توطئة: يتميز الإنسان الأمازيغي عن باقي الأجناس الأخرى بظاهرة الوشم، وهي ظاهرة اجتماعية ونفسية وأنتروبولوجية وحضارية وثقافية ووجودية وهوياتية. إذ يعتبر الوشم ميسما سيميوطيقيا وأيقونيا يميز الإنسان الأمازيغي عن باقي الشعوب الأخرى. فالوشم عبارة عن وثيقة مكتوبة ومدونة وشهادة حقيقية وصادقة عن مسار الإنسان الأمازيغي وهويته وكينونته وإنسيته ووجوده الحضاري، في منطقة تامازغا الكبرى أو في منطقة شمال أفريقيا. إلى جانب ذلك، يعبر الوشم - ثقافيا وفلسفيا- عن رغبة التخلص من سلطة الدليل الصوتي وسيادة المركز باستبدالهما بسلطة الكتابة التي تعني التحرر الوجودي، وإثبات الذات، والانتماء الهوياتي، والرفض المطلق للتهميش والتغريب والإقصاء والنظرة الدونية. وهكذا، يبدو لنا بأن المجتمع الأمازيغي مجتمع موشوم وموجود بوشمه، على الرغم من موقف النص الديني الرافض للوشم. واليوم، أضحى الوشم علامة سيميوطيقية وثقافية دالة على الهوية والنضال والتحرر ، ورفض مطلق لسياسة التهميش القائمة على الانتقاء اللغوي، والاصطفاء الاجتماعي الطبقي، والنظرة الاحتقارية إلى الآخر المخالف. ومن هنا، يتوقف موضوعنا هذا عند ظاهرة الوشم بالتعريف لغة واصطلاحا، مع رصد بنية الوشم ومواقعه وأدواته ، واستجلاء دلالاته المختلفة، واستكشاف مختلف تجلياته ووظائفه ومقاصده المباشرة وغير المباشرة. مفهوم الوشم: يعرف الوشم - في اللغة- بالعلامة أوالرسم أوالوسم فوق طرف من أطراف جسم الإنسان، كأن يكون كتفا أو ذراعا أو يدا أو ذقنا أو جبهة، باعتماد آلة حادة، أو إبرة واخزة، أو حناء ملونة. أما جمع كلمة وشم، فوشوم ووشام. وغالبا، ما يكون الوشم للتزيين والتنميق والتحبير والتجميل. وفي هذا، يقول ابن منظور في معجمه (لسان العرب):" وشم : ابن شميل: الوسوم والوشوم العلامات . ابن سيده : الوشم ما تجعله المرأة على ذراعها بالإبرة ثم تحشوه بالنئور ، وهو دخان الشحم ، والجمع وشوم ووشام... والبرشم البرقع . ووشم اليد وشما : غرزها بإبرة ثم ذر عليها النئور ، وهو النيلج . والأشم أيضا : الوشم . واستوشمه : سأله أن يشمه . واستوشمت المرأة : أرادت الوشم أو طلبته . وفي الحديث: لعنت الواشمة والمستوشمة ، وبعضهم يرويه : الموتشمة ، قال أبو عبيد : الوشم في اليد وذلك أن المرأة كانت تغرز ظهر كفها ومعصمها بإبرة أو بمسلة حتى تؤثر فيه ثم تحشوه بالكحل أو النيل أو بالنئور ، والنئور دخان الشحم ، فيزرق أثره أو يخضر . وفي حديث أبي بكر لما استخلف عمر - رضي الله عنهما : أشرف من كنيف ، وأسماء بنت عميس موشومة اليد ممسكته أي منقوشة اليد بالحناء . ابن شميل : يقال فلان أعظم في نفسه من المتشمة ، وهذا مثل ، والمتشمة : امرأة وشمت استها ليكون أحسن لها . وقال الباهلي : في أمثالهم لهو أخيل في نفسه من الواشمة . قال أبو منصور: والمتشمة في الأصل موتشمة، وهو مثل المتصل، أصله موتصل . ووشوم الظبية والمهاة : خطوط في الذراعين... وفي الحديث : أن داود - عليه السلام - وشم خطيئته في كفه فما رفع إلى فيه طعاما ولا شرابا حتى بشره بدموعه ؛ معناه نقشها في كفه نقش الوشم. والوشم : الشيء تراه من النبات في أول ما ينبت . وأوشمت الأرض إذا رأيت فيها شيئا من النبات . وأوشمت السماء : بدا منها برق... ومنه قيل : أوشم النبت إذا أبصرت أوله . وأوشم البرق : لمع لمعا خفيفا ؛ قال أبو زيد : هو أول البرق حين يبرق... وقال الليث : أوشمت الأرض إذا ظهر شيء من نباتها ، وأوشم فلان في ذلك الأمر إيشاما إذا نظر فيه... وأوشمت المرأة : بدأ ثديها ينتأ كما يوشم البرق . وأوشم فيه الشيب : كثر وانتشر ؛ عن ابن الأعرابي . وأوشم الكرم : ابتدأ يلون عن أبي حنيفة . وقال مرة : أوشم تم نضجه . وأوشمت الأعناب إذا لانت وطابت...وذكر ابن الأثير في ترجمة لثه في حديث ابن عمر قال : لعن الواشمة ؛ قال نافع الوشم في اللثة ، اللثة ، بالكسر والتخفيف ، عمور الأسنان وهو مغارزها، والمعروف الآن في الوشم أنه على الجلد والشفاه2." ويفهم، مما سبق، بأن الوشم عبارة عن علامة سيميوطيقية أو أيقونية يضعها الإنسان على أطراف جسمه، كأن يكون فوق شعره لإزالة الشيب، أو في وجهه لإخفاء تجاعيد الزمان وندوبه، أو فوق كتفه، أو في ذراعه، أو في يده كفا ومعصما، أو في أطرافه السفلى، مثل : الفخذ، والإست ، والفرج ، والرجلين... وينقش ذلك كله بالإبرة أو بآلة حادة ، ثم يملأ الوشم بالحناء أو الكحل أو النيل أوالنئور أو مايسمى كذلك بدخان الشحم. وبعد ذلك، يتخذ أثر الوشم في الجسم لونا أزرق أو أخضر. ومن هنا، فالوشم عملية دقيقة جدا، تتميز بقواعدها وشروطها وطقوسها الخاصة. ومن ثم، فالوشم عبارة عن فصد واختراق للجلد شقا وكيا واحتراقا وتشطيبا وتطهيرا وخدشا. وعليه، فالوشم عبارة عن رسم تزييني أو رمزي ، يكون الهدف منه هو تحبير الجسد و تنميق جلده. ومن قبل، كان ينقش بالحبر الصيني أو بمواد فحمية أو شحمية، أو بمادة الحناء. واليوم، تستخدم مجموعة من الأدوات الصناعية والكهربائية المتطورة في مجال النقش والوشم والكي والفصد والنقش، مع استعمال الليزر والإبر الحادة الواخزة. وتطلق كلمة (Tatouage) على الوشم، وهو اسم بولينيزي مشتق من (tatou) أو (tatahou). و(Ta) معناها الرسم. و قد قيده الملاح كوك(Cook) للمرة الأولى على شكل (Tatow)، وتحولت، في اللغة الإنجليزية، إلى (Tatoo) ، وهي فعل3. في حين، يسمى الوشم في اللغة الأمازيغية ب(ثي?