غَجَرٌ بقبعات من دوْم على بعد حوالي 15 كيلومترا عن مدينة "القصر الكبير"، و على امتداد الطريق إلى"شفشاون"، تقع قرية جهجوكة؛ التي ظلت بيوتها، المبنية بالطوب وروث البهائم، تستضيف منذ خمسينيات القرن الماضي، عددا من رموز الأدب و الموسيقى؛ في أمريكا وأوروبا.. ممن سحرتهم أنغامها الغرائبية ورقصات رجالها الوثنية أمام النار ودخان "الكيف". يتميز موسيقيو " جهجوكة" الذين يحمل أغلبهم اسم" العطار" و يسكنون " الحومة الفوقية" من " المدشر" بسمرة بشرتهم، على عكس " الشرفا" الذين يسكنون " الحومة الوسطية" ويحملون الخصائص الجينية نفسها التي لسكان "الجبل". فمن أين جاء هؤلاء العطارون الذين استبدلوا المعاول بالغيطة والطبل، فالتحفوا الجلود، واعتمروا قبعات من الدوم الخشن، وأقاموا حيثما نفخ الريح؟ الحديث عن جذور " جهجوكة " لم يكن أبدا محط اتفاق من كتبوا عنها من الغربيين، وفي مقدمتهم الأمريكيون، فرغم تعدد المؤلفات حول الفرقة وموسيقاها، فلم تتوصل هذه الكتابات إلى تحديد أصل لهذه الموسيقى وتاريخها. فالشاعر الأمريكي وليام بروزو ذهب إلى أن هذه الموسيقى سبقت دخول الاسلام الى المنطقة بأربعة قرون، فيما اعتبرأريان فاريبورز أن أصولها إيرانية؛ وأنها تلاقحت مع الحضارات التي عبرت حوض البحر الأبيض المتوسط والتي استقرت على ضفافه مثل الحضارة الرومانية، خصوصا فيما يتعلق برقصة "باجلود" التي تحاكي إله الماعز عند الرومان" بام" الذي يخصب كل أرض يرقص فوقها وكل أنثى تلمسها شطائبه. و تأثرت موسيقى " جهجوكة" أيضا بدخول الإسلام إلى المنطقة وانتشار التصوف بها؛ حيث ستغدوا مثل العديد من الفرق الموسيقية " الطرقية" مزيجا من التعبير الصوفي الوثني، خصوصا وأن المدشر سيصبح قلعة للطريقة التيجانية بقبيلة "أهل سريف" التي ينتمي المدشر إليها . تمايز موسيقى جهجوكة عن باقي الأنواع الموسيقية التي اعتمدت،مثلها، الغيطة والطبل جعلها محط اهتمام السلاطين؛ السعديين ثم العلويين الذين خصوا " زهجوكة الطبالين" بعدد من ظهائر التوقير.. وعلى عهدهم أصبحت موسيقى جهجوكة " موسيقى البلاط"، التي تعزف للسلطان " سونيتات" الصباح و ترافقه في خرجاته إلى السلم والحرب... إلا أن ارتباط المدشر بضريح الصوفي" أبي العباس أحمد الشويخ السريفي" المعروف ب" سيدي أحمد الشيخ" و الذي ظهرت على يده الكرامات، وحيكت حوله الأساطير، سوف يعمق المنحى الصوفي والغرائبي لدى الفرقة الموسيقية، إذ سيغدو موسيقيوها ملزمين بالعزف كل يوم جمعة امتنانا ل" السيد " الذي حرث أراضي المدشر بمحراث يجره أسد ! نافذة بول بولز .. يعتبر الكاتب والمؤلف الموسيقي الأمريكي "بول بولز" أول من سجل " الخبز الحافي"، كسرد شفهي وليس ككتاب. كما سجل حكايات "محمد المرابط"، صياد السمك، الذي صنفه الكاتب الكبير "هنري ميلر" " ضمن أهم كتاب العصر" و نشر حكايات سائقه "العربي العياشي" في العالم، وعلق لوحات طباخه "محمد الحمري" في متاحف لم يحلم بها كبار التشكيليين العرب... كان "بولز"، الذي يرجح أنه التقى صدفة فرقة "جهجوكة" حوالي سنة 1950، قد حل بطنجة سنة 1931، قادما إليها من باريز، وكان همه أن يعثر على أشكال تعبيرية " طرية " لم تلمسها آلة الحضارة، لكي ينقلها إلى القارئ الأوروبي والأمريكي، وقد قام، لقاء ذلك بتسجيل كثير من ألوان الموسيقى الشعبية التي كانت متداولة في المغرب بداية الخمسينيات، إلا أن لقاءه الصدفوي، هو وصديقه الرسام والشاعر " براين غايسن" بفرقة " جهجوكة" جعله يضع كل تلك الموسيقى وراءه، وينطلق باحثا ومدونا لهذه الموسيقى التي كانت غاية في التنظيم والتعقيد، و متفردة من حيث إيقاعاتها وتنوع مصادرها اللحنية. وفي سنة 1952أنشأ "براين غايسن" ، مطعم "ألف ليلة وليلة" بطنجة، بغاية الترويج لموسيقى جهجوكة؛ التي سكنته، حتى أنه كان يقول "هذه هي الموسيقى التي أريد أن أسمعها طول حياتي"، وقد وصل ولع براين غايسن