الملك يترأس جلسة عمل خُصصت لموضوع مُراجعة مدونة الأسرة        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء        أخبار الساحة    الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب        بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شعراء مأخوذون بأشيائهم الصغيرة
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 14 - 03 - 2014

ليس من الصعب أن تدرك أن هؤلاء الشعراء (الذين نحتفي بهم في هذا الملف) الهادرين كأمواج تركب بعضها دون اتفاق مسبق، قد أبرموا بحرية عالية عقدا مفصلا مع «الخسارات»، ليس لأنهم بلا قامات شعرية، بل لأنهم، حين اختاروا أن يضيئوا على «الفايسبوك»، كانوا يعرفون جيدا أنهم يعزفون قصائدهم تحت غطاء ضجيج مفتوح.
إنها تجربة تتحقق بثبات ورباطة جأش، وبنوع من الحماس «الميتافيزيقي»، على هامش «الديوان الشعري» الورقي، حيث فجّروا جماليّاتٍ كتابيّة جديدة، تعكس فهمهم الخاص للكيان الشعري، بعيدا عن لغة الآباء «المحليين» المفترضين، أبعد كثيرا عن «صناع الشعر» وما يسطرون أو يسقفون، وأبعد فأبعد عن النظريات الشعرية «البروكستية» التي تعبث بمفاصل النص وتستدرجها إلى مقاسات تنطلي بسرعة فائقة على «الطلاب المجتهدين»، وليس على الشعراء «الإيكاروسيين» الذين يرتدون أجنحة من شمع ليبارزوا الشمس في عقر دارها.
يقول الشاعر محمد بنميلود، وهو من أشرس هؤلاء الشعراء و»أخطرهم» على الإطلاق: «إن أردت أن تصير كاتبا، ابتعد عن الأفكار التي يجمع عليها أكثر من مائة شخص، لا تكن أنت الرقم مائة وواحد، أو مائة واثنين. إبحث لك عن أفكار معاكسة، في الاتجاه الآخر، عبر الطريق الجانبية الغامضة وسط أشجار وحشائش وهواء صاف. ابتعد عن أفكارهم حتى وإن كانت صحيحة، فمهمة الكاتب ليست الذهاب في طريق كبيرة مؤدية وصحيحة، بل خلق طرق جديدة في الطرق المسدودة، احفر نافذة في الجدار على مقاسك واهرب منها، طر منها بحرية مع العصافير. 
ليس مهما أن يكون معك الحق فيما تكتب، المهم هو أن تملك القدرة السحرية على جعل ما تقول حقا، وذلك لا يتأتى إلا بالنفخ على الكلمات كساحر، وحبها بجنون، واحتضانها كبيوض لتفقس، وإخراج كلمة حمامة من كلمة قبعة. 
لا تتركهم يخدعونك بعددهم وعتادهم وقدرتهم الجماعية المؤثرة على قول الحقيقة لشخص واحد أعزل. العدد وهم مضاعف، والحقيقة الوحيدة التي عليك الإيمان بها ككاتب هي الشك والريبة والهرب المستمر. إنهم لا يقولون لك الحقيقة، إنهم يخرجون لك ديناصورا من قبعة، بيد جماعة في شخص واحد، بيد تحجر التاريخ بمستحثاته في طبقات العقل الجيولوجية، فيخيفونك. لا أحد يستطيع كتابة الحقيقة، ولا الصواب، إذن قف صلبا كالحداد، واصنع حقيقتك من لاشيء، من حديدة متلاشيات ملقاة على جنبات الطريق، إصهرها واطرقها جيدا حتى تلمع، واقذفها في السماء لتصير نجما».