از/Thigaaz) ، ولاسيما اللهجة الريفية منها. الوشم ظاهرة أمازيغية بامتياز: عرفت مجموعة من الشعوب الإنسانية ظاهرة الوشم الجسدي، قبل أن ينتقل إلى شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط، فقد ارتبطت بمجموعة من العقائد والعبادات والديانات القديمة. وكان الوشم معروفا لدى الصينيين، واليابانيين، والهنود، والأفارقة، والسومريين، والآشوريين، والأكاديين، والبابليين، والكلدانيين، والفرس، و الفراعنة المصريين، واليونانيين، والرومان...ويعني هذا أن الوشم " ظاهرة قديمة في المجتمعات البشرية . فقد عرف منذ قديم الزمان في مصر، حيث وجد على بعض الموميات المصرية. كما استخدمه المصريون القدماء كعلاج ظنا منهم أنه يبعد الحسد. فيما اتخذته بعض الشعوب كقربان لفداء النفس أمام الآلهة.كما كان الوشم تعويذة ضد الأرواح الشريرة، ووقاية من أضرار السحر؛ فقد عثر على جثث تعود إلى العصر الحجري الحديث، والتي تثبت الممارسات القديمة للوشم.كما استخدم الوشم لتحديد الانتماء القبلي، وتمييز مجموعة بشرية معينة من غيرها.ويتضمن الوشم استعمال أدوات حادة ومواد كيميائية ملونة يتم إدخالها إلى الطبقة الجلدية العميقة مما يضمن بقاءها الطويل."4 أضف إلى ذلك، فقد " كان الوشم في فجر التاريخ ذا طابع بدائي قبلي، حيث كانت القبائل تتخذ من بعض الحيوانات حاميا وصديقا وأمانا لها، فتجعل من رأسه طوطما تحتفل به، وتصنعه شارة على بيوتها أو سيوفها أو وشما على صدور رجالها.ويظل هذا الحيوان رمزا محترما لدى هذه الشعوب وأجيالها.5" وقد عرف المجتمع الأمازيغي هذا الوشم كذلك، وخاصة الذين كانوا يقطنون تمازغا من مصر شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن الأندلس شمالا إلى ماوراء الصحراء الكبرى جنوبا. وقد يكون الأمازيغ متأثرين في ذلك بالرومان. كما يذهب إلى ذلك الباحث العراقي ليث الخفاف في مقاله(الوشم ووحدة الفلكلور العربي):" إن البربر استمدوا العناصر الزخرفية للمصنوعات الفخارية والجلدية والفضية من الوشم نفسه، ولاتزال قبائل البربر تستخدم بعض الكتابات والرموز الزخرفية في تزيين بيوتها القديمة.ولهذا، نرى أن المرأة البربرية لاتزال تحمل في بعض المناطق الظاهرة من جسدها وشما يمثل أحد حروف اللغة البربرية. كما أن ظاهرة الوشم انتشرت في شمال أفريقيا إبان الديانة المسيحية.أي: قبل دخول الإسلام نظرا للتأثير المباشر الذي كانت تمارسه الإمبراطورية الرومانية آنذاك، كما أن الوشم عرف في جميع الثقافات الآدمية ، وارتبط بها كتعبير جسدي، له مدلولات تختلف من ثقافة إلى أخرى."6 وربما قد يكون هذا الوشم نتاجا للتأثر بالديانة المسيحية كما قال بلقاسم الجطاري في مقاله القيم ( الوشم كظاهرة سيميويطقية في الثقافة الأأمازيغية):" وقد ظهر الوشم قديما في دول شمال أفريقيا، فحتى القرن السابع الميلادي، كانت تسكن المغرب العربي قبائل أمازيغية تدين لبعضها بالديانة المسيحية نظرا للتأثير المباشر الذي كانت تمارسه الإمبراطورية الرومانية.ويظهر نقش الصليب موشوما على جباه النساء، وإن كنا نرجح الدلالة الرمزية لهذا الوشم تعود أساسا لحرف التاء باللغة الأمازيغية."7 وربما كان ذلك نتاجا للتأثر بالديانة اليهودية، فقد كان اليهود يشمون أطفالهم ويسمونهم بعلامة الصليب، وقد كانت هذه العادة معروفة عند المسلمين في جنوبوهران بالجزائر8. بيد أن هذا الوشم قد تقلص بعد الفتوحات الإسلامية؛ لأن الإسلام لعن الواشمات والمستوشمات. بيد أن ظاهرة الوشم قد عادت إلى الشعوب الإسلامية مرة أخرى، لتصبح موضة حضارية وثقافية جديدة، يتهافت عليها الشبان المسلمون المستلبون من كل حدب وصوب، بعد انتشارها الكبير في المجتمعات الغربية المعاصرة، حيث أضحت فلسفة للتعبير عن روح هذا العصر المادي المغترب ، ورغبة في تجسيد آثار العولمة الماسخة لكل شيء. كما يعبر الوشم، عند الجيل المعاصر، عن ثقافة الحرية والاستقلالية والثورة والرفض والتمرد والتميز والإثارة. وإذا كان الوشم ظاهرة عالمية، عرفت منذ ملايين السنين، فإنها ظاهرة أمازيغية بامتياز، فقلما نجد امرأة أمازيغية بدون وشم ، ولاسيما في البوادي. وحاليا، تزايدت ملامحه الهوياتية والأنتروبولوجية