منهم المغمور الذي لا يتجاوز عدد زائريه أصابع اليد الواحدة.. ومنهم المشهور الذي يتوافد عليه الآلاف من الزوار سنويا، بعد أن طبقت شهرتهم الآفاق في علاج القلق الجنسي والنفسي ومرض العقم والسعال الديكي (العوّاية) وفكّ العكس وطرد شبح العنوسة.. والأدهى من كل هذا أنه أصبح هناك مفتونون بهؤلاء، يقسمون بأسمائهم ويدّعون «بركتهم»، ومبالغة في تعظيمهم، جعلوا لزيارتهم «آدابا» ما دام ذلك الراقد في الضريح محاطا بسياح حديدي أو بجدار إسمنتي أو خشبي ومن خلال تمسحهم بمرقده والتماسهم مدده وبركاته «شافعا»، حسب ما وقر في قلوبهم. ندعوكم إلى التّعرّف على طقوس تعظيم أربعة أولياء: سيدي محمد مرس السلطان وسيدي محمد مول الصبيان، في الدارالبيضاء، ومولاي بوشعيب ولالة عيشة البحرية، في آزمور، لِما عُرف عنهم من تقوى وورع وما أوثِر عنهم من «كرامات» بهالة تجاوزت الإجلال المطلوب للعالِم لتتحول إلى تقديس واستبراك يرجى من ورائهما تحقّق المعجزات. أشخاص يمسكون بكل قوتهم بسياج معدني أو خشبي، يطلبون «برَكة» الراقد داخله تحت بناء إسمنتي لقضاء حوائجهم وتفريج كربهم.. وآخرون يطوفون حوله، يتمتمون بكلمات غير مفهومة.. وتلك امرأة ترفع طفلها الصغير وتهزّه، راجية البرَكة.. فئة تحمل السكر والشاي الشموع، وأخرى فضلت حمل الذبائح هدية ل«مُولْ المْكانْ».. هناك من يعكف في المكان أياما، وربما أسابيع أو شهورا، التماسا لشفاءٍ أو لقضاءِ حاجة.. وهناك من تراه غارقا في «خشوعه» حتى يبلغ به التأثر مداه فيجهش بالبكاء، وهو يرنو، في انكسار، إلى الرابض خلف السيّاج.. مَشاهد متفرقة ستجدون تفاصيلها في رحلة مثيرة بدأت في الدارالبيضاء وانتهت في آزمور. قاهر العُوّاية.. ليس حظ الأولياء واحدا، فبعض الأضرحة كانت خاوية على عروشها، لا تجد من يُحْدث جلبة فيها تقطع سكينة المكان.. كان هذا حالَ ضريحَي كل من سيدي بليوط وللا تاجة، فالأول شبه فارع والثاني مغلق.. وحسب القَيِّم على الأول فإن سيدي بليوط «رجل من الأولياء الصالحين، يوجد تاريخه لدى مؤرخ المملكة وليس لديّ ما أفيدكم به»، كما قال قبل أن يقفل باب مسكنه في وجهنا.. ما هي الأسباب التي تجعل الضريحين لا بركة لهما على غرار نظرائهما؟.. سؤال تردد في ذهننا طيلة المسافة التي قطعناها في اتجاه ضريح سيدي محمد مرس السلطان، دون أن نجد له جوابا. وراء شارع عبد المومن، وسط العمارات الحديثة، التي كانت حتى عهد قريب عبارة عن فيلات، يتواجد ضريح سيدي محمد مرس السلطان، الذي يقطع ضجيج نقّاشات الحناء، اللواتي احتلن الرصيف المجاور للباب الرئيسي للضريح، من جهة، وزائراته من جهة ثانية، هدوءَ الحي، بسبب توافدهن، الذي لا ينقطع التماسا ل«بركاته» المتعددة، التي ذاع صيتها. من أولى قواعد وآداب «الزيارة»، والتي لا يمكن تجاهُلها أو التخلي عنها، بأي حال، شراءُ الشموع من شخص له غصن من فرع شجرة الولي.. بهذا يقضي «العرف». تشير مصادرنا إلى أن