هو تاسع عقد إخوته لكنه ليس آخرهم، بل أعقبته ثلاثية مؤنثة، تخللنها أجنة تساقطت من تلقاء ذاتها، وأخرى رأت نور الحياة لكنها آثرت هجره مباشرة أو بعد حين لتتدخل الطبيعة نفسها في انتقاء من يصمد لمواجهة الحياة، ومن لا يتوفر على القدرات البيولوجية التي تؤهله لذلك. استبشرت الأم خيرا عندما ازدان فراشها بهذا المولود الذكر، خاصة أن مخاضه لم يكن عسيرا، كما أن ولادته تزامنت مع ليلة القدر المباركة. زد على ذلك أن جدته أهدت أمه نعجة بئيسة ذات عظام نخرة احتفاء بطلعته البهية! نشأ بين إخوته وأخواته تحت عتبة الفقر، وعانى الحرمان من كل شيء. فأبوه خماس لعائلة محظوظة نوعا ما استنادا إلى مؤشر الغنى والفقر في بلدته الذي لا يمكن أن يؤخذ به ولا أن يقاس عليه. إذ إن الغني في هذه البلدة لا يتجاوز دخله الحد الأدنى للأجور وطنيا! فالبلدة إذن بكاملها فقيرة إلى ربها، بل معدمة! ولولا تلاحم سكانها البسطاء وتضامنهم لخرجوا شاهرين سيوفهم –بل عصيهم، فمن أين لهم بالسيوف أو حتى السكاكين- في وجه الحكومة التي لا يعرفون من تكون؟ فأقصى درجات معرفتهم بالمخزن لا تتجاوز الشيخ، وسيارة الدرك، أو القايد في أحسن الأحوال. حرموا من كل شيء، لا ماء، ولا كهرباء، ولا مسالك طرقية، ولا التقاط لا لبت إذاعي، ولا تلفزي، ولا، ولا، ولا... يعيشون في عزلة تامة عن الوطن وتداعياته. حتى الدقيق المدعم و"حليب الملك" لم يعد يصلهم! أنهم ينتمون إلى المغرب جغرافيا فقط. ومع ذلك، فإن وطنيتهم تتجاوز في عمقها وطنية الوزراء والبرلمانيين الذين ينتجون الخطابات الاستهلاكية المبتذلة. فسكان هذا القصر كانوا في طليعة المسيرة الخضراء، وأول الرواد الذين اقتحموا بحماس وتلقائية الحدود الوهمية وعادوا مرفوعي الرأس. لا ينتظرون من المخزن لا وساما ولا بطاقة نضال ولا مقاومة، إيمانا منهم بأنهم إنما قاموا بواجبهم على الوجه الأكمل. تربى إذن حديدو، حدو، أحمد، أو مولاي أحمد، وكلها تسميات لمسمى واحد داخل بيئة تنعدم فيها شروط العيش المادي الكريم، لكنه في المقابل، رضع من ثدي أمه روح الكرامة المعنوية، وتفاعل مع قوم مجبولين على الصدق والمحبة لوجه الله. لم يعرف الأحذية في مقتبل عمره قط مثله في ذلك مثل أقرانه الذين يمشون حفاة وشبه عراة إلا من عباءات صوفية مهترئة تغطي عوراتهم. تكونت تحت رجليه بسبب المشي حافيا على الأتربة والأحجار والقاذورات طبقة سميكة صلبة سوداء اللون. وغالبا ما كان يتعثر في مشيته وتدمى أصابعه إلى أن اكتسبت مناعة عجيبة وغريبة. فهو يلعب الكرة حافيا، وإذا حدث أن ارتطم به قدم أحدهم المنتعل لحذاء كيفما كان نوعه، فإنه لا يشعر بتاتا بوقع هذا الاحتكاك، بل غالبا ما يصاب صاحب الحذاء بتوعك وألم فضيعين! دخل المدرسة حافيا فرق قلب المعلم لحاله، وعند عودته في إحدى العطل أهداه أول حذاء عرفه في حياته، وهو عبارة عن زوج بلاستيكي من النوع الرديء المخصص للوضوء في المساجد، أو لدخول الحمامات العمومية. كما أن هذه "الصندالة" السوداء كانت طويلة جدا. ومن فرط فرحته بها كان يحملها بين يديه إلى باب المدرسة حيث يدخل بها إلى القسم، وما أن تنتهي حصة الدرس حتى يحملها ثانية عائدا إلى بيته الذي يبعد بثلاث كيلومترات عن المدرسة. حدث ذات