عندما يدفعنا الآخرون إلى إخراجها من قلوبنا، وغالية أكثر عندما نكون مدفوعين إلى تقديمها لأعز الناس وأقربهم إلى هذه القلوب أيضا،
هي غالية بحق كغلاء الأوطان عندما تراق في سبيل عزتها، وسؤددها، وحريتها، وهي غالية بحق عندما تغادرنا إلى غير رجعة تاركة فراغ الحسرة على زهقها لأن من بعدها تذهب نفوسنا ضحية لذلك. وفي المقابل كم نرى لدى شعوب كثيرة في عالمنا المضطرب رخص "قطرة الدم" هذه عندما تزهق النفوس التي تحتضنها، وتتكور عليها طوال العمر، فإذا بالأيدي اللاعبة، اللاعنة للحياة وبتصرف نزق غير مسؤول تذهب قطرة الدم هذه والجسم الذي يحتضنها إلى النهايات، حيث لا بقاء لها، ولا للجسم الذي يحملها. إنها "قطرة الدم" التي تحيينا وتميتنا في آن واحد، ومن يشهد تأوهات الآخرين، وآلامهم، وأمالهم المعلقة في "قطرة الدم"، يقر يقينا كم هي غالية، ونادرة، وشحيحة، كم نحن قساة القلوب عندما تشرع أمامنا الطرق الآمنة للتبرع بها لإنقاذ حياوات الآخرين، وكم نحن يتملكنا الشح، والأنانية في مثل هذه المواقف؛ شح أنفسنا في بذل "قطرة الدم" هذه برضا، وبقناعة، وأنانيتنا عندما نريدها من الآخرين لإنقاذ أنفسنا، وإنقاذ من نحب، وإنقاذ من يعيش لحظتها الأخيرة – ربما – في هذه الحياة. "قطرة الدم" مشروع إنساني جميل لا يستحضره إلا القليلون جدا على اتساع الوطن الكبير، وما يدلل على ذلك أن قائمة المتبرعين قد لا تصل الألف فرد، مع المبالغة في هذه الرقم، بينما الوطن يضم الملايين من الأفراد، وكلهم يحتاجون إلى "قطرة الدم". عندما نرى إحدى سيارات الإسعاف التابعة لبنك الدم تجول بين الأسواق، أو المؤسسات، أو بين أحيائنا الجميلة نغض الطرف عنها، وقد نغير طريقنا خوف أن يدعونا من فيها "بكل ود" بالتبرع ب "قطرة الدم"، ولا يستبعد أن نهرب سريعا، أو نلوح بوجوهنا قبل المشرق أو المغرب خوف أن نصطدم بوجوههم الباسمة، وكأنهم يستعطفوننا، وهم كذلك، ومن قدر له مواجهة الموقف لا يستبعد أن يقول لهم: "والله أنا مشغول الحين"، أو "أنا قريبا تبرعت"، أو يحدث نفسه "هؤلاء ما عندهم شغل". وعندما يتضور احد أحبائنا في سرير المشفى نهرول سريعا إلى اقرب بنك ل "قطرة الدم"، نترجى، نتوسل، بل نستعد لأن نعطي كل دمائنا لهذا العزيز؛ أو أن ندفع الآلاف من العملات النقدية؛ المهم أن نرى اشراقة الحياة على محياه، بل نذهب بعيد فنتوسل الزائرين القريبين منا والبعيدين، ليس مهم معرفتهم،المهم أن يتبرعوا، أن يعطونا "قطرة الدم" الغالية، فغلاوتها في هذه اللحظة من غلاوة من يرقد على سرير المشفى. قدر لي ذات مرة أن ازور بنك الدم المركزي، وأنا المقل في هذه الزيارة للأسف الشديد أيضا، فصدمت حيث لم أجد إلا الطاقم الطبي الودود، لم أجد زخم أسواقنا، ومطاعمنا، وحدائقنا، أسرة المتبرعين، على قلتها، خالية، وأظن أن البنك أيضا لن تكون أرصدته، كما نقرأ في الصحف مثل أرصدة البنوك المالية المشبعة حتى التخمة. من يزر بنك الدم هنا أو هناك في أي منطقة من مناطق السلطنة الحبيبة، لن يجد إلا العدد "الخجول" في اليوم الواحد، بينما – المقابل – كم من "قطرة الدم" تفرَّغ في شوارعنا المشبعة بحوادث السير، حيث تفارق الأرواح أجسام أصحابها لأن "قطرة الدم" الغالية تختلط بتراب الأرض أحمد بن سالم الفلاحي