ونستطيع القول إن المراجع التي يلوذ بها «الشعراء الفايسبوكيون» (الذين نعنيهم بهذا الملف)، على مستوى التجربة، ليست أسماء للاقتفاء والاقتداء، بل هي نصوص لا أرض واحدة لها. نصوص تشبههم، تشتعل طاقة ونورا وألوانا وشجرا وغيمات، كما تطفح بالتأمل الفلسفي اللذيذ (نصوص الشاعرة الواعدة جدا سكينة حبيب الله)، وبالمجازات التي لا تأتي جزافا، وبالكلمات التي تختمر معانيها في مكان ما من العقل، وبموسيقي الجاز والبلوز والريكي والروك وكناوة والعيوط والغرناطي والأندلسي وفيفالدي وفيردي وأرموند وزانفير وباخ وبيتهوفن وتشايكوفسكي وشوبان وموتزارت ورخمانينوف.. ألخ. نصوص تأخذ بيد لغتهم الشعرية لتعبر بها نحو قارات تخييلية جديدة، حيث تتحول الذات (والذات فقط) إلى «مزمار سحري» يقود جميع الأشياء نحو نهايتها (نحو الأقصى). «هناك الذّات فقط. الذّات المتشظّية، لكن المنفعلة والمركّبة التي تشي بهشاشتها، وتطفح بغيارات صوتها الحميم، وتنزع نحو المجهول، وقد ولّت ظهرها للمعضلات الكبرى، وعكفت بدل ذلك على ما يعجّ به اليومي والعابر والهامشيّ والخاصّ من تباريح ونقائض وتفاصيل وإيحاءات، مرتفعةً بانفعالاتها واستيهاماتها وعلاقاتها وحيواتها إلى مستوى أسطرتها، وبالتالي شخصنة متخيّلها الشعري. ونتيجةً لذلك، برزت رؤى شعرية جديدة في نصوص هذا الجيل والجيل الذي سبقه، تعكس في مجملها إمّا وضع الاغتراب واليأس والحزن التي تتملّك الذات، أو استقالة الذات من الواقع ونفض اليد عن إلزاماته وحاجياته، أو الرغبة الطافحة بالحب والأمل في إعادة صياغة الحياة والتحرُّر من القيود، أو التوق لتحقيق التوحُّد مع المطلق» (عبد اللطيف الوراري أثناء الحديث عن التجربة الشعرية ل «جيل بين قرنين»). وليس هذا المطلق سوى الشعر الذي يتحول إلى معنى خالص. يقول عبد الرحيم الصايل:
«بالنسبة لي، راينر ماريا ريلكه، شاعر كبير وهائل الكرم. لقد كنت أعيش أياما صعبة كنت خلالها أبحث عن حل لفمي الذي كان يتدفق بالشعر ويمنع الفرصة عن يدي. آمنت بالشعر من أول نظرة، ومنذ تلك اللحظة التي آمنت به فيها، صار لقلبي وجود، والْتأمت طفولتي. ريلكه شاعر كريم أنقذتني روحه الشاسعة، وفي رسائله إلى شاعر ناشئ، اعتبرت نفسي الشاعر الناشئ الذي كان ريلكه يراسله. لقد مرت علي أيام، كادت فيها يدي أن تتصلب وكاد فيها فمي أن يضرب عن الكلام، لكن حدث أن التقيتُ ريلكه وتم تخطي المحنة. شكرا لك راينر ماريا ريلكه» .
وإذا كان الصايل يدين بكل شيء للنمساوي (وليس العربي أو المغربي) ريلكه ويتمنى أن يقبل أقدام الشعر الذي رفعه برقة فوق الجرح: (أيها الشعر/ لو كانت لك قدمان/ لقبلتهما صباح مساء/ فأنا مدين لك بكل شيء)، فإن سكينة حبيب الله تكتب (ليس على عجل) كي لا «تتسمم»:
«كيف بدأت الكتابة؟ لماذا أكتب؟ 
لأني لم أفكر في تهشيم الكلمات تحت قدمي والتخلص منها. 
لأن كل شيءٍ بدأ بسبب الخوف والأصوات والهروب. 
لأني في السادسة من عمري اختبأت تحت طاولة الطعام حين داهمت العاصفة البيت لأول مرة، وحين وضعت يدي في جيب مريولي- في محاولة للتكوم - وجدت قطعة طباشير، بدأت أكتب على سقف الطاولة الخشبي أشياء وأشكال، ثم تعبت، كان لدي كلام يجب أن أكتبه، لكني تعبت. نظرت لقطعة الطباشير المتبقية في يدي والتهمتها بدافع من ذلك اليقين الذي لا يقبل الالتباس أن أي شخص ستسقط في يديه من بعدي ستكتب له في ما يشبه الوشاية كل الكلام الذي أتعبني ولم أكتبه. الاحتفاظ بها، كان يشبه إخفاء قلعة في جيب، مفضوحاً ومستحيلاً. أصبتُ بتسمم بعدها، الطبيب أكدَّ أني أكلتُ شيئاً مؤذياً ، منتهي الصلاحية أو غير صالح للأكل (هو يقصدُ قطعة الطباشير) لكني وحدي كنت أدرك أن السبب كان الكلام الذي لم أكتبه/ وهكذا ومنذ ذلك الوقت/ كان علي أن أكتب/ وإلا تسممت».
