في البدء كانت صرخة.. صرخة مدوية اختلطت بهدير رياح شقت رتابة ليل طويل. هي ليلة باردة من ليالي يناير الماطرة، وبين جنبات ضريح"مولاي علي بوغالب"، الحارس الأمين لمدينة الأسرار، وسيد ساداتها وأوليائها، تردد صدى صراخ لمولود جديد. ففي الجهة المقابلة للضريح، وبمنزل لا يبعد عنه سوى بخطوات قليلة، ويطل مباشرة على"باب العار" استُقبِل ضيف صغير، مولود ذكر سينضاف لجيل المريدين والعاشقين لأزقة مدينة تعبق بإرث وتراث الأولين ممن مروا بهذه البقاع، ورَوَوا بدمائهم الزكية، في معركة وادي المخازن، ربوع المدينة الطاهرة. في هذا المحيط الآسر بسحر المكان وروعة الزمان، سيقضي ذاك الصبي زهرة طفولته الأولى، وسيغوص في عالم مليء بالدهشة والتفرد. وأول تلك العوالم العجيبة التي أبصرتها عيناه باب ليست كبقية الأبواب، بمدخله المقوس الذي أبدعته أيادي صناع مهرة في فن العمارة، وبداخله صهريج مياه باردة في الصيف كما في الشتاء، وهي تتدفق من صنبور نحاسي دون انقطاع، لتحدث ما يشبه نغمات متجانسة على سلم موسيقي بديع، إنه "باب العار". تتوالي الأيام لتصبح من عادة الصبي الصغير أن يراقب من شرفة المنزل المطل على باب العار، في اندهاش ولساعات طوال، أفواجا من الزوار نساءا في غالبيتهم، ممن يحجون إليه إما للسقاية أو للزيارة والاستراحة. وقد كانت أغلب تلك النسوة يشترين شموعا من باعة في الجوار يعرضون بضاعتهم من الشموع على اختلاف أشكالها، يقتنينها لإشعالها في الأركان الأربعة للمكان. وكم كان منظر تلك الشموع أخاذا وهي تضيء المكان ليلا. ربما لم يكن يخطر ببال من كن يقمن بإشعال شمعة أنها تترك حبورا لدى الأطفال الصغار ممن يلعبون في الجوار، ولربما كانت بهجة النسوة على قدر نذرهن الذي أضأن من أجله تلك الشموع. كان الصبي الصغير يتوق لليوم الذي تطأ فيه قدماه الصغيرتان ذاك العالم الذي يتراءى له على مرمى حجر، فقد كانت مشاهداته تتم فقط من شرفة المنزل. وفي يوم لا ينسى، كان على موعد مع زيارته الأولى لباب العار، تلك الزيارة التي سحرت عقله الصغير، فكانت بداية قصة عشق للمكان.