والحضارية والثقافية والنضالية بين الشباب بشكل لافت للانتباه. ويتضح، مما سبق ذكره، بأن الإنسان الأمازيغي قد عرف الوشم ، كما عرفته الشعوب السابقة، بل إن " الوشم سبق الملابس إلى الوجود. فالإنسان الأول أو الإنسان في أولى مدارج حياته وهو ما نطلق عليه " اسم البدائي" قد عني بزخرفة جسمه بطرق مختلفة ، هذه الطرق يبدو أنها مازالت جميعها استخدمت من طرف المجتمع الأمازيغي ، ومنها تخصيب المرأة الأمازيغية جلدها بالصبغات والألوان من خلال وخزات الإبر، وهو ما يسمى بالوشم الذي مازال يمارس حتى الآن في بعض المناطق الريفية."9 وعليه، يمكن القول بأن الوشم علامة سيميائية أمازيغية بامتياز، وظاهرة أنتروبولوجية ثقافية وحضارية ووجودية ارتبطت بالإنسان الأمازيغي القديم، ولاسيما الإنسان الفرعوني النوبي. وبعد ذلك، انتقل الوشم إلى الشعوب الآخرى المجاورة أو البعيدة، إما عن طريق الاحتكاك التجاري والثقافي ، وإما عبر فعل الهجرة الطوعية أو القسرية. أنواع الوشم: يمكن الحديث عن مجموعة من أنواع الوشم في الثقافة الأمازيغية. فهناك وشم الشعر، ووشم الجبهة، ووشم الوجه، ووشم البطن، ووشم النهدين، ووشم الظهر، ووشم الفخذ، ووشم الأرداف، ووشم الفرج، ووشم الساقين، ووشم الرجلين معا. وقد اتخذ الوشم عدة أشكال هندسية وعلامات سيميوطيقية ورموز دالة.فهناك: النقطة أو سلسلة من النقط، والخط المستقيم، وما يتفرع عنه من زخارف بسيطة ومركبة ومعقدة، والزخارف الصليبية الشكل، والزخارف النجمية الشكل، وزخارف على شكل (V)، والأشكال الدائرية، والمنحنيات المتماثلة وغير المتماثلة، والخطوط المتوازية، والخطوط الملتوية، والخطوط المائلة والمنحنية والمنحرفة، والخطوط المتشابكة، والخطوط المتداخلة والمتقاطعة، والمثلثات، والمربعات، والمستطيلات، والمعينات، والدوائر ، وحروف تيفيناغ، وعلامات زائد، والأشكال المنغلقة والمنفتحة، و الشارات العسكرية، و الزوايا المتعارضة أو القائمة أو المتوازية، والأشكال النباتية والحيوانية والطبيعية، والمشبكات، والأشكال الخماسية، والتيجان... مواقع الوشم: تقع وشوم الإنسان الأمازيغي، وخاصة وشوم المرأة ، في مختلف مناطق الجسد، مثل: الشعر، والرأس، والجبهة، وما بين الحاجبين، والخد، والذقن، والوجه في مختلف مناطقه الحساسة، والكتف، والذراع، واليد كفا ومعصما، والصدر، والنهدين، والبطن، والظهر، والفخذ، والأرداف، والفرج، والمؤخرة، والركبة، والقدم، والساقين، والرجلين. وإذا كان الرجل يشم كتفه وعضده ويده، فإن المرأة تشم سائر جسدها، ولاسيما ما تقدم منه، كأن تشم وجهها إلى غاية نهديها، وهذا يحمل في طياته طابعا شهوانيا وشبقيا وجنسيا. تقنيات الوشم: استعمل الإنسان الواشم مجموعة من التقنيات لوسم جسده، مثل: العظام، والعصي، والحديد المتقدة، وأسنان المشط، والأدوات الحادة، والإبر الواخزة، والحبر بكل أنواعه وألوانه، والحناء بكل أنواعها، والمساحيق الملونة، والمشارط، والسكاكين الحادة، والرؤوس الخشبية، وأدوات الكي والخدش، والشوكة، والنباتات الطبيعة... واليوم، تستعمل أدوات صناعية وكهربائية متطورة في وشم الجسد، مع استخدام الآلات والإبر الحديدية الحادة المعاصرة، مع الاستعانة بأشعة اللييزر... أما المواد الموظفة في ملء ثقوب الوشم، فهناك الكحل، والنؤور أو ما يسمى بدخان الشحم، والأعشاب العطرة، والفحم الأسود، والتوابل ، أو النيل، وبقايا احتراق السخام، والحرقوص، والملح، والثوم، والقرنفل، ومواد كيماوية وطبيعية مختلفة... وغالبا، ماينصب الوشم على رسم أشكال نباتية، ومخلوقات حيوانية، وكائنات بشرية وجنية، وزواحف، وأشكال طبيعية، وأشكال هندسية، وشارات عسكرية، وأشياء جامدة، وحروف تيفيناغ، وألوان مختلفة، ومعطيات تشكيلية... فترات الوشم: يوضع الوشم عند الأمازيغ إبان حفلات الأعراس، وعند كل ولادة طفل، وعند الاستعداد للزواج، وعندما تكون الأنثى راشدة ، وعندما يحس الإنسان بآلام حادة ، وعندما تريد المرأة أن تتزين وتتجمل لزوجها. وفي هذا الصدد، يقول بلقاسم الجطاري:" عرف الوشم في بعض المناطق بالأطلس لدى الفتيات الشابات، حين يقوم الآباء بتنظيم حفلة لأفراد العائلة تشارك فيها أيضا صديقات العروس، فيجلبن إبر الوشم وبعض المساحيق الملونة، ويبدأن بنقش رسوم أولية تعكس بعض المظاهر الطبيعية على وجه الفتاة بطرق فنية وجمالية. وبعدئذ، يأتي دور المتخصصة بالوشم لتنقش هذه الرسوم بالإبر الخاصة."10 ويضيف الباحث قائلا:" وتقوم بعض القبائل في منطقة الريف بوشم جباهها وخدودها، كأن تنقش النساء خطا على جبين كل مولود (بوتقومومت).