في السنة التي انتقل فيها المرحوم محمد عبد الرحمن بنخليفة من مدينة أصيلة للعمل أستاذا للتاريخ والجغرافية بالمعهد المحمدي في القصر الكبير ، كنا – أنا وجميع زملاء قسم الخامسة / الأولى بكالوريا بالتسمية التخديرية الجديدة – قد انتقلنا للدراسة بثانوية القاضي عياض في تطوان ، فمدينتنا بكاملها لم يكن فيها وقتئذ ( 66 – 1967 ) قسم البكالوريا . ولذلك لم أحظ بشرف التتلمذ على هذا الأستاذ الذي أجمع أصدقاؤنا الذين خلفونا في قسم الخامسة على تمكنه واقتداره وطيبوبته ومرحه مع شيء من عصبيته غير المؤذية . لكن مناسبة ما جمعتني به ، وما أن علم أنني ابن السي المختار واخو السي الغالي حتى بدأ يحدثني عن والدي وأخي رحمهما الله حديث من يعرفهما معرفة تامة ويحمل لهما عظيم المودة والتقدير . وختم حديثه ملحا علي أن أنشده إحدى قصائدي . فاعتذرت بأنني لا أحفظ شعري ، ولم أكن كاذبا ، لكن عذري ذاك لم يكن وحده مانعي ، لقد جعلتني جديته التي طبعت حديثه أتهيبه ، فاستحييت أن أخرج من جيبي ورقة لأقرأ له قصيدة غزلية فيها شيء من الجرأة في تلك المرحلة النزارية من شعري . التقينا في مناسبات أخرى على فترات متباعدة ، وشيئا فشيئا بدأت أكتشف فيه ذلك الظرف والمرح الأصيلان في نفسه ، اللذان كانا يمازجان جديته فيجعلان أحاديثه ممتعة مؤنسة مقنعة . أستطيع القول إنني استفدت خلال لقاءاتي به على قلتها من علمه الغزير المقرون بتواضعه الكبير ما يجعلني أفخر باعتبار نفسي أحد تلاميذه . زيادة على تضلعه في التاريخ القديم للشرق الأوسط ، فقد أنفق الليالي باحثا في المصادر، منقبا في المراجع وملتقطا مختلف الإشارات التاريخية الموثوق بها ، فقدم كتابه الأول عن أعلام القصر الكبير مركزا على الحياة الأدبية والعلمية للمدينة عبر تاريخها الطويل . ثم أتبعه بكتاب " الشتيت والنثير من أخبار القصر الكبير " عارضا فيه الظروف التاريخية والسياسية ، ومؤكدا بالشواهد والأدلة الوجود الحضاري للمدينة . أما مؤلفه الثالث " المغرب ومقدمة ابن خلدون. أو ذيل على المقدمة " فهو مراجعة نبَّه فيها إلى أن ما ورد في مقدمة ابن خلدون عن الحياة العامة في المغرب الأقصى لم يكن كافيا ولا شافيا ، وليس هو كل شيء عن المغرب وإنما هناك أشياء تجاوزها حَبرُ المؤرخين ابن خلدون أو لم يذكرها . والهدف من هذا المؤلف هو الكشف عن دور الأمة المغربية في ما أسدته من جهد وما بذلته من جليل الأعمال مساهمة في الحضارة العربية والإنسانية ، وإغناء الحقل المعرفي . وجاء كتابه الرابع الذي جمع فيه ما تفرق في المصادر من أخبار القبائل العربية في المغرب الأقصى . أما كتابه الأخير " المجتمع القصري في المنتصف الأول للقرن العشرين " ففيه سجل كل ما عايشه ولاحظه وكل ما سمعه واستوثق من روايته عن عهد الحماية الإسبانية بالنسبة للقصر الكبير ، فالكتاب سجل لحياة مجتمع القصر الكبير مع انطباعات الكاتب وملاحظاته أراد به إفادة الجيل الصاعد بما لم يعرفه عن الجيل السابق . أذكر أنني قبل سنوات اتصلت بالأستاذ بنخليفة مكلَّفا من " جمعية القصر الكبير للتنمية " – التي كنت أحد أعضاء مكتبها – لإخباره باعتزام الجمعية تنظيم حفل تكريمه ، فإذا به يرفض كل الرفض تنظيم ذلك الحفل بدعوى أنه لم ينجز ما يستحق عليه التكريم . فعارضته قائلا : لكننا نراك بما أسديته في ميدان التعليم أستاذا وبمؤلفاتك التي لا شك أنها ستنفع الأجيال القادمة جديرا بالتكريم . فصوب نحوي نظرة حادة قائلا : " أ سيدي أنا ما باغي تكريم " . فقلت له ممعنا في معارضته : طيب أستاذي ، هل تعدني بالحضور يوم الحفل ليكون حضورك تكريما لنا في الجمعية وليس لك ؟ هنا ابتسم قائلا : أنتم الشعراء لا يقدر عليكم أحد . ثم صاح بي ضاحكا : تفارق معايا … ولم يكن أمامي إلا أن أفارقه خوفا أن يثير إلحاحي غضبه . واليوم .. والرجل قد صار إلى رحمة ربه حيث نرجو أن نصير أجمعين ، أتمنى لو كان باستطاعتي أن أنتزع اللافتة المثبتة على بوابة إحدى ثانويات القصر الكبير ، أو على مدخل المركز الثقافي أو دار الثقافة ، وأضع عوضها لافتة جديدة تحمل اسم : " العلامة محمد عبد الرحمن بنخليفة " .