غير بعيد عن مستشفيات ابن سينا الجامعي والشيخ زايد والعسكري والرازي للأمراض العقلية وغيرها من المصحات العامة والخاصة، وهي المراكز الاستشفائية المجهزة بأحدث التقنيات في مجال التطبيب، تؤوي العاصمة الإدارية للمملكة، بالمقابل، عددا من الأضرحة التي ما فتئت تستقبل فئة معينة من المواطنين بقصد التداوي من أمراض استعصى على الطب الحديث إيجاد الدواء الناجع لها أو لعدم قدرة المواطن البسيط على دفع التكلفة، بينما تأبى فئة من الفتيات إلا أن تلوذ ببعض هذه الأضرحة طلبا لعريس طال انتظاره. عرفت العاصمة الإدارية للمملكة، منذ القدم، بمآثرها التاريخية المشهورة كقصبة الوداية وشالة وصومعة حسان وأبوابها وأسوارها العتيقة المتعددة كباب الرواح وباب الأحد وغيرها، لكن ما لا يعرفه العديد من زوار المدينة، هو أن من وراء جدران العاصمة ترقد جثامين أشخاص يقال عنهم أولياء، شاء التاريخ والظروف الاجتماعية المختلفة أن يحظوا بمكانة خاصة من طرف الإنسان الرباطي الذي أبى إلا أن يُشيد لهم قبورا، تختلف قيمتها العمرانية، من ضريح إلى آخر، وهي القبور التي تحولت عبر الأزمنة المتعاقبة من تاريخ المغرب إلى أضرحة شُيدت على الطراز المغربي التقليدي، الذي يتخذ من القباب والزخرفة والنقوش مظاهر للاحتفاء بأمكنة لها من القداسة والاحترام لدى المغاربة ما يجعلهم يبرعون في جعلها تحفا عمرانية. الأضرحة... المستشفيات! لم تستأثر أضرحة الأولياء، بالعاصمة المغربية الرباط، باهتمام الباحث المغربي فقط، بل كانت كذلك محط اهتمام الباحثين الأجانب كالمستشرق ليفي بروفينسال الذي تحظى الأضرحة، حسبه، بمكانة خاصة جدا في التاريخ الاجتماعي المغربي، وفي كتابه «مؤرخو الشرفاء»، قال ليفي «إن المغرب له مكان الريادة على مستوى العالم الإسلامي، من حيث إيواؤه لعدد هائل من أضرحة الأولياء؛ فمدينة الرباط ونواحيها وحدها يوجد بها أكثر من عشرة أضرحة، إضافة إلى العشرات من قبور الأولياء والصالحين المنتشرة في مختلف مناطق المغرب». وباختلاف أضرحة العاصمة الإدارية للمملكة الشريفة، تختلف أيضا «بركاتها» التي يتبرك بها الزوار القادمون إليها من أجل قضاء حاجة في أنفسهم أو الاستشفاء من مرض قد يستعصي حتى على الأطباء إيجاد دواء لعلاجه، فتغدو تلك البركات بمثابة اختصاصات، فيختص كل واحد من هذه الأضرحة في تقديم وصفة العلاج المناسبة للحالة المعروضة عليه، وهي الوصفة التي قد لا تكلف غير أداء ثمن بعض الشموع. فأضرحة سيدي اليابوري وسيدي العربي بن السايح وسيدي القجيري وسيدي بومجيمر وسيدي الحاج بن عاشر وسيدي عبد الله بن حسون وسيدي موسى، وغيرها من الأضرحة التي تتوزع على العدوتين الرباطوسلا ونواحيهما، كلها أماكن يحج إليها الزوار من المدينتين ومن خارجهما، إن لم يكن ذلك طمعا في جلب عريس لعانس أو حظ لتعس أو لطلب العافية من مرض، فعلى الأقل من أجل راحة نفسية لم يجدها أشخاص حتى في صالونات عيادات مكيفة لأطباء نفسانيين، كما صرح بذلك أكثر من شخص. بحث عن عريس! يثير انتباه مرتادي الساحل الأطلسي بمدينة الرباط، بالقرب من قصبة الوداية التاريخية، توافد زوار على ضريح حيث يرقد جثمان شخص يدعى سيدي اليابوري، والذي شُيد بجانب البحر ليظل