تشكلت الصورة الأدبية المقاومة في المغرب، موازاة مع تنامي الظاهرة الاستعمارية وتبلور معالمها في الحقل السياسي والاقتصادي والثقافي… حيث جاءت خطوطها العريضة غالبا كصورة معكوسة للانتفاضات الشعبية والفكرية المناوئة للاستعمار الفرنسي – الإسباني.وتأتي الكتابة القصصية، في طليعة أشكال التعبير التي حاولت منذ ثلاثينيات القرن الماضي تشذيب الهوية الوطنية، ودحض المخططات الكولونيالية ما حدا بمناخ هذا الأدب على أن يكون اتجاهه تحرريا خالصا، لتزدان المكتبة المغربية إثر ذلك، بنتاج قصصي غني ومتنوع يشمل مجموعات؛ "واد الدماء" و"صراع في ظلال الأطلس" لعبد المجيد بن جلون، و"مات قرير العين" لعبد الكريم غلاب سنة 1948م، ثم "علال الجامعي" و"عذراء ألمريا" و "عجائب الأقدار" لمصطفى الغرباوي سنة 1937م، و"عمي بوشناق" لعبد الرحمن الفاسي سنة 1941م. فجل قصص هذه المرحلة جعلت من الممانعة مرتكزا ومن الكفاح الوطني مدارا لها؛ بمعنى أنها «تقف عند حدود التصوير الفوتوغرافي في لقطات الشعب المقاوم» على حد تعبير الأستاذ سيد حامد النساج. ويبدو أن واقع "السرد بالمغرب" إبان الاستعمار، كان يقتضي اعتبار المبدأ قبل الإبداع، وهذا ما تبينه الأستاذ محمد زنيبر مؤكدا أن هناك التزام أساسي لا مندوحة عنه، وهو«أن يكون الأدب في خدمة المجتمع، في خدمة الحرية، أن يندد بالظلم في جميع أشكاله، أن يبين أمراض المجتمع، ليساعد على الوعي بها والسعي للقضاء عليها بالأسلوب الذي ينسجم مع طبيعته وأصالته» وكي تتحقق هذه الغاية، يتحتم على الكاتب أن ينزل من الكنبة إلى الحصير حيث يعيش عامة الناس. ويطلعنا الدكتور نجيب العوفي في أطروحته "مقاربة الواقع في القصة القصيرة"،على ثلاث عوامل اختزلت جدلية الشخصيات المحورية وموضوعات صراعها خلال فترة الحماية الفرنسية على المغرب وهي: عامل الذات: ويمثله المستعمَر وهو الطرف الأول والشرعي في جدلية الصراع، وتتركز أفعاله وردود أفعاله في فعل محدد وثابت هو الدفاع عن الهوية. العامل المعاكس: ويمثله المستعمِر وهو الطرف الثاني واللاشرعي في جدلية الصراع، وتتركز أفعاله وردود أفعاله في فعل محدد وثابت هو الهجوم على الهوية. العامل الموضوع: ويتمثل في الوطن أو الهوية وهو مدار الصراع ومناط الرهان هو عقدة الهاجس الوطني وعقدة الهاجس القصصي في آن. ومن هنا تكون القصة المغربية في بداياتها الأولى، قد انحازت نحو الهمومالجماعية وأعطابها وخساراتها مشكلة محور رسالتها الأدبية، بل صارت أحيانا، الناطق باسم الحركة الوطنية إن لم نقل أن هؤلاء الكتاب الذين تزعموا ليس فقط كتابة القصة وإنما باقي الأجناس الأدبية الأخرى، هم ذاتهم رواد وزعماء الحركة الوطنية. ويعد عبد المجيد بن جلون، من أهم القصاصين الذين تناولوا موضوع الاستعمار بشكل صريح ومباشر. ففي شهادته التي ضمنها في العدد الأول من "مجلة المناهل"، كشف عن عوالم تجربته المناوئة للغزو الأجنبي واختزال لثيمة القصة المغربية في مرحلة النشأة: «ولقد جعلت من الاستعمار، الموضوع الذي دارت حوله القصة القصيرة الأولى التي كتبتها… فواد الدماء تناولت في قصصها القصيرة المظالم التي عانتها مختلف طبقات الشعب المغربي على يده»، ويمكن ترجمة هذا التصريح في النص الأول من مجموعته وادي الدماء: « ونظرنا فإذا بهم يسيرون خطوة خطوة وسط الأوحال نحو الوادي