الشمع الذي يلقى به من خلال الشباك الحديدي يتم جمعه وبيعه مرة أخرى.. وهكذا يتم ضرب عصفورين بحجر واحد، وتابعت المصادر أن «برَكة» سيدي محمد كانت تنحصر في علاج السعال الديكي (العُوّاية) والقلق النفسي لدى البالغين، قبل أن يضيف القيّمون على الضريح تخصصات أخرى، مثل «ضْريب اللّدونْ» وطرد شبح العنوسة، لجلب موارد أخرى للضريح.. قبل أن ندخل القبّة حيث ووريّ جثمان سيدي محمد، كان علينا احترام آداب الزيارة، بدءاً بخلع نعالنا ووضعها إلى جانب العشرات من النعال، مختلفة الألوان والأحجام. كان يظهر على جميع الزائرات الخشوع والسكينة، منهنّ من وضعت يدها على السياج المعدني الذي يحيط بالقبر، تتمسّح به ثم تقبّل يديها، ومنهن من أمسكت بالسياج بقوة، تناجي ذلك الراقد تحت الإسمنت، جهرا أو سرا. تتلقى خادمة الضريح هدايا من الوافدين، تتكون من سكر وشاي وحليب ودواجن، تُقدَّم تقربا وتزلفا، تقول مصادرنا، مؤكدة أن الدجاج يُذبَح تقرّبا، حتى يتحقق علاج السعال الديكي لدى الأطفال، بينما يتم توزيع باقي الهدايا بالتساوي مع باقي القيِّمين على الضريح. «برَكة» سيدي محمد لا تضاهيها بركة في علاج «العواية»، إلى جانب القلق النفسي وحتى حالات الصرع المستعصية، يقول مصدرنا، قبل أن يضيف أن مستشفى الأطفال (المعروف باسم لالّة مْريم) الذي لا يبعد كثيرا عن الضريح، ينصح «أطباؤه» الأمهات بحمل أطفالهن إلى هنا من أجل اختصار المراحل التي لا بد أن يقطعها العلاج قبل أن يبدأ في إعطاء مفعوله.. وهو ما طرح أمامنا تساؤلا كبيرا حول مدى صدق خادمة الضريح، من جهة، وحول جدوى الأبحاث العلمية في المجال الطبي وحقنة السعال الديكي، من جهة ثانية!.. من أجل التعرف على باقي «كرامات» الولي سيدي محمد، يتم الكشف عن السلسلة المبروكة، ليُشرَع في عدّ الأشخاص الذين تم علاجهم بواسطتها ليعودوا إلى حالتهم الطبيعية.. فالعديد من الأشخاص جاؤوا إلى الضريح محمولين على الأيدي وخرجوا يمشون على أرجلهم، بإذن الله، و«بركة» الولي الصالح. ونحن نغادر الضريح، لمحنا مساحة ضيقة ملفوفة بثوب ذهبت أشعة الشمس والرطوبة بلونها.. تشرح مصادرنا أن داخل المكان تجري عملية «ضرب اللدونْ» للفتاة العازبة من أجل «فك العكس».. ف«برَكة» سيدي محمد أصبحت تشمل بعطفها حتى الفتيات الراغبات في الزواج، وكثيرا ما تأتي الفتيات لطرد النحس عنهن، قبل أن يكشفن أنّ الغرفة الأخرى تُستغَلّ في تذويب «اللدون» من أجل استعماله من جديد.. منقذ الصبية كان أغلب رواد سيدي محمد مول الصبيان، الذي يوجد ضريحه وسط حي الواحة (الوازيس) نساء مرفقات بصبية ورُضّع.. والسبب «معجزة» الولي في إنقاذ حياة الأطفال من شرور أم الصبيان أو «التّابْعة» كما نسميها بلغتنا الدارجة. و»التّابْعة»، أو أم الصبيان، اسم لجِنيّة شريرة تصيب الأطفال الصغار، وخاصة الرضع، إصاباتٍ قد تترتب عنها الوفاة، لكنّ «برَكة» سيدي محمد مول الصبيان تنقذ، بإذن الله، تلك «الملايْكة» من الموت. تشمل الطقوس العلاج كما تم تفسيرها ووصفها ب»المباركة»، بالتوضؤ بماء البئر المجاورة، يليها بعد ذلك حكّ جسم الأطفال الصغار بحجَر مستدير أملس.. و«برَكة» سيدي محمد مول الصبيان لا تضاهيها سوى «بركات» أضرحة الأولياء الركراكة الأربعين، في إقليمالصويرة. لا تقف «بركة» مول الصبيان عند حدود علاج «التّابْعة» لدى الأطفال، بل وأيضا «التّابْعة» عند النساء.. كيف تصيب «التّابْعة» النساء؟ الإجابة أن أم الصبيان تتراءى، أيضا، للمرأة في نومها في فترة الحيض، فيصيبها العقم، أو في فترة الحمل، فتتعرض للإجهاض.. وللتخلص من هذه «التّابْعة» الشريرة ومن «لعنتها» يكون على المرأة أن تبادر إلى زيارة الأولياء الصالحين، المعروفين ب»براكتهم» في هذا المجال، ومنهم سيدي محمد مول الصبيان. عطاي لعزارة رغم كُلّ ما عاينّاه من معتقدات غريبة في الأضرحة السابقة فإنّ ذلك لم يكن ليضاهى ما عاينّاه في الشطر الثاني من رحلتنا إلى آزمور، حيث كان الاعتقاد ب»بركة» أولياء المدينة قويا، حتى إنه إذا أقسم الشخص باسم الله ما صدّقوه.. وإذا حلف باسم الولي مولاي بوشعيب فإن قسمه يكون مقبولا، موثوقا فيه!.. داخل الضريح دموع منسابة، تنهمر من عينَي إحداهنّ وهي تمسك بكلتا يديها بالسياج الذي يحيط بالقبر وتطلب باسمه قضاء حوائجها وتفريج كربها.. وأخرى تتمسح بالسياج وتردد، سرا أو جهرا لازمة: «آمولاي بوشعيبْ.. آعْطّايْ لعزارة.. حْلّ حزامي راني كنترجّاك وواقف ببابك، آردّاد».. تتلقى خدام الضريح هدايا من الوافدين، تتكون من سكر وشاي وحليب وذبائح ونقود تقتسم بالتساوي بين القيمين على الضريح أو ما يسمون بالورثة. تشرح إحدى بائعات لوازم الزيارة طقوس «الزيارة المباركة» قائلة: «من أوليات طقوس الزيارة التسليم والباروك، الذي يتألّف من شمع وبخور وسكر وغيرها.. ثم بعد الولوج إلى داخل قبة الضريح، يجب تقبيل الجدران وبثّ الشكوى، جهرا أو سرا.. وعلى المرأة الراغبة في الإنجاب فك حزامها عن خصرها وتركه ليلة في المكان، حتى تحظى ب«بركة» الولي، المتمثلة في إخصاب النساء العاقرات». وتتابع المتحدّثة ذاتها قائلة إن الكثير من النساء ممن تعذر عليهنّ الإنجاب تَمكّنَّ، بعد الزيارة و»التبرك» بكرامات مولاي بوشعيب، من «حل حزامهنّ» وإنجاب «العزْري»، الذي لطالما انتظرنه وحملن «المرفودة»، التي هي عبارة عن هدايا وذبيحة، إلى الولي الصالح، الذي ساعدتهم «بركته» على الحصول على طفل، بعد أن تعذر على الطب تحقيق أحلامهن.. فهل يُحقّق التّبرُّك برفات وليّ صالح، فعلا، ما استعصى على الطب والعلم؟!.. طاردة العنوسة لا يمكن مغادرة مولاي بوشعيب دون التوجه لزيارة ضريح للا عايشة البحرية، فبركة هذه الأخيرة قادرة على طرد النحس وجلب فارس الأحلام المنتظر. لم تفقد للا عايشة البحرية هالتها في تحقيق مراد الفتيات الراغبات في الزواج، بل يمكن القول إنها أصبحت أكثرَ توهجا مع تزايد عدد