شاعري الوارف .. محمد حلمي الريشة جواباً على كلماتك (قصيدتك) الأخيرة: "أغبطك أيها المقيم في القصر الكبير بعيدًا عني (هل تريد قصرًا أكبر؟)". أقول لك بيقين لا يدع للشك مكاناً يا شاعري، أو للكلمات أن تُخفي أثر بعض ملامحه قليلاً: أنا من أغبطك على مدى بعيد يا شاعري العزيز، على قصورك الوارفة، التي شيدتها بعيداً/ قريباً، ببهاء قلبك الشاسع دائماً، وجمالك الذي يرى كل شيء جميل، ثم لحبك الذي لا ينضب أبداً، ولا تحركه لا الريح العاصفة بالزمن الحالك، أو مستعمريه الجدد، الذين استعمروه بكل المعاني القبيحة التي تقال ولا تقال. أغبط كثيراً على الأمل، الذي تخرجونه من شرنقته الحبلى، في ذاك الفضاء الذي استعمرته الأيادي المعتمة، من أيدي لطختها ترجيفة الصهاينة، وأبناء عمومتهم من العرب هناك. أعرف كثيراً، أن الشاعر الحقيقي، رجل الانهزامات المتجددة والانكسارات المختلفة، بامتياز شديد، وأدرك تماماً على صريح القول، أنك تحيا أكثر، كما يحيا أكثر العشاق الحقيقيين، بهذه الانهزامات التي تصيبنا بهذه الشدة الراجمة، إلا لشدة حبنا الراجم للأشياء الجميلة الراسخة فينا، ثم لنحيا قليلاً، ونتشبث بالأمل كثيراً، أو على الأقل، لنربيه فينا، قليلاً/ كثيراً. أتعرف يا شاعري العزيز، بكل شيء أنت، أن غبطتك لي الصريحة بقولك السابق، على هذا القصر، ستكون ذات وجهين لا يلتقيان أبداً، لا في السماء، ولا حتى في الأرض، لأنهما برزخان مائيان لا يلتقيان إلا في الرماد لوحده، وقد أدركتهما فجيعتي المفجَعة، أو فواجعي التي ترتاب لها الأرض والسماء بهديرها الساقع، وخريرها المائل قليلاً إلى جهة البحر. من جهة أولى/ أخيرة، سيكون قصري المحتوم، هذه الفجيعة التي قادتني إليك بالتأكيد، في لحظة ما، كما تحملني الآن معها بارتجاف شديد، يشد المرء من مكيدتها التي لا نهرب منها، وإن أردنا ذلك، في أي مدى. ومن جهة ثانية، ستكون معرّتي القسرية الكبيرة، على حد تعبير حميد الهجام، صديقنا القابع في أرخبيلاته السنغفورية، رفقة بعض من أساطيره وحكاياه، في رسالة سابقة، سالفة له، لي، أنا القسري بامتياز، على مداه الذي بدا له، لأن الأخيرة كذلك، وقد تكون، من الجهة الأخرى، التي تغبطني، عليها كثيراً كثيراً، بحبك النادر، ولبها وأثرها المحتوم. صديقي العزيز.. بوضوح تام، لا يدع للزيف أن يعتريه قولاً وسلوكاً، أن تغبطني على هذا القصر الكبير/ الصغير، أو قصر كتامة في يوم مضى، أو قصر عبد الكريم ذات يوم ولّى، من خلال مكيدتي وفواجعي التي تصيبني فيه الآن، وتمضي بي إلى الهلاك الذي لا يحتدم إلا بالقتل أو الرجم، ومنها هذه الفجيعة المرجومة، المتراصة بينها، ثمرة ثمرة، حتى تكمل وترسل لك مع حب آخر، و تغبطني كذلك، من جهة ثانية، في الجهة الأخرى من هذا القصر، على تاريخه الواضح، وأبنائه القدامى البررة، وليس الجدد بالتأكيد، إلا ثمرات قليلة قليلة. كما من حقك، أن تغبط هذا القصر نفسه، على إنجابه العشاق الأوائل، من حملة العلم الذي لا ينضب على أثيرهم، بل وقد كانوا يأخذون القاطرة في البحر المغربي كله، شرقاً، وجنوباً، وغرباً وشمالاً، بل ويركب غالبيتهم في تلك