لا شك أن دخول القبائل العربية إلى بلاد المغرب الأقصى واستقرارهم الواسع بها خلال القرن 12 م، قد أفضى إلى إحداث الكثير من التحولات العميقة على واقع البلاد، ليس - فقط - على المستوى السياسي، ولكن - كذلك - على مستوى تشكل البنية الديمغرافية وتركيبتها البشرية المميزة. وقد حمل ذلك عناصر التفاعل الممتد الذي صنع الإطار التاريخي الذي انتظمت في إطاره الدولة المغربية عقب تشكل نواتها المميزة مع وصول دولة الموحدين إلى الحكم خلال نفس الفترة. لم يكن الأمر مجرد نزوات عابرة لدى القبائل العربية، مثل قبائل الجشمية والهلالية والمعقلية والسليمية، في الاستجابة لنهم نمط « النجعة « المرتبط بحياة الترحال والرعي، بقدر ما كان قرارا سياسيا تبنته الدولة المركزية، وخاصة على عهد يعقوب المنصور الموحدي، من أجل إدخال عنصر إضافي في معادلة التوازنات السياسية للمرحلة، الأمر الذي اتضحت معالمه لاحقا، وخاصة خلال عهد المرينيين ثم السعديين. وبغض النظر عن الوظيفة السياسية الآنية التي استثمرتها الدولة المغربية في عمليات إخضاعها لمعارضيها حسب التحديد الخلدوني الذي ربط بين طموح قبائل صنهاجة وتكوين دولة المرابطين وتحدي قبائل مصمودة وتكوين دولة الموحدين ثم صعود قبائل زناتة وتكوين دولة المرينيين، فالمؤكد أن التأثيرات السوسيولوجية والثقافية كانت أعمق من سواها. فلقد انتهى تطور الوضع إلى تحقيق اندماج هوياتي واسع، لا شك أننا نجد تعبيرات شتى عنه في مستويات مختلفة من معالم نظم الحياة الجماعية والمواقف السلوكية والقيم الثقافية والموروثات الرمزية إلى يومنا هذا. وقد أفضى الأمر إلى حدوث انصهار إثني ومجالي واسع سمح بانتقال الأفكار والقيم من هذه المنطقة إلى تلك، بل وفي إدخال تفاعلات عميقة على مجمل نظمنا المعيشية وأنساقنا الفكرية، الناظمة والمميزة للهوية الثقافية للمغاربة، بتعددها وبغناها الذي هو - في نهاية المطاف - ثمرة لهذا المسار الاندماجي الطويل للمكونات الإثنية المتساكنة داخل حدود الدولة. ونظرا لأهمية هذا الاندماج المجالي في ترصيص معالم هوية الدولة والمجتمع المغربيين، فقد أضحى الرجوع لتفكيك البنى المركبة والمتحكمة فيه أمرا متجددا لدى باحثي مغرب اليوم، وأثمر ذلك كما متزايدا من الأعمال التصنيفية ذات الصلة. في إطار هذا التوجه العام، يندرج صدور كتاب «المستصفى من أخبار القبائل العربية بالمغرب الأقصى « لمحمد بنخليفة، سنة 2012، ضمن منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، في ما مجموعه 158 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. والعمل، إضافة متميزة لرصيد منجز الأستاذ بنخليفة بعد صدور أعماله « القصر الكبير - أعلام أدبية علمية تاريخية « ( 1994 ) و» الشتيت والنثير في أخبار القصر الكبير « (1998 ) و» المغرب ومقدمة ابن خلدون أو ذيل على المقدمة « (2008). لذلك، فالعمل الجديد، تعزيز لمسار تجربة غنية في الولع بحقل كتابة التاريخ وبالنبش في مظانه الرئيسية وفي الاهتمام بتوظيف خلاصات هذا النبش ونتائجه الكبرى، وخاصة ما يتعلق منها بماضي مدينة القصر الكبير العريق. وكتاب «المستصفى من أخبار القبائل العربية بالمغرب الأقصى « يشكل - في آفاقه العامة ? مجهودا تعريفيا موجها لغير المتخصصين، من أجل تقديم صورة عامة عن مسار استقرار القبائل العربية ببلاد المغرب وعن أهم التحولات التي ارتبطت