الرهيب، الوادي الذي يغلي بدماء الضحايا، ودموع العذارى، وصراخ الأطفال وأنين الأمهات، وعويل الشيوخ، وكان الرعد يخف والمطر ينحسر كلما اقتربوا. ولم يبق بعد ذلك من العاصفة سوى برق صامت ينير لهم الطريق…إلى واد الدماء». «أما مجموعة "صراع في ظلال الأطلس" صورت فيها وفي أحداثها جانبا آخر من الحياة في ظل الاستعمار، هو جانب المقاومة والبلاء الذي أصبح على الشعب المغربي أن يخوضه في مقاومة هذا الاستعمار وضروب البطولة التي كان يتفنن المغاربة في إبدائها لأجل الصمود في وجه الاستعمار وقساوته». لقد جمع بن جلون في المتن القصصي لمجموعاته الأولى، بين آليات الاستغلال الاستعماري؛ وآليات التمرد والممانعة الممثلة في فعل المقاومة، فاتخذت إبداعاته دعاية لسنية، حتى أنه جعل الريادة في هذه الدعاية من نصيب المرأة. فقصة "عائشة" تبين الدور القوي الذي لعبته المرأة المغربية في نضالها ضد للاستعمار: «واختفت عن الأنظار، فلم يرها بعد ذلك أحد ولكن الناس كانوا يعرفون أنها ما تزال حية، لأنهم كانوا يسمعون من آن لأخر طلقات بندقيتها، ويعترون على صرعاها، من ذوي القبعات، في منعطفات الطرق ومكامن الغابات». أما عبد الكريم غلاب، فقد صور في مجموعته القصصية "مات قرير العين" التي كتبها في أواخر سنة 1948م، دينامية الوعي الوطني والكفاح الفردي التلقائي الذي بدأ يكتنف مجتمع مغرب الحماية، فأول قصة في هذه المجموعة وهي "مات قرير العين" تحتفي بنضال محمد الزرقطوني الذي فضل تجرع الموت على أن يكشف أسرار وكنه الحركة الوطنية. ولم يكن احتفاء غلاب بهذه الشخصية اعتباطا، بل هو امتداد لنسق انتهجته القصة المغربية في الاحتفاء بشهداء المغرب ومنه قصة "انقلاب" لمحمد الصباغ التي تدور حول استشهاد علال بن عبد الله. كما لم يقف تصوير عبد الكريم غلاب عند دينامية محمد الزرقطوني، بل انتقل تصويره كذلك من خلال قصة "الفيلسوف" إلى التلاميذ والطلبة الذين كانوا يشاركون في خلايا سياسية ويقومون بشرح قضية بلادهم للمواطنين المغاربة. كما كانوا ينظمون مظاهرات صاخبة يعبرون بواسطتها عن تمردهم ضد سلطات الاحتلال. وعبر هذا السياق، اهتمت القصة المغربية كذلك، بالثورة الريفية مقدمة إياها وفق أسس متداخلة تمتزج بالبعد الديني والوطني والكوني. ويتبين ذلك بوضوح في كل من قصة "شقراء الريف " لعبد العزيز بنعبد الله، و"الأسيرة" لعبد المجيد بنجلون. وفيما يخص العاطفة الوطنية المتأججة لدى بسطاء المجتمع المغربي عقب نفي السلطان محمد بن يوسف، يحيلنا محمد الخضر الريسوني في مجموعته "ربيع الحياة" على أعمال الفداء والمقاومة التي تنامت بمختلف ربوع البلاد، مقدما صورا حية عن الفعل الثوري المتجسد في العمل الفدائي الصلب لشخوص المجموعة: « علم السكان بنبأ عزل سلطان البلاد محمد الخامس … وأقدم محطم الفؤاد متجهم الوجه واستفسرته أمه عن سبب قلقه ، وإذا به يرفع رأسه ليجيبها وعيناه تشرقان بدموع الغضب. الآن يا أماه عرفت كل شيء». لقد واكب القاص المغربي أطوار المقاومة الوطنية، ناحتا حركية سردية ثابتة قوامها البحث عن الهوية، وهو بحث يتقاطع مع باقي القوى الفاعلة الأخرى، فلا غرو إذا، أن تحتفي القصة المغربية بالعامل الذات، وتقدمه بتعبير الأستاذ نجيب العوفي في صورة «مؤمثلة ومؤسطرة كبرومثيوس مغربي يتحدى قدره ويقارع أغلاله» بحلل الحرية والإرادة الحرة.