السفينة، التي منها المستوطن قصراً، أو منشأً في هذا القصر، أو عابراً في حال سبيله، ريثما يشرب من ساقية هذا "اللوكوس" العليل، الذي يجري شمالاً وجنوباً. ومنهم، على سبيل المثال، والذين تحضرهم الذاكرة المنسية: ابن المدرة؛ الأديب الكتامي المعروف، الذي نهل من عيون الأندلس بحورها وتضاريسها، كل ما يحب، ويقرأ، وأيضاً أبو عبد الله بن جميل القصري الذي كان يقصده كبار علماء القصر، من كل حدب وصوب، أيام الموحدين، وابن رشيق القصري، وعبد الله بن أبي مسلم الأنصاري، وبن علي سقين، والشاعر العميق داود عبد المنعم الدغوغي، وغيرهم كثير، كثير جداً... ومن حقك، شاعري الوارف، أن تغبط الذين مضوا ورحلوا بلهفة العشاق من هذا القصر في زمن ولى ولم يعد، حيث أوقفوا حملة إيبيرية شنعاء، في وادي المخازن؛ الوادي الذي أغرقوا فيه كل جبان، محتل غاشم، يفكر في غزو الضعفاء في المال، الأقوياء بالعزيمة والعلم في تاريخهم، ولربما إن نجحت تلك الحملة الواهية، لكان المتحدث معك الآن، "سبستيان" الفيلالي، أو "خوليو"، ولربما كان الآن يكتب إلى شاعر عميق، ومثقف رصين، اسمه "ألفريدو" الريشة أو اسم آخر، لكون الحملة المزيفة التي كانت ولم تكن، كانت ستسير براً وبحراً إلى كل أفريقيا، ثم إلى المشرق، فيتركون كل شيء ورائهم خراباً كثيفاً برمية حجر، ويطمسون كل هوية ثقافية دينية إلى ما بعد البركة. في حال لم يخرج أولئك العشاق القصريين، بأدواتهم التقليدية، وعزائم الوارفة جداً جداً، من دون أن ننسى المساعدة العثمانية، الإمبراطورية، العتيدة التي كانت تستلقي على مدى بعيد، وكلام لا ينزل لها أبداً، وإن كان البعض ينكر هذه الحقيقة من المؤرخين التقليديين آنذاك، أو الهواة الجدد، وجميعهم يرجعون كل شيء، في هراوات صغيرة، وسيوف قليلة، لا تستطيع أن تخرج حتى سرباً من الجراد يحل في البلاد، بالأحرى؛ جيش عتيد، لإمبراطورية استعمارية، كان يحسب لها ألف حساب وحساب، بعتادها المتطور . كما أن من هؤلاء العشاق الذين مروا ولم يعودوا، يا شاعري، على وجه المثال لا غير، جدك الذي شرب من "لوكوس" ذات يوم، وأكل من أسماكه التي تأكل، إلا برداً وعلماً وسلاماً، ابن خلدون، وأيضا رفيقك الذي قال ذات يوم مضى ولم يمض: أجمل ما فيك يا قصر ليلك، نعم، هو نزار قباني. لكن، هل مر نزار قباني، هذا الذي سحره القصر ذات يوم في ليله، كما يسحرني أنا وحدي فقط الآن، وبعض المشردين المنسيين الذين أصادفهم في الليالي الرعناء، التي ننفرد فيها بالقصر؟ هل سيقول هذه القولة، التي انتهت معه، وانتهى معها الأناس الطيبون، الذين ملأوا هذا القصر، بعلمهم، وقلبهم الطيب. وهنا سأعرج لك قليلاً على ذاك القصر، يا عزيزي، الذي غبطنا عليه نزار، وعلماؤه الأوائل كما قلت لك قبل قليل، وأنت بالتأكيد، كما قلت لي في رسالتك الأخيرة، ولا أتمنى أن تغبطنا عليه الآن، كون الأمر لا يعدو الآن أن يكون كذلك، أو حتى يقترب من ذلك، لكون الحقائق انقلبت علينا، وعلى التاريخ نفسه، بفعل فاعل غاشم، أو أفعال كثيرة، مختلفة بضغينتها، وقد اجتمعت جميعها يداً يداً مشتتة على قصرنا، كي لا تغبطنا لا أنت، أو غيرك عليه