شعر هؤلاء يتمتع بحيوية كبيرة، إذ تجد فيه كل أشكال التجريب التي يمكن الاغتسال بأضوائها. إنه شعر مثير ورائع. شعر أطفال مشاغبين، وليس شعر أساتذة يعرفون من أين تؤكل الأوزان (رغم أن فيهم من يكتب شعرا عروضيا جميلا مثل الشاعرين محمد عريج وأحمو الحسن الأحمدي) ومن أين تُسرق المعاني وكيف تُخفى وتُطْمسُ وتتحول في النهاية إلى حلوى صالحة للاستهلاك ترتاح في جوارير محكمة الإغلاق. شعراء يضعون الشعر فوق كل شيء، ويتمتعون بحماسة كبيرة للغة الخالية من التغضن. لغة لا تستحوذ عليها «حوافر البعير»، ولا «قفا نبك».
لنقرأ لمحمد بنميلود:
«الّذين يملؤون البئر بماء البحر/ هم أصدقائي/ الّذين يحبّون الأحذية تصل حتّى الرُّكب، كخيّالة الحدود/ والبنادق محشوّة برصاص سبق استعماله/ يسدّدون طلقاتهم في اتّجاه الشّفق الآجوريّ/ ويظلّون حزانى في نهاية الحياة/ كموظّفيّ الإعدامات/ بمعاش لا يكفي لأيّ شيء/ يقول لك الصّديق منهم: إنّ الشّفق يصير أحمر كلّما ماتت الشّمس في الغروب، يقول كلامًا غامضًا، ويصمت أيَّامًا طويلة جدًّا بطول السّكك الّتي بلا قطارات/ يمشي وحيدًا في الثّلج/ ولخطواته آثار تذوب قبل أن يصل/ يكون في بلاد الغربة حارس كاتدرائيّة، وفي بلاده يكون حفّار قبور في المحيط/ هكذا هُم أصدقائي».
ولعبد الرحيم الصايل نقرأ:
«كان علي/ أن أزأر/ وأرمي موزة لي/ وأحك رأسي/ وأصدر نهيما/ وأمد عنقي/ بين الأشجار العالية كزرافة/ وآكل العشب/ ناظرا بعيني غزالة حذرة/ إلى ظلي الذي لذئب/ لقد كان علي/ أن أكون حيوانات كثيرة/ في حديقة جئت إليها/فوجدت أن الحيوان الوحيد/ الذي يعيش فيها طليقا هو الكذب».
ونقرأ لسكينة حبيب الله:
«جرَّبتُ أن أسقِط اسمي مراتٍ عديدة/ لكن كثيرين ظلوا يركضون خلفي/ كي يعيدُوه إليّ / أما من التقطَه أوّل مرة/ فقد كان أبي/ بإصبعين حملهُ كفأرٍ ميت/ ورماهُ في وجهي /وأنا من باب اللباقة/ كان عليّ أن أشكرَه».
ولمحمد عريج:
«كأنَّ يديْكِ تشتهيَانِ قتْلِي/ لتقتسما معاً ميراثَ ظِلّي/ كأنَّكِ والخُطَى أمستْ بلاداً/ ترينَ ولا ترينَ..حُدودَ وصْلي/ لقدْ سَيَّجْتُ أشجاري عميقاً/ لكي لا تدخلي في الليل حقلي/ وقد أوصدتُ خلفي الليلَ كي لا/ أرى عينيكِ في قمرٍ مطلِّ/ خُذيكِ إلى الغيابِ..خذيكِ مني/ خذي شفتيكِ منْ أسراب نحلي/ خذي رُطبي التي سقطت..ولكنْ/ دعيني كي أواسيَ جذع نخلي».
لم يعد الشعر بالنسبة لهؤلاء وسيلة لعرض المعارف الفلسفية أو الأسطورية، أو التبجح بأنهم موسوعات متنقلة، أو أنهم على إلمام بالتجارب الشعرية في أمريكا واليابان وروسيا واليونان وألمانيا والموزمبيق وساحل العاج والبرازيل والكيبيك والتوتسي والهوتو وجبال الهملايا. إنهم يسعون في الغالب إلى تبليغ مشاعرهم بالانزلاق الحر على ظهر التخييل. ليسوا شغوفين بالنظريات الأدبية، ولم يتربوا على بناء جملهم الشعرية على مقياس الجدران النقدية.
يقول الشاعر منير الإدريسي:
«يعجز نقّادنا عن الاقتراب من الأعمال الشّعرية التي تراهنُ على الاختلاف. الأعمال التي تحلّق بعيدا عن السّرب، والتي تحمل اقتراحات جماليّة جديرة بالتأمّل. عوض ذلك يسبحون في البرك التي يعرفون تضاريسها جيّدا».