وفي بعض القبائل بسوس، وخلال الاحتفال ببلوغ الفتاة سن الرشد، بعد أول حيض لها، تستخدم الكبيرات من نساء القبيلة المشارط لعمل خطوط معينة تحت الشفة السفلى، إلا أن وشم النساء لدى معظم القبائل ، يبقى في الغالب علامة من علامات التعبير عن الذات، وكثيرا ما يأتي استجابة لطلب الرجل الذي يرى فيه إقرارا بامتلاكه التام لزوجته، فجسم المرأة ليس ملكا لها، بل لزوجها، فله الحق في وضع خاتم ملكيته عليه، كما هو الشأن في النقطة الحمراء التي يضعها نساء الهنود على جباههن."11 وبعد ذلك، يستمر الوشم يوما أو يومين أو مدة الحفل أو مدة الموسم أو مدة النزوة والشهوة واللذة... وظائف الوشم: للوشم ، في الثقافة الأمازيغية، وظائف عدة، "حيث ربط الأمازيغ الوشم بطقوسهم العقائدية، فلم يكن الوشم وصمة عار مشينة، بل كان يسعى لتحقيق أغراض جمالية وأعمال سحرية أو طبية أو حتى جغرافية"12. ومن ثم، يمكن رصد مجموعة من الوظائف التي يؤديها الوشم في الثقافة الأمازيغية، ويمكن حصرها فيما يلي: الوظيفة الجمالية: يتخذ الوشم، في الغالب، بعد جماليا وإستيتيقيا، إذ يضفي الوشم على المرأة سمة الحسن والبهاء والجمال. لذلك، تضعه الأنثى في مختلف أطراف جسمها، وخاصة جهة الوجه، وبالضبط حينما تنقشه في الذقن، والجبهة، والأنف، والخد. والغرض من ذلك هو جذب الآخرين، و إثارة إعجابهم ، كما هو حال كثير من الأمازيغيات في الأطلس الكبير والمتوسط والصغير، وجبال الريف، وفي منطقة الطوارق، وفي كثير من مناطف تامازغا. بمعنى أن الوشم " نوع من الماكياج يستعمل عموما عند النساء من أجل التجميل، وإثارة الإعجاب، فيستحيل الجسد كصفحة للقراءة، أو كنص يصبح الوشم فيه كخطاب13." كما يحتل الوشم منزلة وسطى بين اللباس والعري.أي: إن الوشم هو اللباس الثالث للجسم المكسو باللباس والجسم العاري معا14. وأكثر من هذا يتحول الجسم، عبر فعل الوشم، إلى لوحة تشكيلية جميلة، حبلى بالأشكال والخطوط والألوان الزاهية واللامعة والمثيرة. وفي هذا الصدد، يقول الرسام الدنماركي (هاين فرينكل) قائلا: "أحيانا كثيرة تجدهن [ الأمازيغيات] في الحقول أو المسالك الوعرة بالجبال يرددن صيحات غنائية لايضاهيها من الحدة والجمال سوى مرآى تلك الأشكال المرسومة بعناية فائقة على خدودهن أو ذقونهن أو جباههن وأحيانا أعناقهن وأيديهن، نساء تتوحد فيهن أسطورية الرمز والرسومات المفعمة خضرة وزرقة، مع أسطورية الوجوه ومكامن جمال يصر على تحدي قسوة الطبيعة وصعوبة ظروف العيش ومشاق التحملات اليومية .. جمال تتوحد فيه الحقيقة بالخيال.. الطبيعة بالإنسان.. والألوان بالملامح.. الصور بالأصوات.. الغناء بالرسم على الجسد...15" ويعني هذا أن الوشم كان المظهر الحقيقي لجمال المرأة الأمازيغية، وتعبيرا حقيقيا عن مدى حسنها الأخاذ الذي كان يثير إعجاب الآخرين افتتانا وشهوة ولذة. وظيفة التطهير: يترتبط الوشم بوظيفة التطهير.أي: تطهير النفس الإنسانية من الشرور والآثام ، وتنقيتها من الشوائب والذنوب والكبائر الدنية، بإثارة الخوف والشفقة والتوبة والرغبة في الاستغفار...أي: إن الوشم بمعنى الخدش والاختراق للجلد رغبة في تشطيبه وتنقيته وتحليته وشقه لوسمه ووشمه، وفق مجموعة من القواعد الطقوسية والقواعد الاحتفالية. علاوة على ذلك، فإن الوشم عبارة عن تضحية قربانية ووفاء وإخلاص وصدق وفداء من أجل نيل الرضا الروحاني. وبالتالي، الحصول على القداسة الميتافيزيقية، والوصول إلى التعالي المثالي. بمعنى أن صفد الجسم وخدشه بوشم ما يعني ذلك تطهير للذات المستوشمة ، وتعذيب مازوشي لها ، وتحلية لها قصد تحقيق الصفاء الروحاني والوصال العرفاني والماورائي. كما يعبر الوشم عن جسر وسيط بين المادة والروح، بين الجسد والمقدس الأخروي أو الميتافيزيقي. الوظيفة العلاجية: للوشم وظيفة علاجية سامية، إذ يعتقد الأمازيغ أنه يحمي الإنسان من الأمراض العضوية والنفسية ، ويقيه من أخطار الأوبئة الحادة والطبيعة التي تثور من حين لآخر. " فالمرأة [الأمازيغية] الريفية - على سبيل المثال- كانت تستخدم الوشم في أسفل الوجه أو تحت الشفة السفلى، وأحيانا على ظهر اليد والرسخ والأصابع. أما الرجل فكان يكتفي بوشم صورة لطائر ما يعتقد أنه الهدهد على الصدغ لحماية الرأس من الآلام والصداع، واقتصر الوشم عند البعض من القبائل الريفية عادة على نقطة واحدة بسيطة فوق الذقن، وأخرى على الجانب الأيمن من الأنف للحماية من آلام الأسنان، وأخرى في بداية الجفن للحماية من أمراض العين."16 ويعني هذا أن الوشم كان يستعمل عند الإنسان الأمازيغي لوظيفة طبية وعلاجية، باعتباره أداة لحماية الإنسان من أمراض الرأس وآلام الأسنان، ومن كل الأمراض العضوية والنفسية والعصبية. الوظيفة السحرية: اقترن الوشم عند الأمازيغ بالوظيفة السحرية، فقد كان الوشم يقي الأطفال من الأعين ، ويحمي المجتمع من الأعداء المرتقبين ، ويحصنهم من الأرواح الشريرة. كأن الوشم بمثابة تواصل سيميائي بين الجسد والأرواح الخفية. ومن ثم، فقد تحولت الوشوم إلى أشكال هندسية وعلامات سحرية