الآن. القصر الكبير، يا شاعري، المدينة التي وقفت في وجه غاصب ولى بارتعاشاته الشديدة، ولم يولّ نعيقه، بأمنياته الشاسعة، في القتل، أو حبس الحرية أينما وجدت منذ سنة 1984، التي قتل فيها عدد من آخر العشاق القصريين، نتيجة رجولتهم التي أقبرت من خلالها هذه الحتمية، غير الشريفة طبعاً، هذه المدينة، وجعلتها بلدة، يسكن فيها أبناؤها على سبيل القسر، لا القصر، أو على سبيل روائحها التي لا يعيشون غيرها في مكان آخر، تعوداً أو قصراً، من خلال الظروف الغاصبة، ابنة الكلب. هل تعرف ماهية مدينة القصر الكبير، الكبيرة بسلبياتها التمدنية، وإيجابيات أعلامها في مغامراتهم في العلوم والآداب، والصغيرة بمعيشتها وظروفها الوابلة التي اجتمعت عليها فجأة اليوم، يا عزيزي الشاعر؟ إنها المكان الوحيد، بهذا البلد الواسع، الذي يسمّى مدينة، ولا توجد فيه أبسط الشروط التي توفرها المدينة، أو على الأقل البلدة، في أي مكان في العالم، وهذا يجعل أبناءه، خاصة من المثقفين والشعراء، يتشتتون في بقاع الأرض، في الداخل أو الخارج، بحثاً عن مؤهلات عيش كريم، تتوج مسيراتهم النضالية مع الورق، أو التزلف، أو لمواكبة ظروف الحياة العملية، التي لا توجد إلا في المدن الكبرى، تصنيعا وإدارة ، أو ما بعد البحر، والمحيط. يجب أن تعلم، يا عزيزي، بإدراك تام، ما عليه القصر الآن، الحالة العسيرة، التي عسرت فجأة، حيث ما يظهر أكثر من الشمس هنا، الانزياح الرهيب على الأمن، فأصبحت دروبه تحوي قطاع الطرق، والسارقين، أكثر من السكان، وأصبحت الجريمة، الفعل الطاغي على الأحداث التي تعرفها هذه المدينة الجوفاء، المدينة التي ظلمها أهلها قبل أن يظلمها المغتصبين من خارجها. لا أخفيك سراً، يا عزيزي الشاعر، أننا إن تعودنا في مدن أخرى، الخروج إلى شوارعها، وعلى رؤوسنا ما تحلم به القطرة تلو القطرة، ليلاً نروح، ونهاراً نأتي، خاصة أني من عشاق التفرد ب"كورنيش مرتيل" ما بعد الثانية ليلاً، حد الشرارة، فالقصر مختلفة أذرعه تماماً، بل ويستحيل على النساء الخروج لسرقة تلك الرائحة؛ رائحة المسك العليل، الذي يحويه القصر ليلاً، ما بعد العاشرة ليلاً، مخافة على حياتهن، من الظهيرة اللائذة، كما العتمة المخنجرة بالعيون التي لا ترى غير السواد! كيف لا يخفن على حياتهن، والقصر الكبير التي تسرق نهاراً على المرأى، أو تغتصب فيها البنت في الأمكنة الواضحة. إن الأمور وصلت إلى حد لا يغتفر هنا يا صديقي، بعد أن تكاثرت الجريمة أكثر من أي شيء آخر، في السر وفي العلن، وصلت إلى حد لا يطاق، حين سُرقت حوانيت الضعفاء أكثر من مرة ليلاً، والأكثر كثيراً بعيداً، حين دخلوا هذه المرة على حانوت صغير لبعض الزملاء المعطلين، الذين أنهكتهم الحياة وأنهكوها في عز شبابهم، والذين فتحوه بعروقهم التي لم تندمل في وجههم، ووجوه آبائهم، بعد معاناة مريرة، لا ترى مع المنتخبين بالمدينة، الذين فعلوا كل شيء ذميم في هؤلاء، الذين لم تمر سوى أيام قليلة على فتحهم هذا الحوينت الصغير، المقابل للثانوية التي درست فيها، قبل سنوات خلت، والذي لا يبعد على البيت الذي أسكنه على الاستعارة، إلا خطوات، حتى أخذوا كل