ب" جهجوكة" كنمط حياة، أن منزله بطنجة أو بباريس" كان مفروشا على الطريقة المغربية، ولم تكن جلساته تخلو من شاي و" كيف" كما وصل تماهيه بأهل " جهجوكة أنه كان ينادي " المعلم عبد السلام العطار" بأبي، وأبناءه بإخوتي. جهجوكة فرقة عالمية أصبحت جهجوكة منذ الخمسينيات محجا لكبار الموسيقيين الذين اشتغلوا على موسيقاها تسجيلا واستلهاما ومزجا، إذ أن أولى تجارب" الفزيون" العالمية انطلقت من "جهجوكة". ففي بداية الستينات زار" براين جونز" الكيتاريست ضمن فرقة " الرولينغ ستون" القرية، بدعوة من صديقه براين غايسن؛ وقضى رفقة موسيقيي " جهجوك" أياما، لم يكن يصحو فيها من دوخة" الكيف" إلا لينغمس في دوخة تلك الموسيقى التي لا يمكن لدارس "النوتة" أو"السُّلم الموسيقي الغربي"، بل حتى للمتمكن من "السُّلم الموسيقي الشرقي" المرتكز على "ربع البعد"، أن يسلك متاهات هؤلاء العازفين الذين أطلقوا على رئيس فرقتهم " عبد السلام العطارلقب ّ "الجنيون" ! وقد أثمرت زيارة براين جونز تلك تسجيلا في1968، اعتبره النقاد من النماذج العالمية الأولى في " الموسيقى التجريبية". وفي يناير 1973 زار" أورنيت كولمان؛ ساكسوفونيست الفري جاز " Free Jazz" " جهجوكة " بفكرة مسبقة، عن قدرته كعازف "جاز حر" على العزف مع جميع أنواع الموسيقى " البدائية " ليصطدم بدوره بالبناء المركب والواعي لهذه الموسيقى، حيث أنتج رفقة الفرقة ألبوم " Dancing in our head"... وتوالت الفرق العالمية بعد ذلك على القرية الصغيرة، كما أصبح "الغياطين،الطبالين" وجوها مؤلوفة في كبريات مهرجانات " الروك" و"الجاز" في أوروبا وأمريكا، وفي 1989زار "مايك جاغر" رفقة أعضاء فرقة " الرولينك ستون" القرية لتسجيل بعض المقاطع لألبومه" Steel Wheels". كما ساهمت الفرقة في الموسيقى التسجيلية للفلم المأخود عن رواية " المأدبة الحافيةLe festin nu " لعاشق الفرقة الكاتب "وليام بروغز"... إلا أنه وبعد استقرار بشير العطار؛ ابن " المعلم" بنيويورك بداية من سنة 1990 دخلت " جهجوكة" في اتجاهات موسيقية لم تكن محط رضا جميع أعضائها. وجوه جهوكة المُغيَّبة حجبت " الغيطة" ما سواها من فنون جهجوكة المتعددة، التي ظلت تشكل، إلى جانب الغيطة والطبل، ملامح مشهد ثقافي- اجتماعي شامل، تحضر فيه المرأة، كما يحضر فيه" الشرفا" المتطلعون إلى محاكاة أشكال ثقافية مركزية. فبفعل احتكاك سكان المدشر بالبلاط السلطاني ، ثم بقصر الخليفة بتطوان، استطاعت نخبة منهم أن تشكل فرقة ل " المديح والسماع الصوفي" تتغنى بقصائد كبار الصوفيين ك" الإمام البوصيري" و"ابن الفارض" وغيرهم . كما كانت بالمدشر فرقة موسيقية نسوية، تقودها الفنانة " فطمة المنانة " وقد كانت تؤدي " الحضرة الشاونية ، التي عرفت في جهجوكة ب " الكَالوسي " إلى جانب أغنيات محلية رائعة؛ كانت مزيجا من الالحان الأندلسية و الجبلية . ولصدارة "الغياط" داخل التشكيلة الإجتماعية بالقرية فقد كانت النساء يدعين متمنيات بعد أن يظهر حملهم " مصاب يكون غير فقيه فحال بّاه.. أما غياط بزّاف عليه ". باجلود حفيد الرومان من فوق "حجرة بوسعيد" يخوض الموسيقيون في عزف " الباجلودية" على ألسنة اللهب المستعر، وفيما تكون آذان المتفرجين مستسلمة كليا للنغمات المتسارعة ، فإن أعينهم تظل يقضة ، مترقبة انبعاث " الالاه الماعز" من جهات الغابة، حاملا شطبتي الزيتون . وفجأة يظهر "باجلود" ملتحفا جلود الماعز، وهو يرتعد ويرتعد على ايقاع الموسيقى التي تعزف خصيصا له، وطلبا لبركاته في تخصيب النساء والارض، كما كان الأمر بالنسبة للإلاه "بام"إلاه الماعز عند الرومان... ما لم تلتفت إليه الدراسات التي حاولت مقاربة "ظاهرة جهجوكة هو أن هؤلاء الموسيقيين الذين يسكونون " الحومة الفوقية "من المدشر ، ويتقافزون فوق النار ويلبسون الجلود... يلقبون من طرف باقي ساكني المدشر ب" الجديان"، إنهم حفدة الإلاه الروماني "بام" .