تقي الإنسان من شر الطبيعة، وتحميه من حسد الإنسان، وتجعله في منأى عن الفقر وصفعات القدر وتقلباته الخطيرة. وتقيه من عين الآخر، وتحرسه من نظرة الرقيب ولفتته الحاقدة أو المنتقمة أو القاتلة. كما كان الوشم أيضا رمزا للنجاح والنجاة، ويعد كذلك سبيلا لتحقيق الثروة والغنى والرفاهية. وهكذان يتبين لنا بأن، " بعض القبائل الأمازيغية [تستخدم] الوشم لإبطال الأعمال السحرية أو ضد أعمال الشر أو تميمة واقية من الحسد والعين. ولاتزال هذه الممارسات سارية حتى الآن في بعض المناطق المغربية خاصة الجبلية ، حيث تقوم بعض القبائل في منطقة الريف بممارسة الوشم باللون الأخضر للتعبير عن السلام والسعادة والأمن، واللون الأسود ضد العين والحسد، ويظهر دوره السحري عند بعض الأمازيغيين الذين يعتقدون أن الوشم فوق العين من شأنه تقوية البصر، وعلى جانبي الجبهة لإبعاد آلام الرأس"17. ومن ثم، فالوظيفة السحرية هي الوظيفة الأكثر ارتباطا بالوشم، كما عند كثير من الشعوب البدائية، والشعوب الأفريقية، والشعوب الأمازيغية، إذ يتحول الوشم إلى أداة سحرية لمواجهة القوى الغامضة والخفية، مع التحصين ضد الشرور الميتافيزيقية. الوظيفة الأنتروبولوجية: يعد الوشم ظاهرة أنتروبولوجية تعبر عن خصائص الإنسان الأمازيغي الحضارية والثقافية، وتلمح إلى تواجده القديم فوق أرض تامازغا من خلال الطقوس التي يمارسها ، والعادات التي تعود عليها.بمعنى أن الوشم طقس أنتروبولوجي تعرف إليه الإنسان الأمازيغي منذ العهود الغابرة، ومازال يمارسه بشكل يومي. فضلا عن ذلك، يعتبر الوشم علامة سيميوطيقية رمزية تعبر عن هوية هذا الإنسان وكينونته وإنسيته وإثنيته العرقية والهوياتية، وتميزه بشكل جلي عن شعوب العالم، وتبين مدى اختلافه الشديد عنهم . كما يعبر الوشم عن انتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرشد، والانتماء إلى الجماعة أو القبيلة. أضف إلى ذلك، فالوشم له وظيفة طوطمية وطقوسية مرتبطة بالحياة القبلية ، وله علاقة وثيقة بأنماط تصرفاتها وقيمها العشائرية. و" هكذا، نرى أن الحياة الاجتماعية لدى المجتمعات الأمازيغية لم تكن ممكنة إلا بفضل الرموز. والطوطمية هي أحد أوجهها، وكان الوشم هو الطريقة المثلى من أجل إظهار الرمزية الطوطمية ، فيعمد السكان بشكل جماعي، غالبا، إلى رسم الرموز على أجسادهم أو وشمها بغية تأكيد انتمائهم لقبيلة ما أو مجتمع معين. وهنا، يظهر الوشم كشكل من أشكال التعريف الذاتي لتأكيد الهوية.فالوشم يعني لصاحبه تأكيد ذاته وإصراره على انتمائه لتقاليد قريته الأزلية."18 وأكثر من هذا ، " فهذه الممارسات الوشمية محورها إخراج الدم من الجسد، فأفراد القبيلة يشعرون براحة روحية حينما يشاهدون الدماء، والدم منذ القدم هو رمز الروح ، وهو أيضا رمز الطاقة الحيوية ، هذه الطاقة التي يكتسبها البعض حينما يشربون دماء الأضاحي التي يقدمونها أثناء طقوسهم الاحتفالية ".19 وقد ترمز آلام الوشوم - أنتروبولوجيا وثقافيا- إلى الشجاعة والوفاء والتضحية والإخلاص. وتعبر كذلك عن الصدق في الانتماء إلى العرق والقبيلة والهوية . ومن جهة أخرى، يعبر الوشم عن ثقافة أنثوية بامتياز، ويدل كذلك على مكانة المرأة الأمازيغية في مجتمع أموسي راق، يؤمن بسلطة المرأة وسيادتها في تدبير المجتمع بصفة عامة، وتدبير الأسرة بصفة خاصة. إذاً، يعبر الوشم عن ثقافة طوطمية وطقوسية تنم عن دلالات الخصوبة والعطاء والرغبة في الزواج، والارتقاء من عالم الجسد نحو عالم الروح. وفي هذا، تقول الباحثة المغربية فاطمة فائز:" كان إنجاز الوشم جزءا من طقوس الكهانة، تقوم به امرأة كاهنة، تكون قد خضعت لطقوس التكريس عند ضريح ولي متخصص، حيث ترى في منامها هناك بأنها تستلم إبرة الوشم. شأنها شأن الشاعر الذي يبدأ رحلة إبداعه بالنوم إلى جوار ضريح أحد الأولياء، كما أنها قد تستلهمه من إحدى الممارسات العريقات اللواتي يحول سنهن المتقدم في الغالب، دون الاستمرار بممارستها، فيبحثن عمن يكمل مسيرتهن. ومن هنا، فقد كان الوشم أيضا ينجز في أجواء طقوسية مفحمة بالرموز والدلالات التي تكفل الاتصال بعالم الماوراء، وكان يقصد منها استجلاب نعم الآلهة ورضاها واتقاء نقمها وغضبها. ومن ثمة، كانت ممارسات الوشم الطقوسية تبتغي طلب الزواج للعازبة، وطلب الخصوبة للعاقر، كما أنه عموما يرجى منه التحصن من العين الشريرة، ودرء كل الأضرار الواقعة منها والمتوقعة.20" وهكذا، يتبين لنا بأن الوشم عبارة عن طقس أنتروبولوجي وطوطمي غني الدلالات، الغاية منه جلب الخصوبة والعطف الإلهي، والتخلص من فترة العزوبة بغية الانتقال إلى فترة الزواج وبناء الأسرة ، والانصهار في المجتمع القبلي. الوظيفة الهوياتية: أصبح الوشم عند الإنسان الأمازيغي علامة سيميائية للهوية، ورمزا للكينونة والإنسية البربرية الأصيلة. بمعنى أن الوشم مؤشر حضاري وثقافي على تواجد الإنسان الأمازيغي في الزمان والمكان.