« التأصيل... الترجمة ...الاقتباس ، لا أنتمي لأي منها «؛ استفزاز جميل أثار تصفيقات الجمهور الحاضر بقاعة نيابة وزارة التربية الوطنية في تازة ، جملة النفي الصغيرة تلك لخصت إجابة أحمد بوزفور على تساؤل أحد المهتمين حول منبع أو منابع الحكي لديه من بين الحركيات الثلاث المذكورة... بهدوئه المعهود ومعجمه الساكن في قلب هوسه القصصي والنقدي وسط دفء الجمهورالتازي ، تراقصت كلماته مثلما تهادت وتتهادى نصوصه في تآلف حميمي بين الشعري والسردي دون صنمية أو تلغيزأو حذلقة خطابية ، الشيء الذي بات يسم تجربة أحمد بوزفور المتميزة ( شفهيا وكتابيا ) والتي تمثلها لحد الآن ست مجاميع قصصية وعشرات العروض والمحاضرات واللقاءات التواصلية مع الجمهور عبر كل ربوع المملكة من طنجة إلى لكويرة ، نصوص ولقاءات تختلف في الخطاب والرؤية وتتمايز في مقتضيات المراحل واستجابات الثقافي لتحديات السياسي والاجتماعي ، وعبرها مفاصل ولحظات مغرب ما بعد الاستقلال ، تألق لم تزده سنون الكهولة إلا تجددا وعطاء مستمرا وتواصلا متينا مع ناشئتنا الحالية .. رغم العودة المفاجئة لهبات باردة صحبة أمطار خفيفة على تازة والأحواز وهما في عز أيام الربيع : الضيف المتأنق الذي يقبل عادة بالدفء والاعتدال ، رغم الرياح والقطرات ، تابع جمهور من مختلف الفئات الاجتماعية والأعمار والأجيال والمستويات الثقافية القاص أحمد بوزفور في إطار البرنامج السنوي لجمعية الضاد (المفتوحة لأساتذة اللغة العربية وعموم الغيورين عليها ) بتعاون مع كل من مجموعة مدارس ركراكي للتعليم الخصوصي بتازة والجمعية المغربية لأطر التوجيه والتخطيط التربوي ونيابة وزارة التربية الوطنية بنفس المدينة مساء يوم 17 ماي الحالي ... افتتحت الجلسة التواصلية مع القاص أحمد بوزفوربكلمة الإطار المنظم التي حملت على لسان الأستاذ الشاعر المختار السعيدي نائب رئيس جمعية الضاد ترحيبا حميميا بالمبدع القادم من الدارالبيضاء نحو جذوره وينابيع طفولته ( البرانس / دائرة تايناست / تلال مقدمة الريف ، شمال مدينة تازة حيث رأى أحمد بوزفور النور سنة 1945 ) كما شكر الأستاذ السعيدي باسم الجمعية كل من دعم هذا النشاط خاصة الجهات المذكورة آنفا ، ثم افتتح الروائي والإعلامي عبد الإله بسكمارعضوكل من جمعية الضاد والفرع الجهوي لاتحاد كتاب المغرب الجلسة التواصلية بمحطات اعتبرها مفصلية لفهم أحمد بوزفور القاص والمناضل و الإنسان : أولاها نزول السي أحمد» ضيفا منعما مكرما « وتمضيته ما تيسر من أسابيع ( 3 أشهر بالضبط ) سنة 1966 بأحد سجون المملكة في عز سنوات الرصاص كمعتقل رأي وذنبه الوحيد حبه للبلد ونضاله من أجل أن يصبح المغرب وطنا لجميع المغاربة لا لفئة أو فئات محظوظة ، هي المحطة التي يخجل بكل تواضع المبدع من الحديث عنها « كيف أتحدث أنا عن بضعة أسابيع سجنا وهناك آخرون وعديدون قضوا زهرة أعمارهم أو اختفوا واستشهدوا في سبيل هذا الوطن ؟؟ « المحطة الثانية : رفضه لجائزة المغرب للكتاب برسم سنة 2002 احتجاجا على الأوضاع الاجتماعية و الثقافية العامة للبلد وهي الجائزة التي تبلغ نقدا 7000 دولار ولا شك أن لعاب الكثيرين يسيل ? وما زال - لهاثا عليها وعلى غيرها هنا وهناك ( وأغلبهم لم يضف شيئا للقصة ولا للشعر أو الرواية أو النقد بالبلد ). أما المحطة الثالثة فاقتطفها الإعلامي عبد الإله بسكمار من مداخلة سابقة ألقاها بوزفور بنادي رجال ونساء التعليم في تازة سنة 2006 ضمن لقاء تواصلي « مسؤولية الفرد لا تعني فقط حق الاختلاف عن الجماعة بل تعني بالأساس مسؤولية الفرد عن أفعاله وأقواله ، تعني إحساسه بالضمير الأخلاقي الداخلي الذي يدفعه إلى العمل أولا ، والى الإخلاص والنزاهة ثانيا ، والى احترام القانون في كل شيء احتراما داخليا سقراطيا ثالثا « . بعد هذا التقديم أفسح الإعلامي الأستاذ عبد الإله المجال أمام القاص أحمد بوزفورليعرض سمات من الوضع الثقافي الراهن المتسم بتراجع مستمر للمقروئية واختفاء المكتبات المنزلية كما أن ثقافة القراءة لم تترسخ بعد لدى الأجيال الجديدة ، ونعت السي أحمد هذا المشهد العام ب « المخجل والمخزي « إلى درجة أن آلافا من نسخ الكتب والمؤلفات في مختلف المجالات يتم طبعها سنويا لا تتجاوز المبيعات الفعلية منها بضع مات في أحسن الأحوال ، ولم ينس صاحب « النظر في الوجه العزيز» عقد مقارنة بسيطة بين فجر الاستقلال والوضع الراهن حيث كان المسرح موجودا في كل المدارس والمؤسسات التعليمية ، والروح الوطنية في أوجها ( مع وجود حزبين فاعلين في الساحة : الاستقلال والشورى ) وفي صلب الروح الوطنية العمل والإحساس بالواجب والشعور بالمسؤولية ، ملاحظا فتور هذه القيم تدريجيا في المجتمع المغربي ، «يجب أن تستعاد هذه الروح « يقول بوزفور ومعها قيمة الإحساس بالواجب عن طريق الثقافة والأدب فلدينا في كل الأحوال مسرحيون وأدباء ومبدعون يضاهون نظراءهم على المستويين العربي والعالمي ويجب أن تهيأ للأدب كل قنوات التواصل ، لا يمكن أن نتقدم دون تفكير ولا يمكن أن نفكر دون قراءة ... حديث نشأة الجنس القصصي عند المبدع بوزفور يقف به في سنة 1947 حينما صدرت مجموعة « وادي الدماء « للقاص المرحوم عبد المجيد بن جلون وحساسية المرحلة فرضت الدفاع عن الهوية المغربية ومقارعة نظام الحماية عبر السلاح الأدبي / شعرا وقصة ، مع بداية الاستقلال برزت مسألة التنمية الاجتماعية وما يوازيها من صراعات سياسية وأيديولوجية انعكست على القصة والقصة القصيرة ثم الرواية باعتبارها صوت الجماعة من وجهة نظر مبدعنا بخلاف القصة القصيرة التي تعبر عن صوت الفرد الخاص و المستقل، وبدءا من سبعينيات القرن الماضي ولج النص القصصي ما سماه بوزفور ب» فريواطوالقصة « ( مغارة شهيرة بأحواز تازة تتميز بسراديبها ومتاهاتها وصواعدها ونوازلها وهي من أعمق المغارات في العالم ) بمعنى سبر أغوار النفس البشرية وأسرارها ومعمياتها ، اكتشاف مناطق معتمة فيها بموازاة مع تجريب آفاق جمالية مختلفة تتعدى وتتجاوز الإطار الخطي للقصة الكلاسيكية...