شيء فيه، ولا شيء فيه، حتى الأشياء التي لا تنفع. الأمر أصبح لا يطاق، حين دخلوا مسجداً أثناء صلاة الصبح، وفي أيديهم سيوفاً من زمن مضى، فأرهبوا هؤلاء الهاربين إلى الله، وأخذوا ما بحوزتهم. الأمور أصبحت لا تطاق هنا، يا شاعري، في هذا القصر الذي أرادوه أن يكون ناراً يُباد فيها الناس، أحياءً وأمواتاً، وشيوخاً ورضعاً، لكن خاطري يذهب بعيداً إلى كون هذا التسيب الأمني الواضح المرسوم، هو في صالح المخزن الذي صنع غيره في سنوات ولت، لا غير، أنهم صانعوه، أو على الأقل، يفرشون له الطريق، كي يكون على ما هو عليه الآن، وتفزع الناس، وتتشبث بالنظام، الذي يحميها ولا يحميها، دون غيره. ومن هنا، بماذا نفسر ذلك اليوم الذي خرجنا فيه، أول مرة، يوم الكرامة والحرية التي سلبت كرهاً في 20 فبراير، للاحتجاج ضد الزيف والمزيفين، فما أن انصرفنا، ومضى كل واحد منا حال سبيله بعد لقاء إله الحرية الذي غاب ولم يعد لسنوات، في تلك الساعة المعلنة، حتى خرج أناس آخرين، مدججين بالضغينة، وقد عرفوا أنهم منهم، بلطجيتهم، فخربوا كل شيء في عدد من المدن، والذي أكد لي أن الأمر كذلك، ولا يعدو أن يكون غير ذلك، كون كل المباني المخربة، التي خربها بلطجية النظام الظالم، أو الخونة، هي نفسها المباني التي خربت في كل المدن المغربية، خاصة الأبناك، التي أصلحت بعد أيام قليلة من إرسال الرسائل التي وصلت إلى الضعفاء، كما وصلت إلينا بصيغة أخرى. فما هذه الصدفة التي لا تأتي برهة إلا في مصائبنا؟ لكن، رغم هذا وذاك، فالتاريخ لا يمزح مع المرتجفين أبداً، لا في النهار، ولا في الليل، وسيأتي يوم قادم وسيأتي حتماً، وإن تأخر قليلاً، وأتمنى ألا يتأخر أكثر، وسنغبط كما كنا على هذا القصر، كما غبطنا عليه في السابق/ الماضي/ البعيد، ليصبح قصراً لهؤلاء الفقراء المتعطشين للحياة الكريمة، وسيأتي يوم ستكون فيه الكلمة لهؤلاء الضعفاء/ الأقوياء، الذين صنع أجدادهم بطولات لا تنسى، وسيأتي يوم تعمّ فيه الطمأنينة والسلم والمحبة بين القصريين، التي لا توجد الآن بالتأكيد. لقد جاء في رسالتك (قصيدتك الأخيرة)، ما قلته على أبعد الحقيقة: ".. إلا أنها الكتابة هي التي تبقى بعدنا. أي: قد يعشق طائر سمكة، ولكن أين يعيشان؟! ". لكن أي كتابة هي الكتابة، في زمن لا يصلح للكتابة، فضحاً للزيف، ورجماً للمكائد، أكثر من أي وقت ولى، ولا تجد على هذه العتبة، غير المديح ، أو المرور على ما يصيبنا في هذه البركة، ويمنع حجر تنفس حلم صغير. إننا نحتاج إلى هذا الوطن الجريح، ما يلملم أشلاءه الباقية، بإعادة التفكير في الكتابة أصلاً ومفهومها المتشعب، لو كانت، وانصراف كل من هؤلاء الكتبة، كل في أجنحته، وتشمل الأفكار، التاريخية بالأساس، المنتشية للحقيقة أولاً، وأخيراً، بشقها السياسي، والاجتماعي، والذهني، وغيرها.. ومن ضمن هذا التاريخ المرمي بكفة ماء، الأشلاء المتبقية من الآداب و العلوم الإنسانية التي حولها. وفي انتظار أن أكتب لك لاحقاً رأيي على سيرتك/قصيدتك، التي لم أكملها بعد، لظروف خارجة على الاستطاعة. تقبل حبي وتقديري الوارفين دائماً وأبداً أنس الفيلالي (29 يناير 2013)