لذلك، تلح كثير من الجمعيات الأمازيغية على توظيف الوشم في كثير من التظاهرات الفنية والأدبية والثقافية، على أساس أن الوشم هو ميسم الإنسان الأمازيغي، وعلامة سيميوطيقية دالة على أنتروبولوجية هذا الإنسان، واستمراره في العطاء والتواجد في منطقة تامازغا الكبرى، منذ عدة قرون خلت. ويحيل الوشم على القولة التالية التي تشبه الكوجيطو الديكارتي:" أنا موشوم . إذاً، فأنا موجود". ومن هنا، فالوشم أساس الهوية الأمازيغية، وقاعدة الكينونة البربرية. وفي هذا ، تقول فاطمة فائز:" الوشم يدخل ضمن آداب السلوك الاجتماعي ، يرتبط بالجسد الموشوم وبحياته، ويموت بموته، كما يشكل جسرا للربط بين ماهو روحي ومادي في الجسد ذاته. وللوشم كذلك رمزية اجتماعية وسياسية قوية، فهو يشكل أساس الانتماء الاجتماعي وركيزة الإحساس بالانتماء الموحد، والشعور بالهوية المشتركة والتي ساهمت في ضمان حد كبير من التناغم بين كافة أطراف القبيلة. كما أن الوشم يحيل على هوية واضعه وانتمائه القبلي، شأنه في ذلك شأن الزخارف النسيجية المبثوثة بشكل خاص في رداء المرأة المعروف ب ( الحايك / تاحنديرت) عدا عن الزربية والحنبل التقليدييين. ولأن الوشم يكتسي بعدا إستيطيقيا، فهو يتغيى إبراز مفاتن المرأة وأنوثتها، ويصير خطابا يستهدف الآخر، ويوظف لإيقاظ الشهوة فيه وإغرائه وإثارته جنسيا".21 وهكذا، نستشف بأن الوشم عند الأمازيغ يمثل الهوية الحقيقة الموروثة، ويعبر عن الإنسية البربرية التليدة. ويشكل كذلك أساس الوجود الكينوني لهذه الفئة السكانية التي تقطن شمال أفريقيا. الوظيفة السادية أوالمازوشية: يتحول الوشم إلى ظاهرة نفسية مازوشية أو سادية مرتبطة بالعذاب والألم والتلذذ بالقسوة؛ حيث يعذب الإنسان الواشم نفسه، ويعذب جسده بالألم والقروح والندوب والجروح المؤلمة. فقد كانت العانسة الأمازيغية التي لم تتزوج تشم نفسها إلى درجة العذاب والقسوة والموت، فتستشعر ألمه وجروحه وأهاته وأناته المأساوية بترنح سريالي ، وتأرجح بين الوعي واللاوعي، كأنها تريد أن تضع حدا لحياتها اليائسة، بتعذيب جسدها، والانتقام منه شر انتقام. هذا، "وتقوم بعض القبائل بمنطقة سوس بوشم المرأة بعد فطام الطفل الأول مباشرة، وهي أكثر عمليات الوشم إيلاما وطولا من ناحية الزمن، إذ تستغرق يومين، فالوشم يغطي خلال اليوم الأول جميع مساحة الرقبة حتى بداية منبت الشعر، بينما ترسم على الذراعين آلاف الندب الصغيرة. وفي اليوم الثاني، يأتي دور الساقين. وفي هذه العملية، تفقد المرأة كمية هائلة من الدم، حتى إنها تتعرض لفقدان وعيها، ولكن لها في الأخير بعض التعويضات، إذ تزداد إعجابا من طرف الرجال ، وتصبح من ذوات الحظ من بنات القبيلة."22 ولم يقتصر هذا الوشم المؤلم على شعوب الأمازيغ فحسب، بل حتى شعوب أفريقيا البدائية كانت تعرف هذا الوشم القاسي والمضني.إذ يقول الباحث التونسي حسين عباسي:"عملية الوشم لدى قبائل وسط أفريقيا عملية أقل ما يمكن القول عنها إنها مرعبة ومخيفة ومؤلمة عند ممارستها، لكنها بالنسبة لسكان القبائل تلك، فإنها عملية ترتبط بالأساس بثقافة القبيلة وبديانتها، فطريقة عيشهم القاسية والبدائية عودتهم على تحمل الآلام مهما كانت طبيعتها.23" إذاً، فالوشم هو نوع من العذاب السادي أو المازوشي للذات الموسومة، بصفد دماء الجسد وإسالتها، وتمزيق الجلد الواقي بقسوة وعنف وألم ، بغية التحدي أو الثورة على الواقع الكائن، أو رغبة في التمرد والانتقام الشعوري واللاشعوري. الوظيفة الاجتماعية: غالبا، مايرتبط الوشم بفئة من الشباب المهمشين والصعاليك المشردين الذين يتمردون عن قوانين المجتمع وأعرافه وقوانينه وعاداته. كما يرتبط الوشم في المجتمع الأمازيغي بوحدة الهوية، والاندماج الجماعي، والخضوع التام للتقاليد والأعراف والعادات السائدة. ومن هنا، " فالوسط الاجتماعي والثقافي، وكذلك الانفعالي، قد يلعب دورا مهما في اللجوء إلى هذه الممارسة التي تسقط الفرد في الهامشية. حيث يظهر الوشم وكأنه عملية خضوع لوسط معين على حساب وسط ثان لم يتمكن الفرد من التعايش معه، والانصهار فيه، والتقيد بأغراضه وأخلاقياته.24" ويعني هذا أن الوشم بمثابة كتابة طبقية ساخطة على الأوضاع المجتمعية السائدة ، وإعلان عن الثورة ، والرغبة في التغيير، والتطلع إلى واقع ممكن أفضل. ومن جهة أخرى، يعد الوشم بالنسبة للمرأة علامة على النضج والبلوغ والاستعداد للزواج وبناء الأسرة بإشراك الطرف المقابل. وفي هذا، يقول جورج كرانفال: "الوشم في هذه البلاد [يقصد المجتمع الأمازيغي ]عند النساء إعلان عن مرحلة النضج والاستعداد لاستقبال الرجل، والإناطة بوظيفة الزواج."25 ويذهب الباحثون في موضوع الوشم" إلى الإعتقاد بأن الوشم فوق جسد