فيما أعاد التأكيد خلال النقاش مع الجمهور أن أول قصة مغربية قصيرة بهذا المعنى الكلاسيكي هي للزعيم الراحل عبد الله ابراهيم وقد صدرت في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي تحت عنوان « خادمتي « .... تتميز الكتابة في القصة القصيرة عند أحمد بوزفور بالاعتماد على التراث الشعبي للمغرب العميق واكتشاف متاهات الجسد المعذب عبر الشك والسخرية والنقد الموجه للايديلوجيات والأوهام التي نعتقدها حقائق دامغة ومن ثمة محاولة نقل المواطن البسيط من كائن هلامي إلى فرد مستقل بمفهوم علم الاجتماع الحديث ... ولا يفوت بوزفور بالطبع الحديث عن تجربته القصصية بعد هذا العرض ذي الطابع العام فمجموعة « النظر في الوجه العزيز « ( صدرت سنة 1983 وهي الثانية بعد أول مجموعة له « يحدثونك عن القتل « الصادرة سنة 1971 ) نبتت وسط الصراع الاجتماعي والسياسي والايديولوجي يحكمها مسار السؤال المؤرق في تلك الايديولوجيات وعبر موقف جمالي رافض لها ، وتقوم العجائبية بهذه المهمة أفضل قيام داخل المتن القصصي إياه ، أما مجموعة « الغابر الظاهر « والعنوان مستمد هو الآخر من الرأسمال الشفوي الشعبي الذي يحيل على الغياب شبه المطلق للفرد ( « مشى لا غابر الظاهر» كما نقول بالعامية المغربية ) فتطرح سؤال بحث عن هوية مغربية متميزة ، إذ إن جواب الحركة الوطنية - من وجهة نظر بوزفور- لم يعد كافيا لأن البحث المنهجي والعميق في المغرب كفضاء للأمكنة والأزمنة والشخوص والعلاقات والأحداث والمواقف ، يوضح بما لا يدع مجالا للشك أن هناك اختلافا وتنوعا كبيرين في الرأسمال الرمزي ، في العادات والتقاليد والثقافة وأشكال الرقص والطبخ واللباس وغيرها بين منطقة وأخرى وهذا التنوع انعكس فعلا على الثقافة الشعبية لكنه لم يظهر بالشكل الكافي في الثقافة العربية الفصيحة / العالمة ، من هنا رهان الكتابة في هذه المجموعة .... من جهتها تختزل مجموعة « صياد النعام « السؤال المركزي : هل يمكن اصطياد الكتابة والقبض عليها بكل متاهاتها وخيوطها العلنية والسرية ؟ وماذا تراها تمنحنا في الأخير؟ يجيب السي أحمد « لاشيء سوى الحلم « مجموعة « ققنس « ( ققنس طائر أسطوري كلما اقترب من المصير الحتمي أي الموت زاد غناؤه جمالا وبهاء ) تخاطب الأحلام فينا وتحمل معها تأويلات فرويد وابن سيرين ومن ثمة ، يعتقد المبدع بتعددية التأويل وكلما تكاثف وتنوع النظر والتأويل تجاه نص من نصوص المجموعة إلا وحققت تلك المتون القصصية المتعة الأدبية ثم الفائدة المعرفية « لم اتناول بعد مجموعة « قالت نملة « بالتفسير والتأويل والنظر ( المبدع يصبح قارئا وناقدا هنا ) « يجزم بوزفور لأنها لم تثر الصدى المطلوب لحد الآن لدى النقاد والباحثين نظرا لتأخرها النسبي زمنيا أما « نافذة على الداخل « فاكتفى القاص بالقول عنها « إنها تتناول شخصيات خاصة جدا «. في سياق أجوبته على أسئلة وتعقيبات وملاحظات الجمهور الحاضر وكان أغلبها يصب في محاور جوهرية وهامة تخص المراحل الأولى لبدايات بوزفور القصصية؛ الهدف من الكتابة وحضور النص البوزفوري في الكتاب المدرسي ،مسألة القصة القصيرة