في غرفته.. يجلس كالعادة مستقبلا بوجهه على نافذة تطل على جسر النهر .. وخياله يسبح به على الدوام في آفاق الأحلام البعيدة المترامية أحيانا إلى أطراف الخيالات المستحيلة تعجز أقلام الواقع عن حبكها في ثنايا سطور الحكاية أو تنميقها بلغة السرد على مسامع عشاق الحكي أو الرواية . يجلس .. وخياله يحلق دوما .. والفجر على أبراج الأفق يشق بنفس خفي رفيف رداء السَّحَر لتختلط معه أسلاك الضياء بفحمة الظلمة ليزهو الصباح وليدا بالتفتح والتورد في إبهار جديد . قام من مقعده .. وأزمع الترويح عن نفسه بالتنزه فوق جسر النهر قبل أن يشق آذانُ صوامع المساجد ودقات أجراس الكنائس سماءَ المدينة وسقف أبراجها . لكن .. فتنة هذه الليلة الساجية توحي له بشئ من التمرد في داخله .. تحوم حوله أشجان تنتزعه إلى اكتئاب وبكاء .. وهو يحاول جاهدا أن يلقي بها من خارج حظيرة نفسه مستمرئاً بذلك ما في وسعه الإحساسَ اللذيذ بهذه الليلة الساجية ، فأحياناً يملأ أعطافَه الأملُ والشعور بالحياة الفوارة وأحياناً يغشاه الخوف والترقب من شئ مجهول .. غريب .. إحساس متناقض .. غامض .. في زقاق الذات ، هيمن على كيانه وسكن في قفص صدره . فخرج .. وأضواء الزقاق تشيعه إلى حيث جسر النهر .. وظله يسابقه إليه مستطيلا فاق طول قامته ، وكلما خطا خطوة زاد عنه ابتعادا كأنه يسحبه إلى فوق الجسر مقتادا..وقد انتصف الظل الجسر ، وصاحبنا لم تطاوعه قدرته على أن يتقدم ، إنه عصيان لا عهد له به من قبل . ويسمع شيئا ما يهمس في أذنه :"تقدم" .. إنه كبرياء النفس .. فتقدم ، وزوابع التردد تغالبه ولا يستطيع هو التغلب عليها ، فألقى أولى خطواته فوق جسر النهر وقد رفع وجهه نحو السماء ليغترف من عناية السماء ما يملأ منها لروحه القدرة والعزيمة ، لكن ترميه زلة قدمه ويهوى تحت الجسر ساقطا تتلقفه لجة النهر فينفصل عنه ظله جاثما على صفحة النهر يطفو بلا اكثرات وجسدصاحبنا يغرق بفم فاغر .يغرق متثاقلا من غير ظل .. فخانه الظل .. ورمته مجرات النهر ملقية به إلى الأعشاب المبللة .. وأطبقت هذه رواسبَ طينها الضحلة على محياه ليندفع بنفسه متيقظا من أضغات هذا الكابوس إلى يقظة الوجود وهو على مقعده قبالة نافذة تطل على جسر النهر ، فتحول خوفه إلى إحساس لذيذ بمعنى الحياة .. وإلى إرادة مبدعة تجول زقاق ذاته شحنته بالشعور الجميل بالحرية والخلاص من هذا الكابوس المزعج .. فعرف وتيقن أن هذا الكابوس ومثله سوى مظهر من المظاهر الخفية لمخاوفنا من أشياء نُلْبِسها هراءً من ظنوننا واعتقاداتنا لباسَ السطوة والقوة . فلنتمرد على هذا الخوف.. وعلى هذا الشعور الحبيس بنواة الخوف والتردد .. تمرد بقوة فعالة ..بإرادة مبدعة .. إرادة أطفال الحجارة … ليبتسم الله من الأعلى لقبة القدس .. ابتسامة الخلاص والمحبة والحرية والحياة .