المرأة هو دليل على الاكتمال والنضج الجنسي لديها وعلامة العافية والخصوبة ، فلا توشم إلا الفتاة المؤهلة للزواج. كما يقال: إنه دلالة على اكتمالها جمالا، وقدرتها على تحمل أعباء الحياة الزوجية، كما تحملت آلام الوخز. غير أن هناك من يخالف هذا القول، ويظن أن الوشم بكل ما يعنيه من وخز وألم كان يستعمل لكبح جماح الغريزة، وتدبير الطاقة الجنسية لدى الفتاة. ويستندون في تبرير ظنهم هذا بوجود الوشم لدى بعض النساء في أماكن حساسة ومستورة من جسدهن كالثديين والفخذين، وهو ماقد يكون علاجا زجريا لهن في حالات الفوران الجنسي"26. ويدل هذا كله على أن الوشم مفتاح للزواج الشرعي، وإعلان عن استعداد المرأة الأمازيغية لتحمل مسؤولية تكوين الأسرة مع مقابلها الآخر ألا وهو الرجل. الوظيفة النفسية: يؤدي الوشم وظيفة نفسية شعورية أو لاشعورية، فقد يكون بمثابة تعويض نفسي عن نقص ما، أو رغبة في إشباع كبت ما، أو تعبير عن رغبات لاشعورية دفينة عدوانية أو إيروسية، أو رغبة في التسامي والتحرر من ضغوطات الواقع وإكراهاته المحبطة. كما يعبر الوشم عن ثقافة الإشباع والتفسخ والامتساخ والترف الاجتماعي والحضاري لمجتمع ما. و"هكذا، نجد في بعض الأحيان، أن الفترات التي يمارس فيها الفرد الوشم تتطابق مع فترات الاختلال النفسي والقلق العاطفي، والتغيرات التي بإمكانها أن تطرأ على الشخصية أو الحياة الاجتماعية، والابتعاد عن المحيط العائلي والانفصال العاطفي المصحوب بحزن عميق أو اضطراب ذهني قد يقربه من فقدان توازنه، وانهيار شخصيته.فالكتابة على الجسد (الوشم) هي تعبير عن هذا الاضطراب والضيق المستمر، والقلق الدفين الذي يحاول الفرد التغلب عليه أو إخفاء معالمه تحت طيات الوشم.27" وأكثر من هذا يحقق الوشم للإنسان الكمال والتوازن بين الشعور واللاشعور والأمن النفسي والراحة الداخلية. وبتعبير آخر، فإن " ابتكار الوشم والرموز المستعملة فيه قد جاء بالارتباط مع اكتساب الإنسان الوعي بعدم اكتماله .ومن ثمة، فإن الوشم يكون وسيلة للاقتراب من الكمال، ويتعلق الأمربتحقيق التوازن بين الوعي واللاوعي، إذ يعتبر علامة ولوج عالم وحياة الكبار، فيوشم جسم الفتاة برسوم تشخص حلم أمها واستيهامها، وهي ممارسة غير مجانية، بل تسعى إلى حمايتها من كل ما يمكن أن يتهدد مستقبلها."28 ويعني هذا أن الوشم يؤدي وظيفة سيكولوجية شعورية ولاشعورية، بالتعبير عن القبح والنقص معا، والرغبة في الكمال والتوازن والرضا النفسي والروحاني. الوظيفة الجنسية: تستعمل المرأة الأمازيغية الوشم لوظائف جنسية إيروسية وشبقية، إذ تنقشه المرأة في مختلف جسدها، وخاصة في فرجها ومؤخرتها ونهديها. وكذلك، تستعمله في باقي الأطراف التناسلية الأخرى. والهدف من ذلك هو إثارة اللذة والرغبة والمتعة عند الطرف الجنسي المقابل، بغية الزواج أو الاستمتاع الجنسي. ويعني هذا أن الوشم ذو" مضمون جنسي خاصة عند المرأة الأمازيغية التي تتزين بالوشم في غياب المساحيق الملونة قصد التمييز على الرجل، وأخيرا[كبح ] شهوة الجماع المتجدد...29" وعليه، فالوشم علامة إيروسية وشبقية بامتياز، تحيل على شهوة الجسد العارمة، ورغبته في اللذة والمتعة والتواصل الدافىء. الوظيفة الأيقونية: الوشم عبارة عن كتابة سيميائية بصرية وأيقونية، ترد في شكل خطوط وإشارات وعلامات ونقط هندسية ورمزية. ويرد أيضا في شكل كتابة تشبه كثيرا حروف تيفيناغ وخطوط أبجديات حضارية أخرى. وبهذه الكتابة، يتمرد الجسد عن لغة القول واللسان، لينتقل إلى عوالم الكتابة والنقش والتشكيل والزخرفة والتحبير والتنميق. وبهذا، ينتقل الوشم، بمفهوم جاك ديريدا ، من سلطة الدال الصوتي إلى الدال المكتوب، من خلال التخلص من أيقون السلطة وعدوى المركزية بغية الانصهار في أيقون المهمش . وبالتالي، يعني ذلك الانتقال من المقدس إلى المدنس. الوظيفة الفلكية: يتخذ الوشم وظيفة فلكية مرتبطة بالأبراج السماوية؛ لأن العلامات السيميائية والأشكال الأيقونية البصرية تحمل دلالات فلكية ، وتعبر عن اختلاف الأمزجة النفسية لدى الإنسان الأمازيغي. ومن ثم، نجد رسوما وشمية فلكية متنوعة، تدل على برج الجدي، وبرج الثور ، وبرج العقرب، وبرج السحلية، وبرج الذبابة، وبرج الخنفساء، وبرج العنكبوت... ومن هنا، تتخذ هذه الرموز الوشمية عدة وظائف دلالية ورمزية، كدلالة الخصوبة، والدلالة الأنثوية، والدلالة الشبقية، والدلالة الحركية، ودلالة القوة والعنف، ودلالة الاتقاء من الشر والموت، والدلالة على القوة الطائشة، ودلالة الفرح والكرم... ومن هنا، تختلط الوظيفة الفلكية بالوظائف الخرافية والسحرية والعجائبية والدينية... الوظيفة التمييزية: كان الوشم، عند البربر، يؤدي وظيفة تمييزية أو وظيفة اختلافية بمفهوم جاك ديريدا، إذ كان يميز بين القائل الأمازيغية، إذ كانت النساء بوشمن، كما يوشم الأطفال لكي يتعرفوا إليهم أثناء تيههم واختفائهم وفقدانهم. وكان الوشم مميزا للأنثى العازبة مقارنة بالأنثى المتزوجة على غرار وشوم الهنديات. وكان الوشم يستعمل قديما-إبان التواجد الروماني في أرض تمازغا- للتمييز بين الأحرار والعبيد والأرقاء والسجناء على شاكلة اليونانيين. وفي هذا، يقول عبد الكبير الخطيبي:" والوشم ، كامتلاك متعدد، أي مجرد جواز مرور أو جواز سفر، طلسم (طريقة لتقوية الذاكرة)، وقد كان في أفريقيا عبارة عن وسم يفرضه السيد على العبد.