لنقرأ لسناء عادل:
«ثقبُ الباب/ ليس أميناً في كلِّ ما ينقله/ عن الخارج/ وشعاعُ الحظِّ/ الذي يتسرّب من تحتِ الباب/ سريعاً يخبو/ مهرولةً تمرُّ الأيّامُ/ ووحدَه المجهولُ يعلَمُ كم تهرِّب/ في طيّاتها من جميل/ دورةٌ.. دورتان للمفتاح/ وشيءٌ من العزيمة/ تكفي كي ينفتح البابُ على مصراعيه/ أيها الواقفُ/ -كابنِ امرأةٍ عقيم-/ خلفَ بوابةِ الحياة».
ولحبيبة سميك نقرأ:
«طرقاتي غابات لا تنتهي/ وطني ظل شجرة متعبة/ أحرس الليل من قسوة الكون/ وفي كفي قنديل صغير/ أطرد به كوابيس الطيور النائمة/ وأشق به ظلمة الطريق كمحاربة مجنونة! / في كفي شمس صغيرة/ وعطر وردة ميتةفي كفي سر كبير».
ونقرأ أيضا لليلى بارع:
« وأنتِ تُطلين من نافذتك السوداء/على صباحاتي/تذكري/ أنني رسمتها بأصابعي المجروحة/ لم يحملها لي أي فجر/ أو طائر أزرق صغير/ وأنت تطلين مباهية بفستانك المشتعل غواية/ تذكري/ أنني اشتريت هذا الصباح/ بأقساط باهظة/ من متجر الأيام/ ذاك الذي يقع على درب/ الزمن الحزين/ وأنت تطلين/ لا تنسي/ إزالة تلك الضحكة/تلك التي لا تليق بصباح خجول/ تلفع برداء/ فرح بعيد».
ولأمينة الصيباري، التي تكتب شذرات شعرية ملتمعة وعميقة، نقرأ:
«سامحيني أيتها الفراشات المرتعشة في القصائد إن سكبت فوقك طبقة فورمول سميكة..أريدك أن تتجمدي وأنت في حالة رقص».
إنهم شاعرات وشعراء يحبون الإفراط في كل شيء، ويسعون إلى الهدم بشهية عمياء لا تلوي على شبع. يقترحون خيالا حرا، ويتنافسون في البحث عن الصور الطرية، والنادرة، وغير المطروقة. وهم يعون جيدا أن ليس بإمكان ذلك «الانزياح العذب والمتدفق والطائر» أن يتحقق إلا باللوذ بالأطفال الذين يضحكون في الداخل. إن استدعاء الطفل في قصائدهم هو استدعاء للرؤية الداهشة والمندهشة. الرؤية العارية من الأثاث الخارجي. الرؤية غير المستنزفة بتأويلات الآخرين، ولا بالحُفَر التي تركتها فاغرةً معاولُ الشعراء السابقين. رؤية عذراء كغابة في كوكب غير مأهول. إنها «كتابة ببياض ناصع لا تشوبه شائبة، كصفاء قلب زهرة الغاردينيا التي تصبو إلى النور كي تتفتح مثل صبية ناضجة في موسمها الشهي، وفي معانقتها للصباح وحوارها مع المساء، هي كتابة بقلم مصنوع من خشب جذوع أشجار الجوز، واثقة من قدرنها على التجول بين الكواكب بالخطوة نفسها التي تتجول بها بين السواقي والحقول. إنها تلك اليد المضيئة التي تجرنا برفق نحو ضفافنا البعيدة، حيث كل شيء يبدو ملاكا (كما قالت الشاعرة الإسبانية أليخاندرا بيثارنيك).
شعراء أطفال يسبحون في بحيرات لا يراها سواهم. يعتبرون الطفولة ماء مطلقا، ولذلك يصرون على أن يظلوا مبللين. ومع ذلك، فإن أغلبهم على اطلاع واسع بتاريخ الشعر، قديمه وحديثه، وعلى دراية ب «عمود الشعر العربي»، وبفحول الشعراء ونبلائهم وصعاليكم وفرسانهم. لكنهم استطاعوا أن يحققوا «اللا التفات» اللازم لكل تجربة في الإبداع، فنجوا من «لعنة أورفي»، ليسقطوا في لعنة أخرى، هي البحث عن «الصوت المتفرد». ومن هؤلاء الشاعر الجميل أحمو الحسن الأحمدي الذي يقول في إحدى شذراته الشعرية:
«مَرَّتْ بِنَافِذَةِ الْبَهَاءِ رَوَاحِلِي فَحَطَطْتُ رَحْلَا..
قُدِّي قَمِيصَ الْهَجْرِ مِنْ قُبُلٍ ..فَثَوْبُ الْوَصْلِ أَحْلَى..