جدا ومشكلة دعم العمل الثقافي وتحويل بعض أعماله إلى السينما والمسرح وجيل الرواد ثم أزمة القيم واختلاط الإبداع الحقيقي بالمزيف ، في ذات السياق فسر بوزفور مغزى قوله السابق إن الكتابة تفضي فقط إلى الأحلام أو الأوهام بالمعنى الذي تثيره فيك قطعة موسيقية كلاسيكية / صامتة فالنفع هنا ليس ماديا بالضرورة وإنما هو يلعب على أوتار الدواخل فحسب فالمتعة معنوية روحية بالأساس والوتيرة تميل نحو الألم بالضرورة، ففي عمق كل جمال ثمة ألم ما ... « عشت طفولتي بالبادية « العروبية « منطقة البرانس تحديدا / دائرة تايناست / إقليمتازة وشمت الذاكرة ظلال القناديل في ليالي البادية على الحيطان الطينية وكنا ننام صحبة الماعز والخرفان وبعض البقر ، القرآن الكريم رافقني في رحلة الجامع والفقيه ثم الكتب المتنوعة لرواد الشعر والنثر العربيين؛ جورجي زيدان جبران وغيرهما ...أنا مدين للرواد الرائعين أمثال عبد المجيد بن جلون والمرحوم محمد زفزاف أما الموضة الجديدة المتمثلة في القصة الومضة أو ما يسمى بالقصة القصيرة جدا فاعترف بوزفور بوضوح أنه يتحمل مسؤولية الاستسهال والتنميط وتبخيس الكتابة القصصية ككل « نعترف - يؤكد بوزفور - أننا من أشعلنا النار حين ترجمنا في هذا المجال نصوصا من أمريكا اللاتينية ولم نكن نتوقع ما يجري حاليا ؛» القصة القصيرة جدا يجب أن يكتبها الشيوخ المتمرسون بالفن والحياة لا الشباب الغض الإهاب الذي يقتصر على بعض نكات أو مفارقات بسيطة يسميها قصصا قصيرة جدا، « القصة تبدأ عندما تنتهي « وهذا اللون يقوم من وجهة نظر بوزفور على ما سماه ب « التقطير» شيء يشبه تعصيرأو عصر الورد لتحصل منه على شيء قليل جدا لكنه جميل ومدهش ، وضرب لذلك مثلا ب « أحلام فترة النقاهة « و « أصداء السيرة الذاتية « للأديب العربي الكبير نجيب محفوظ، يجب أن تكتب قصة فعلية لتسميها بعد ذلك قصة قصيرة جدا ... في مفصل آخروافق بوزفور موقف أحد الإعلاميين والباحثين فيما يخص مسألة دعم الأعمال الأدبية، والذي تحول إلى ارتزاق ضمني أو صريح يمارسه الخفافيش، فتراجع مستوى الأعمال الأدبية والفنية بشكل مهول نتيجة هذا الأمر وبسبب معايير وطريقة تدبير الدعم المؤدى من المال العام، وبدل ذلك اقترح بوزفور أن يكون الدعم عن طريق إرساء البنية التحتية للثقافة من مسارح ودور ثقافة وشباب وإصدار سلاسل أدبية بأثمنة مخفضة لدعم القراءة ، وفيما يخص النصوص التي أدرجت في المقررات والكتب المدرسية ( السنة الثانية بكالوريا )، فقد أبدى القاص أسفه الشديد للتشوه والتشويه اللذين لحقاها بسبب البتر والحذف والتصرف فيها دون استشارة صاحبها، أما نقل بعض أعماله إلى المسرح والسينما، فأمر متروك للمبدعين والفنانين وكتاب السيناريو على أن البعض ما زال مهتما بذلك ومنهم الكاتب المسرحي فاضل يوسف صاحب مؤلف « حلاق درب الفقراء «. اختتمت الجلسة الأدبية القصصية بقراءة نص قصصي من آخر مجموعة « نافذة على الداخل « ثم توقيع بعض النسخ التي صحبت الكاتب في رحلته من الدارالبيضاء إلى تازة البهية .