يوم من أيام الله المتشابهة حد التطابق أن كان يساعد أباه في تقليب الأرض بفأس كبيرة وهو لا يتجاوز الثامنة من عمره، وإذا بمسمار صدء ينغرس في رجله اليسرى. تألم كثيرا بعد أن نزع أباه المسمار بصعوبة وأسعفه باستعمال عشب "أنشفال" حيث توقف النزيف الحاد. بعد هنيهة هدأ روع حديدو، فحمد الله وشكره. على محدودية مصابه، وعلى عدم انتعاله "للصندالة" وإلا كانت أصيبت بثقب عميق! فهو يفضل أن تصاب رجله على أن تصاب صندالته البلاستيكية! فهي أغلى وأثمن ما يتوفر عليه. يغسلها ويمسحها بعناية واضعا إياها دائما تحت وسادته حتى لا يسرقها منه احد إخوته الكبار. فقد سبق لأخيه عمر أن طلب منه استعارتها لحضور أحد الأعراس إلا أن طلبه قوبل بالرفض المطلق من لدن أحمد. كما أنه استشاط غضبا وبكى بملء مقلتيه حين عاد يوما وسأل أمه عن الصندالة فأخبرته بأن أباه لبسها للذهاب إلى خطبة الجمعة. فالأمر لا يتعلق فقط بالصندالة في حد ذاتها، بل برمزيتها وكونها هدية من المعلم الذي كان يهابه الجميع ويختزل في شخصه ذلك الآخر المنطوي على شتى الأسرار، والنموذج الأعلى والأمثل للمحاكاة. صارت "المشاية" أو"القرقابة" إذن شيئا مقدسا يتبرك به أحمد، يتبيهس به أمام أترابه وذويه، ولم يعد يستسيغ تدنيس حرمتها والتطاول عليها من لدن الأرجل المتسخة ولو تعلق الأمر حتى بأرجل أبيه أو أمه! بعد انتهاء السنة الدراسية ونجاح أحمد مسح الصندالة جيدا، ووضعها داخل وسادته بعد أن غطاها بالصوف، قبل أن تخيط أمه الوسادة ليطمئن على مآلها. سافر الأب للحصاد في الغرب، وعاد مع انطلاق الموسم الدراسي. وكم كانت فرحة حديدو كبيرة عندما أحضر له حذاء جلديا أسودا أعطاه إياه ابن صاحب الضيعة التي كان يشتغل بها. أخذه أحمد وضمه إلى صدره، وبدأ يدندن ويلمسه براحة يديه، يقلبه ذات اليمين وذات الشمال، يتأمل جلده وشكله وطريقة صنعه، يخرج الخيوط من ثقوبها ويعيدها ثانية ... أدخل فردة في رجله اليمنى الصغيرة فغابت داخل هذا الحذاء الطويل العريض الرجالي. قلبه على ظهره وإذا به يفاجأ بمقاس 44 وهو الرقم نفسه الذي يوجد بصندالته العجيبة التي أخرجتها الأم من مخبئها بعد أن طلب منها أحمد ذلك. ناولها حديدو "الصباط" ووضعت كمية من الصوف في مقدمته حتى لا تنزاح رجليه منه بعد أن حكمت عقد الخيط. وقف، بدأ يخطو قليلا متأملا منظر رجليه التي اكتست أخيرا بعد طول عراء. أوصى أمه خيرا بالصندالة، وأخذ الصباط بين يديه كالعادة مفضلا السير حافيا إلى أن وصل إلى المدرسة. عند دخوله القسم ألم به إحساس غريب، وأصيب بصدمة عجيبة جراء اكتشافه بأن حذاءه يشبه تماما حذاء المعلم. صار هذا الأمر مفخرة بالنسبة إليه، وشعر بنوع من التماهي والحلول في ذات معلمه بما يحمله من قيم سامية، ومكانة اجتماعية وحكامة أخلاقية، دفعه هذا الأمر إلى مزيد من الجد والمثابرة، فتفتقت عبقريته، وأصبح يحتل المراتب الأولى، ويحظى بتشجيع وتنويه أساتذته ومعلميه. تحول رقم 44 إلى حسن طالع بالنسبة إليه، وعند بداية كل دخول مدرسي يعود أباه من الحصاد حاملا الأحذية القديمة لابن صاحب الضيعة ليغدق بها على أحمد الذي بدأ يكبر، إلى أن صار هو الآخر أستاذا، وبدأ يشتري أحذيته الجديدة، ولكن دائما بنفس الرقم، أي 44.