نشم العبد مثلما نشم الحيوان عادة.إنه أيضا بالنسبة للمحكومين بالأعمال الشاقة، على عهد الملكية الفرنسية، أو علامة للتمييز الخاصة ببعض فيالق الجيش المغربي قبل المرحلة الاستعمارية."30 هذا، و" يحمل الوشم عند بعض القبائل الأمازيغية الريفية (كبني توزين) تاريخ القبائل التي تنتمي إليها، وكذلك عاداتها وتقاليدها الاجتماعية، إذ لكل قبيلة أو عشيرة علاماتها المميزة وإشاراتها التي يمكن بفضلها التعرف إلى أبنائها، فوجود وشم معين معناه الانتماء إلى جماعة محددة تختلف عن الجماعة الأخرى.فهي، إذاً، علامة للتعرف على هوية من يحمل هذه الظاهرة. وهناك من يؤكد أن أصل الوشم يعود إلى ممارسات السحر، واستخدام بعض الأشياء الواقية، لقد تعددت وظائفه تبعا للفترات والثقافات والنظم الاجتماعية التي عرفتها مختلف القبائل الأمازيغية."31 ومن هنا، فقد كان الوشم علامة للوسم والتمييز والمقارنة، وكذلك علامة للاختلاف والتعرف إلى الذوات. خاتمة: وخلاصة القول، يتبين لنا، مما سبق ذكره، بأن الوشم ظاهرة ثقافية أمازيغية بامتياز، ارتبطت بالإنسان الأمازيغي منذ القديم، ومازالت هذه الظاهرة مستمرة إلى يومنا هذا ، ولاسيما في البوادي النائية التي لم تتغلغل فيها آثار الحضارة الغربية المعاصرة، على الرغم من موقف الإسلام الرافض للوشم. هذا، ويعبر الوشم عن فلسفة الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة، أو الانتقال من الشفهي إلى المكتوب، أو الانتقال من المركز إلى المهمش والمختلف... ومن ثم، فالوشم تعبير عن هوية الإنسان الأمازيغي وكينونته وحضارته وإنسيته ووجوده الأكيد فوق أرض تامازغا الكبرى أو أرض شمال أفريقيا. وغالبا، ماكان الوشم مقترنا بالمرأة التي كانت تستعمل الوشم للتزيين والتجميل والاحتفال بجسدها شعوريا ولاشعوريا. ومن هنا، فقد اكتسب الوشم، في الثقافة الأمازيغية، عدة وظائف : جمالية، وسحرية، وعلاجية، وجنسية، وأنتروبولوجية، وهوياتية، واجتماعية، ونفسية، ووجودية، وفلكية، وتمييزية، وأيقونية... 1 - أستاذ التعليم العالي بالمغرب. 2 - ابن منظور: لسان العرب، مادة وشم، حرب الميم، دار صادر، بيروت، لبنان، طبعة2003م. 3 - عبد الكبير الخطيبي: الاسم العربي الجريح، ترجمة: محمد بنيس، منشورات عكاظ، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى 2000م، ص:67. 4 - حسين عباسي: (الوشم لدى قبائل أفريقيا الوسطى: الذات والموضوع)، مجلة الثقافة الشعبية، البحرين، العدد13، السنة الرابعة، ربيع2011م، ص:84. 5 - نقلا عن حسين عباسي: (الوشم لدى قبائل أفريقيا الوسطى: الذات والموضوع)، ، ص:84. 6 - ليث الخفاف: (الوشم ووحدة الفلكلور العربي)، مجلة التراث الشعبي، العراق، العدد:10، السنة 11، 1980م، ص:182. 7 - بلقاسم الجطاري: (الوشم كظاهرة سيميوطيقية في الثقافة الأمازيغية)، سؤال الثقافة الأمازيغية: البناء والنظرية، منشورات كلية الآداب، وجدة، المغرب، 2000م، ص:72. 8 - عبد الكبير الخطيبي: الاسم العربي الجريح، ، ص:89. 9 - بلقاسم الجطاري: نفسه، ص:67. 10 - بلقاسم الجطاري: نفسه، ص:73. 11 - بلقاسم الجطاري: نفسه، ص:73. 12 - بلقاسم الجطاري: نفسه، ص:72. 13 - بلقاسم الجطاري: نفسه، ص:73. 14 - عبد الكبير الخطيبي: نفسه، ص:80. 15 - نقلا عن محمد جنوبي: (الوشم بين الرموز والأشكال بالمغرب)، جريدة بيان اليوم، المغرب، عدد 23 دجنبر 1998م. 16 - بلقاسم الجطاري: نفسه، ص:69. 17 - بلقاسم الجطاري: نفسه، ص:72. 18 - بلقاسم الجطاري: نفسه، ص:71. 19 - حسين عباسي: نفسه، ص:84-85. 20 - نقلا عن فاطمة الزهراء زعيم: (الوشم تميز هوياتي ونضج جنسي)، موقع هسبريس، المغرب، موقع رقمي، بتاريخ: 08/06/2009م. 21 - فاطمة الزهراء زعيم: (الوشم تميز هوياتي ونضج جنسي)، مقال سبق ذكره. 22 - بلقاسم الجطاري: نفسه، ص:72-73. 23 - حسين عباسي: نفسه، ص:82. 24 - بلقاسم الجطاري: نفسه، ص:73. 25 - نقلا عن محمد جنوبي: (الوشم بين الرموز والأشكال بالمغرب)، مقال سبق ذكره. 26 - فاطمة الزهراء زعيم: نفسه، مقال سبق ذكره. 27 - بلقاسم الجطاري: نفسه، ص:73. 28 - بلقاسم الجطاري: نفسه، ص:74. 29 - بلقاسم الجطاري: نفسه، ص:69. 30 - عبد الكبير الخطيبي: نفسه، ص:90. 31 - بلقاسم الجطاري: نفسه، ص:72.