إِنِّي لَمَحْتُكِ كَالنَّدَى وَرَأَيْتُ مَبْهُوراً عَلَى عَيْنَيْكِ كُحْلَا..».
بل إن أغلب هؤلاء الشعراء على إلمام طيب بما تفشيه أشكال التعبير الأخرى من مجاورات مع الشعر، فتتحقق في أشعارهم الموسيقى والقصة والرواية والمسرح والسينما والنحت والصباغة والفيديو، وفنون الطبخ والتجميل والتبرج والبيولوجيا والصيدلة والتشريح.. إلخ. شعراء جميلون يعيدون للعالم طراوته الأولى، لا يكتبون شعرا يأكل بعضه، ولا يتعاملون مع اللغة كمنفى، ولا مع «الريبرتوار» الشعري المغربي كأب ينبغي قتله. هم شعراء بدون آباء وكفى، أو يعلنون صراحة أنهم أبناء الأرض الذين هرَّبوا فرحهم الشعري من عبوس الكواكب الأخرى.. ولا يتعاملون مع «الخارج» ككارثة قيامية كالحة. ثائرون ومتمردون دون مخططات حربية (لا تهمهم- أو هكذا يبدو- المعضلات الكبرى). ينتقدون كل شيء، البيت والمدرسة والأحزاب والدولة والحكام. متحيزون للهامشي والهش، وأحيانا للسوداوية واليأس، بل إن منهم من يكتب عن الموت كما لو كان صديقا يشاركه الملح كل يوم.
هؤلاء الشعراء يعيشون الشعر، يقرؤونه ويحسونه ويعرفون جيدا ما يقع حولهم من حروب وترتيبات وألاعيب القوى العظمى والصغرى، لكنهم لا يكترثون بشكل مباشر للصراعات الجيوستراتيجية. لن تجد فيهم خليل حاوي، ولا أمل دنقل، ولا عبد الله راجع، ولا المجاطي، ولا عبد الله زريقة، ولا عبد اللطيف اللعبي، ولا مظفر النواب، ولا عبد الوهاب البياتي، ولا أدونيس. هم كل أولئك، ولا أحد من أولئك أيضا. لا يعتبرون «الصحراء» أو «مدونة الأحوال الشخصية» أو اختصاصات رئيس الحكومة قضية شعرية. ذلك أن الشعر يحقق مصيره خارج الإجماع الوطني، ويسير في اتجاه واحد لا علاقة له بالأمم المتحدة أو منظمات حقوق الإنسان الدولية.
شعراء مأخوذون بأشيائهم الصغيرة، يشرق فيهم الشعر كما لو كان شمسا تطل على حديقة. صيادون ماهرون للصور الرائعة، وليست لديهم أية نية للتقدم في العمر (الهدوء والنضج والترقب). كل ما يهمهم ورقة شجرة أو مقبض باب أو جناح طائر صغير أو ظهر دعسوقة أو عش مقلوب على شجرة منحنية. الأشياء الصغيرة التي لا ينتبه لها الكثيرون. التي تشبه إغفاءة غير متوقعة، والتي تطلق أحاسيسهم الأولى من محابسها، والتي تتمرد على «الأسلوب المحكم».
إن كل واحد من هؤلاء الشعراء يحمل وحشا نائما في مكان ما من قلبه. وهذا الوحش هو الذي يوزع «المزاج الشعري» على كل قصيدة، حيث يطغى اليأس والخوف والعزلة والموت، وأيضا مساحة كبيرة من الفرح الشعري خارج ما تحققه «اللايكات»، لأن الشعر لدى هؤلاء،كما نزعم، ليس «رقصة سربتيز» بل ظلا لمعنى يقودهم إلى موت بعيد. إنه كل شيء. حزن ضاحك وذهاب مزهو بنفسه نحو الشمس.
بقي أن نعترف، ونحن نصافح هذه التجارب التي تسنى لنا الاطلاع عليها (لم نطلع على كل التجارب)، أن «الشعراء الفايسبوكيين» كثيرون، ويكاد عددهم يزداد كل يوم. بل إن العديد من الشعراء المعروفين، الذين يتوفرون على دواوين مطبوعة، التحقوا، منذ سنوات، بهذا الفضاء الأزرق، وصارت إطلالتهم الشعرية الفايسبوكية تكاد تكون يومية. لذلك، فإننا نعني ب«الشعراء الفايسبوكيين» تلك الأسماء التي ارتبط «وجودها الشعري» بالفايسبوك، كما أبانت عن قدرة هائلة على القول الشعري، وعن إتقان لغوي كبير، وعن كفاءة تخييلية تكاد لا تضاهى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.