وتلك الكتبُ هي تَخْضَرُّ أوراقُها في أعين الكُتَّاب، يعظمون أمرها ويمجدون فضائلها، ويتركونها تتربَّصُ بالقراء كأي مكيدةٍ بيضاء السريرة. ومع ذلك، فإن الجسارةَ هي ما يصنع من الورق كتاباً، وهي التي تجعلنا نقتنع أن بإمكان أجنحةَ الغرابِ أن تبيضَّ، وأن زهرةَ عباد الشمس تنحني فقط لأشجار السنط وقُدُور الفخار.. الكِتابُ الذي يغرِّد على مقاسِ القُرَّاء ليس جديرا بأي جناحٍ، لأن سماءه تكاد تكون خفيضة؛ حقا إنه لذيذ، لكنه مثل أكلات «الفاست فود» الغارقة في «الكيت شوب» و»المايونيز»، قصيرة العمر وعديمة الفائدة، ولا أحد بإمكانه أن يُبَارك الأخطار التي تُسَوِّي أوتارَها على خراب أكثر من جسد. الكتابُ الذي أنحاز إليه شخصيا هو الذي يضع السكاكين على عنقك، هو الذي يجعلك تنشطر إلى أجزاء كثيرة، هو الذي يزعجك ويقذف بك بعيد في شرايين المد البحري الشاهق، هو الذي يجعلك تتجرع الجحيم في كل جملة من جمله، هو الذي يجعلك تغلق النوافذ لتذبل على مهل، هو الذي يجعلك تطل على الأرض من سطح غربتك، هو الذي يجعلك تستعيد عواءك الأول كأي ذئب تفجرت في عينه كل أقمار الأرض، هو الذي يعيدك إلى بداية السطر، هو الذي يُسمِّمُك ويجعلك تتمرد على الظلال الكثيرة التي عبرتها، هو الذي لا يخدم مصلحتك ولا يستجيب لولعك ولا يجعلك تطمئن لأثاثك الذوقي وذخيرة المعاني التي تحبس أنفاسها في عقلك، هو الذي يمحو توقك وقشورك ودُماك المقطوعة الذراع، هو الذي يتسلَّى بك ولا يجعلك تتسلى به على الإطلاق، هو الذي يعكف على تحويك كلما تصفحته إلى حُطامٍ غفير، هو الذي لا يضحك في وجهك البتة لأن مهمته الأولى والأخيرة هي تحرير شياطينه الكثيرة في ذعرك، هو الذي لا يخاطبك بسخاء السنابل وماذا قالت القبرة للمطر بل يمزقك عن طيب خاطر بِبُروقِه ويَقْصفك بِرُعوده، هو الذي يُعاقب غرورك ويخدع تاريخك وينسدل على كل انكساراتك دفعةً واحدةً، هو الذي يُغْرقك ويَغمرك ولا يسمح لك بالفكاك من مياهه التي تنطوي بإصرار على سوادها الكثيف، هو الذي يسخر من النهار كما يسخر الجسرُ الصغيرُ من النهر المصطخب والغاضب، هو الذي يجعلك تتغذى على الضفادع والعناكب والجرذان لتبقى على قيد الهواء، هو الذي يجعلك تعتقد أن عباءتك منسوجة من جلد الأبد، هو الذي يتردد فيك فلا تستمع إلى صوت سواه، هو الذي يتكرر ويسيل ويُلوِّح بالسياط والمناجل، هو الذي لا يهادن أي شيء ولا أي أحد، هو الذي يجعلك تطل على حتفك بسعادة عارمة كشهيد، هو ثدي «ليليت» الذي يمتلئ بالعناد الخالص، هو الذي يجرفنا نحو خلوده بين شهقتين.. ذاك هو الكتابُ الذي يستحق منا جميعا أن نطارده، حتى آخر نفس، من أجل أن ننعجن في أرحامه المسقوفة بالفؤوس والمعاول والبنادق والمسدسات.. الكتاب الذي لا يسامرنا، ولا يجلس أمامنا بهدوء.. الكتاب الذي يجعلنا نطل على الحجر الذي تجمد داخله الإله أبولون رفقة عرائس الشعر!