الوافدات عليها في الغالب بصحبة الأم والخالة أو بصحبة صديقة مقربة، فهي معشوقة العوانس وملاذهن الأخير. نفس الطقوس، كما هو متبع في جميع الأضرحة: لا بد من اقتناء «قرطاس من الشمع» وولوج قبة للا عايشة والتبرك بالتمسح بالجدارن الإسمنتية، حيث ترقد، بعد أن تنطلق طقوس طرد النحس وفك العكس، عن طريق تقديم ذبيحة من الدواجن والغسل بالحليب. الطقس الآخر هو الاستحمام، الذي يتأرجح ثمنه ما بين 10 دراهم لمن تريد الاستحمام بالماء البارد و25 درهما للراغبات في الماء الساخن، مع التخلص من الملابس الداخلية خلف الضريح، وهي ركيزة أساسية لإبعاد «التّابْعة» الشريرة، التي تسد الطريق أمام فارس الأحلام دون أن ننسى طقس عملية البخور من خلال «تخطي المجمر» سبع مرات. ولا يمكن نسيان للا فاطنة، صديقة للا عايشة في السراء والضراء، والتي لها، بدورها، «برَكتها» في فك العكس وإيجاد «ولْدْ النّاسْ» الذي طال انتظاره. يبدو أن طلب «بركة» الأولياء لن تموت ما دم الناس يدمنون عليها ويؤمنون بقدراتها، مما يجعل علامات استفهام كثيرة تطرق ذهننا وتتزاحم داخله، تسائل المنطق والعقل، مع استغراب في الآن ذاته، سرّ هذا السلطان القوي الذي أصبح هؤلاء «أسْراه»..
من هم؟ سيدي محمد مرس السلطان كان أحد مساعدي السلطان مولاي الحسن الأول، وكان يتولى مهمة الإشراف على «المرس»، لكنه سرعان ما زهد في المنصب وباع ممتلكاته وقصد مدينة فاس لتلقي العلوم الدينية في جامع القرويين، وتوسم فيه معلموه الشأن الكبير، ثم عاد أدراجه صوب مدينة الدارالبيضاء، حيث سخّر ثروته لخدمة الفقراء واليتامى، وعرف بقدرته على علاج القلق النفسي، حتى في حالاته المستعصية. سيدي محمد مول الصبيان عاش في بداية القرن الماضي، وكان «كرّاب»، يرفض تلقي أجرته مالا ويقبلها كسرة خبز وحفنة من الزيتون.. لقب ب«مولْ الصبيانْ» لحبه الشديد للأطفال وملاعبته لهم، فبادلوه نفس الحب، وكان يهتمّ بإعداد أدوية من خليط الأعشاب للأمراض التي تصيبهم فيستردّون عافيتهم فورا.. وذاع صيته فقصدته الأمهات لعلاج فلذات أكبادهن. مولاي بوشعيب يوجد ضريحه في آزمورو، وهو يرتفع عن سطح البحر بحوالي 48 مترا ويستقطب العديد من الزوار من جميع أنحاء المغرب. يعَدّ أحدَ أبرز أقطاب التصوف في المغرب، حيث اشتهر بورعه وعلمه الغزير، الذي تلقاه على أيدي مجموعة من الشيوخ الكبار. لُقِّب ب«السارية»، لكونه كان ينتصب للصلاة وقراءة القرآن ليلا كالسارية.. يُعتقد إلى حد الآن أنه «حلال حزام العاقرات» إذ يقال إن أي عاقر زارته إلا وأصبحت ولودا.. لالة عيشة البحرية قيل إن أصلها من بغداد، ويُحكى أنها تعرّفت على مولاي بوشعيب خلال دراسته في بغداد لأصول الشريعة الإسلامية فتلعقا ببعضهما ولم تتوج قصة حبهما بالزواج، فعاد مولاي بوشعيب إلى بلده، لكن عائشة عقدت العزم على لقائه فشدت الرحال إلى المغرب، رفقة صديقتها فاطنة، لكن الموت أدركها غرقا فدُفنت حيث ماتت.