عبر السنين مزارا للعوانس من الفتيات بقصد الاغتسال بمياهه لجلب السعد، الذي ليس إلا زوجا يحول دونه الحاسدون والسحرة، تقول «سعيدة» الثلاثينية، والتي لم ترفض الحديث إلى «المساء»، وإن ألمحت إلى أن الاسم الذي أدلت به غير حقيقي. وأقسمت بأن «بركة» سيدي اليابوري هي من أنقذت إحدى صديقاتها من أن تبقى «بايرة»، عندما تزوجت من مغربي مقيم بإيطاليا، ولتعيش معه هناك إلى جانب ابنهما، بعدما كانت مواظبة على زيارة هذا الضريح كل يوم أربعاء والاغتسال بمائه. وتحكي روايات الزوار أن الاغتسال بمياه «الولي» جزئيا أو كليا، إن استطاعت الزائرة إلى ذلك سبيلا داخل الضريح يوم الأربعاء، سيجعلها تتخلص من السحر أو العين فتضحي الطريق سالكة أمام فتى الأحلام ليخطب ود هذه الفتاة. وبالإضافة إلى بركة منح الأزواج فالضريح كذلك معروف بأنه يزيل «التثقاف» وهو السحر الذي يحول بين المرء وزوجه فيجعل العلاقة الزوجية تفتقد إلى المعاشرة الطبيعية. وتتناسل بالعاصمة الإدارية العديد من الأضرحة، التي تعرف حركات دؤوبة من قِبل الزوار، بينما تجد مريدات بلغن من العمر عتيا، يشرفن على تنظيف فضاءات تلك الأضرحة، مقابل الاستحواذ على بيع الشموع بأبوابها للزوار، الذين لن يشفع لهم عالمنا المتطور اليوم بطرق أبواب هذه الأضرحة؛ فالناس ما زالوا يتجهون إلى الممارسات غير المفهومة ويدمنون عليها، كما يورد الدكتور مصطفى أخميس، في كتابه «طقوس وأسرار أضرحة الدارالبيضاء»، الذي يوضح أيضا أنه سوف تتواصل العادة لسنوات مقبلة، لأن هذا في واقع الأمر نتاج ما انغرس في نفوس الناس منذ صباهم، «قدسية» الضريح. عيادات للطب النفسي لم تعر امرأة تحمل بين ذراعيها رضيعا في ربيعه الأول، وهي تجتاز باب سيدي القجيري الكائن في زقاق مزدحم بالمارة بالعاصمة، أي اهتمام لسؤالنا لها حول دواعي زيارتها لهذا الضريح، ولكن بائعة الشموع المتدترة برداء أخضر فاقع لونه، والجالسة القرفصاء أمام الضريح تكفلت بالإجابة. حسب رأيها فإن سيدي القجيري يشفي من «العوّاقة» التي تصيب حلق الأطفال الصغار، بالإضافة إلى أمراض أخرى يكون الرضع عرضة لها؛ ذلك ما يظهره المكان الممتلئ بالنساء الحاملات بين أيديهن رُضعا، منهم كثيرون يصرخون، وكأنهم بذلك يحتجون ضد فناء الضريح هذا الذي تعمه الفوضى، حيث أزبال متناثرة هنا وهناك وقطط بئيسة تثقل الخطى في اتجاه قاذورات علّها تجد بها ما يسد الرمق، بينما كلب ضال يقف عند الباب غير آبه بزوار ألِف وجودهم بالمكان. في «السويقة»، بالمدينة القديمة أيضا، وبمحاذاة أحد الأسوار الأثرية التي تفصل هذه المدينة عن شارع الحسن الثاني النابض بالحيوية، تكثر الحركة، خاصة بعد توقيت العصر. ورغم أن سكان مدينة الرباط ألفوا المرور أمام هذا الضريح أو ذاك، إلا أن العديد من هؤلاء لا يجد أدنى حرج في وصف «سيدي بومسيمر»، بأنه مُشفي الجرب والعديد من الأمراض الجلدية الأخرى. ويسترسل إدريس وهو أحد الباعة المتجولين، يروج بضاعته بالقرب من ضريح بومسيمر، في سرد حالات أتت إلى المكان للتبرك فنفعتها البركة. وألح البائع على ذكر حالة شخص قريب له كان مجرابا، فاقترح عليه هو نفسه زيارة الضريح فكان له الشفاء. وعلى الضفة الأخرى لنهر أبي