مثل الفلاحة والموظفين، ثم وصل مؤخرًا إلى مراكز القرار «الحساسة». الاتجاه المحافظ يحاول أن يبني شرعيته على رفع شعار الاستقلالية، زاعما أن «حياده السياسي» هو الذي يضمنها. علما بأن الكثير من المناكر اقتُرفت باسم الاستقلالية النقابية. أما الاتجاه اليساري فيحاول أن يبني شرعيته على النضالية، آملاً أن يتوصل إلى ربط إ.م.ش بمجرى الكفاح الديمقراطي وتخليق الحقل النقابي. وقع تقدم في إ.م.ش، لكنه حتى الآن ليس كافيًا للقول بأن السير المستقبلي للاتحاد قد حُسم. فهل سَيتوقف الحسم أساساً على عوامل آتية من خارج المنظمة النقابية أم على عوامل نابعة من داخلها؟ * عن "الحياة الجديدة" وباتفاق معها