بهذا الاستقرار، وخاصة على المستويين السياسي والاجتماعي. ونظرا لطبيعة الهدف المركزي من هذا العمل، فإن الكتاب لم يخضع لتبويب منهجي متماسك، بل انسابت مضامينه في إطار سردي / حدثي ظل وفيا لمنطلقات الكتابات الإسطوغرافية الكلاسيكية. وقد تتبع في ذلك موضوع انتشار القبائل العربية ببلاد المغرب الأقصى خلال عهد المرابطين ثم الموحدين والمرينيين والسعديين والعلويين. وقد اعتمد المؤلف في ذلك، على تجميع أهم المعطيات المتداولة في المصنفات الكلاسيكية المعروفة، مثل كتاب « العبر « لابن خلدون و» المعجب « للمراكشي و» الاستقصا « للناصري و» نشر المثاني « للقادري و» مناهل الصفا « للفشتالي و « البيان المعرب « لابن عذاري ... لا يتعلق الأمر بدراسة تفكيكية أو نقدية أو تحليلية لمضامين هذه المتون الكلاسيكية المرجعية، بقدر ما أنها ترتيب للمضامين وتصنيف لها، سمح بالوقوف عند أهم المعطيات المرتبطة باستقرار القبائل العربية بالمغرب وبطبيعة الأدوار السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية التي اضطلعت بها في خضم مسارات هذا الاستقرار ومنعرجاته الحاسمة في معالم تشكل هوية الدولة والمجتمع المغربيين على امتداد القرون الماضية. وإذا كان المؤلف قد حرص على الإخلاص لمبدأ التقصي والتحري الدقيقين في تجميع مواد عمله، فإنه - في المقابل - ظل يصر على أن الأمر لا يتعلق بعمل أكاديمي متخصص، بقدر ما أنه مجرد تعريف عام موجه لغير الملمين بالموضوع. ولعل في ذلك إحدى المنطلقات التي أعاقت أفق العمل وحدت من قيمته المعرفية ومن عمقه التجديدي الذي كان من المفروض أن يعزز مجال التراكم المنجز بهذا الخصوص. يقول المؤلف موضحا هذا البعد : « وقد حاولت جهد الإمكان البعد عن التفاصيل المسهبة وإنجاز ذلك في عبارات موجزة وفقرات مختصرة وأخبار مقتضبة دفعا للملل مع تعليق وتفسير يجنح صاحبهما إلى الاعتدال وينأى به عن الحذلقة والتملق ... وسيجد القارئ من هذا الجيل في هذا الكتيب أهم الأحداث التي حوتها الكتب والمؤلفات عن هذا الموضوع بصورة مركزة من غير تفريط في مضمون صادق أو إهمال لحدث قيم. وسيقول المؤرخ المغربي المتمكن : هذه بضاعتنا ردت إلينا. وأقول لقد وضعناه لمن هو عن هذا الوطن ناء أو عن خبره لاه وبتاريخه غير ملم وسيغني المقتصد عن تقليب مئات الصفحات في الكتب والمؤلفات ... « ( ص ص. 9 - 10). وبذلك، فالكتاب يقدم خريطة انتشار القبائل العربية في ربوع البلاد، بأسلوب ميسر يسمح لغير المتخصصين بتكوين صورة عامة عن مكونات هذه الخريطة. ويكتسب هذا الأمر قيمته الأكيدة، بالنظر لانتشار الكثير من المعطيات الخاطئة حول الموضوع والتي غالبا ما تم استغلالها في أجواء « التهييج العرقي» الذي أضحى يطفو على سطح المشهد السياسي والثقافي بالمغرب خلال أيامنا هاته. وعلى الرغم من أن المؤلف قد نحى عن تصحيح الأخطاء التاريخية التي احتوتها النصوص المعتمدة وكذا عن الاسترشاد برصيد الدراسات الأجنبية ذات الصلة، وعلى الرغم من إغفاله لوحدة المسار التاريخي العام الذي أفضى إلى تعريب العديد من القبائل الأمازيغية ثم إلى تمزيغ العديد من القبائل العربية، فالمؤكد أن العمل يشكل دليلا مقتضبا يساعد على استيعاب طبيعة إفرازات البنية المجتمعية الراهنة لمغاربة المرحلة، في إطار التفاعلات المتبادلة بين مجمل العناصر والمكونات الإثنية والحضارية المركبة والمتداخلة.