رقراق، وبالقرب من حي شعبي بمدينة سلا، يرقد «سيدي الحاج بن عاشر»، الذي أحيط ضريحه بمقبرة لموتى سكان المدينة. قبته المبيضة بالطلاء باتت إحدى مكونات المقبرة في ذاكرة زوارها، والذين لا يترددون في التبرك في الغالب بالضريح بعد أن يُعرجوا على الترحم على فقيد مدفون هناك. ولكن زيارة هذا الولي أفضل بكثير من زيارة الفقيد، يقول «السي محمد»، الذي قدم نفسه على أنه حفيد الحاج بن عاشر، وأحد الساهرين على العناية بضريحه. وحسب هذا الحفيد فالضريح قبلة للمجانين والمرضى نفسيا وحتى الصبيان منهم المصابين بمرض «الجعرة»، فإن الولي ينفعهم ببركته، ويكفي بالنسبة للمراهق المجنون أن يعكف على التمسح بجدران الضريح الداخلية، وأن تضع أم الصبي صبيها بإحدى نوافذه ثم تنبري تطوف حول الضريح، ليأتي الصرْع، فيخرج الجن من المصاب ويتعافى من مرضه، يروي حفيد هذا الولي. طقوس غريبة كانت كل التحركات والإقبال المكثف للزوار على ضريح سيدي موسى الكائن بالحي الذي يحمل اسمه والمطل على المحيط الأطلسي، قُبيل العصر في هذا اليوم الاثنين، تشي بالاستعداد لشيء ما سيحدث؛ الزوار معظمهم من النساء والكثيرات منهن فتيات بلباس عصري. وغير بعيد، مقابل الضريح ببضعة أمتار، احتشد بعض الشباب الذين يحملون غيطة وطبولا، وإلى جانبهم آخرون يخوضون في عزف معزوفات من تراث «كناوة»! وسرعان ما بدأ أصحاب الغيطة هم الآخرون في تقديم عروضهم، فلم يكونوا غير فرقة «حمادشة»، التي تنشط هنا عصر كل اثنين احتفاء ب«رجال البلاد»، في هذا المكان ذي الجغرافيا الرائعة على ضفاف الأطلسي، الذي أبى الراقد هنا «سيدي موسى»، وإلى جانبه «عائشة البحرية»، إلا أن يختاراه، قبل قرون من الزمان، للإقامة، حيث لم يعيشا ما يعيشه اليوم المغاربة من مشكلات مع ضيق الوعاء العقاري المخصص لدفن موتى المسلمين. يرتفع صوت الغيطة وقرع الطبول ويتكاثف الزوار على شكل حلقات فاغرين أفواههم يتابعون عروض «حمادشة» و«كناوة»، بينما فتيات ونسوة عجائز أخذتهن الجذبة التي يصل إليها الشخص عندما يندمج جسدا وروحا مع إيقاعات الحضرة؛ إنها لحظة الذروة بالنسبة للمصابات بعين أو حسد أو سحر، فيحول دونهن والعريس الموعود حائل، وبالحضرة سيتم لفظ «الدْيار» أو «السحر»، تقول فتاة تراقب شقيقتها التي تخوض في جذبتها، والتي تأتي منذ أسابيع عدة إلى نفس المكان من أجل نفس الطقوس علّ ذلك يخفف من معاناتها وأزماتها النفسية، فليست هنا بقصد البحث عن عريس، كما تقر أختها، وإن كانت معظم الفتيات يأتين لهذا الغرض، ولكنها تواظب كل اثنين على حضور عروض «حمادشة»، فقط للترويح عن نفسها بالحضرة. وبينما كانت الأجساد الذكورية والأنثوية تتزاحم مشرئبة بأعناقها إلى داخل «الحلْقة»، كانت فتيات عديدات منهن من ترافقهن أمهاتهن، يتجهن نحو صخور منحدرة نحو مياه المحيط؛ منهن من تحمل ديكة حمراء وسوداء، ومنهن من اكتفت بقوارير ماء الزهر وشموع وحناء، قاصدات عائشة «مولات المواج» مانحة الأزواج. وعند منحدرات تلك الصخور يطالعك شباب تبدو ملامحهم كملامح ذوي السوابق الإجرامية، يسارعون إلى مساعدة هؤلاء الفتيات على النزول إلى المنحدر فينحرون أمامهن تلك الديكة ويدمدمون بكلام لا تعرف منه إلا القليل، ثم يطالبون الفتيات ب«الفْتوح»، أي القليل من المال بعدما يأخذون الذبيحة، ثم يطفقون إلى توديع هؤلاء الفتيات، وقد أخبروهن بقضاء حوائجهن من طرف «جدِّهم سيدي موسى وجدَّتهم عائشة البحرية». وغير بعيد عن هذه المنحدرات يثير انتباه الزائر رجالٌ يلتفتون التفاتة الوجلين، يمينا ويسارا، ثم يختفون فجأة وراء صخرة من الصخور ليظهروا بعد فترة قصيرة؛ إنهم يقصدون المكان أيضا للاستشفاء من مرض اسمه الضعف الجنسي، والوصفة، كما روى أحد الذين يشتغلون بها، هي بيع هؤلاء المرضى سمكا صغيرا اصطادوه بالقرب من عائشة البحرية، فيضع المريض الواحدة من هذا السمك على عضوه التناسلي، ويحكه بها ثم يرمي بها في البحر، ليكون ذلك كافيا لاستعادة فحولته، حسب هؤلاء الصيادين للسمك والبشر. عمران: زيارة الأضرحة يكرسها تقصير الدولة في أداء واجبها الاجتماعي يرى الباحث في علم الاجتماع عبد الرحيم عمران أن ظاهرة زيارة الأضرحة عموما، ليست ظاهرة دخيلة على المغرب بل تعتبر ظاهرة متجذرة في المجتمع المغربي، ولها امتداد تاريخي، ولكن بالمقابل هناك ظروف عدة كذلك تساهم في تكريس هذه الوضعية الاجتماعية؛ ومن ذلك ضعف المستوى التعليمي وغياب دور فعال للدولة في أداء واجبها في توعية أفراد المجتمع، بالإضافة إلى غياب سياسة ناجعة في مجال التغطية الاجتماعية والتطبيب لفائدة المواطنين، الذين يضطرون إلى البحث عن وسائط وبدائل بقصد الاستشفاء من أمراض تكون مستعصية أحيانا حتى على المستشفيات سواء الخاصة منها أو العامة. ويضيف الباحث الاجتماعي أن مسألة التجذر التاريخي والثقافي في الاعتقاد، لدى شرائح مختلفة من أفراد المجتمع، برمزية الأضرحة، يتحكم فيه عامل الوعي ومستواه لدى كل شريحة على حِدة، وبمستويات متفاوتة، مؤكدا على أن مسألة ارتياد الأضرحة لا تقتصر على فئة بعينها، ولكنها تشمل شرائح مختلفة من المجتمع، وإن كانت نسبة الإقبال تضعف أو تتقوى لدى هذه الفئة أو تلك. وأكد عمران على أن الامتداد التاريخي لظاهرة زيارة الأضرحة بالمغرب، ينفي ما يقول به البعض من كون ذلك مصدره الانفتاح الذي تعرفه بلادنا على مختلف الأصعدة، حيث لا التكنولوجيا ولا تَفتح المغرب على باقي الثقافات الأخرى، لم يؤثرا، بشكل أو بآخر، على انتشار الظاهرة بالمغرب، وإنما هذه الظاهرة تجد لها عمقا ضاربة جذوره في التاريخ المغربي، وتكرسه عوامل نفسية واجتماعية متداخلة، وهو ما يظهر جليا من خلال تصرفات مرتادي هذه الأضرحة، الذين يعتقدون بالانتماء العائلي والسلالي العريق للراقدين تحت الثرى بهذه الأضرحة، ما يساعد على استمرار الظاهرة، وأحيانا بشكل أكثر حدة من خلال إقدام الزوار على بعض الأفعال والتصرفات الغريبة. وخلص الباحث الاجتماعي إلى أن الظروف الاقتصادية كذلك لأفراد المجتمع وغياب الإمكانيات الضرورية لتلبية الحاجيات اليومية، من خلال ضعف القدرة الشرائية وغلاء فاتورة الخدمة في المجال الطبي وغياب دور فعال للدولة، من أجل تعميم ولوج المؤسسات الصحية على المواطنين، لها دور أساسي في لجوء هؤلاء المواطنين إلى بدائل ووسائط أخرى، فتصبح الأضرحة خيارا، من بين خيارات واستراتيجيات أخرى للعيش وملاذا لهؤلاء للبحث عن تلبية حاجيات افتقدوها بمؤسسات عمومية.