حملتُ أخي بين ذراعيَّ هاتين ، أراوده عسى النومَ يأخذهُ إلى حين ،نقْرُ المطر فوق السقف القصديري يعاندني ، حضنتُه أحاول صدَّ الصوت عنه ، صدري أحسه بارداً على خدِّه ، لا يستقر على حال ، أغمضَ جفنيه على عينين نديتين ، فأحسست بنشوة النجاح في تلهيته ، تطأ قدماها عتبة " البَرَّاكَةْ " ، يسبقها السؤال المألوف : هل بكى كثيرا ؟ لا تنفرج أساريرُها إلا حين تجده مُخلدا لِنومة عميقة ، تدخل إلى المطبخ ، تُفرغ ما حملته ظاهرا ومستترا من بيت " الحاجة القاسمية " ، ليلتي السبت والأحد ، يكون الزاد وفيرا ، لا تغادر بيت مُشَغِّلتها ، إلا بعد انصراف الضيوف الأسبوعيين ، تأتي منهكة ، لكن البسمة لا تفارق محياها فرحة بما عادت به من بقايا عشائهم . استفاق من جديد ، اللعنة على الكلب " سيسو " ، ينبح كعادته كلما سمع الأطفال يتصايحون، سيخرج إليهم " با حميدو لمبراص "، ينزعج من نباح الكلاب في الصيف كما في الشتاء،ذهب جهدي سدى ، سيعود إلى صراخه الحاد والمزعج ، ولن أعود ثانية للبحث له عن كسرة خبز، التهم النتف المتبقية من الصباح ، أوصتني أمي بالتحايل عليه إلى حين عودتها ، وهي تغريني بنصيب من الكعكة التي ستعجنها اليوم للحاجة " القاسمية ". رفع أنامله يفرك ما تقع عليه ، لم يصرخ ، رمقته يحدق في وجهي ، مد أنامله المظفرة إلى وجهي ، تركته يفعل ، يكاد يغرس ظفرا غضًّا في أسفل خدِّي الأيسر ، لم أبْدِ أدنى محاولة للتخلص منه ، ألقى بعينيه المتعبتين على صدري ، بدا عليه التعب ، لعلّه سينام هذه المرة. خارج " البراكة " ، مازالت تتعالى صيحات الأطفال ، لن أشاركهم اليوم لعبة "حجيرة في حفيرة " ، سيرتاحون مني ، كان صديقي - الذي سيصبح فيما بعد كاتبا خاصا في ديوان وزير الصيد البري - أكثر المتوجسين من حضوري، أغلبه ، فأحكم عليه بالرقص على رجل واحدة ، كان يضطر للتنفيذ رغم كسوفه أمام الصغيرات . ليست المرة الأولى التي سأتولى فيها حضن أخي في غياب الوالدة ، فقد دأبت على التغيب عن المدرسة يوم كل سبت ، منذ أكثر من شهرين و أنا أقوم بهذا الدور ، غير السبت والأحد، تقوم أُخَيَّتي بخدمة" الحاجة " ، تحت غطاء البقاء مع الرضيع في غيابها ، لكنها لا موظفة في إدارة ، ولا مستخدمة في شركة ؟ أين تذهب بعد الزوال ؟ تاركة خلفها بين يدي أختي ، ما تتركه أمي بين يديّ ، كبر معي السؤال ، لكنه تلاشى بعد ارتحال " الحاجة" عن المدينة ، هل ظلت أمي تتذكرها ؟ لا أظن ، لكني أذكرها ، كلما وقعت عيني على امرأة في المسلسلات المصرية ، من طينة النساء إيَّاهن . خبرت كيفية تلهية أخي عن حاجته إلى قطعة خبز ، فشجع ذلك على توليتي أمره . كم كنت أشعر بالاغتباط ، لن أرى وجه المعلم الأسود ، يجحظ عينيه فيبيض وجهه في عيني، كلما اعتذرت له عن عدم حفظي ، بسبب انشغالي بأخي في غيبة أمي ، أمس ، اختلطت عليٌ سور " الكافرون " ، فكان يصفعني عند كل غلطة مرعدا مزبدا : إلا " القرآن " ، كان يحيل على تهاوني المتواصل في الاستظهار ، سمعته يقول لإحدى المعلمات ، بأني ذكي جدا في المحادثة والحساب ، ولولا بلادتي في الحفظ ، لكنت من الأوائل، بل الأول ، بيني وبين نفسي ، كنت أحب آياتها ، أرددها في وحدتي عن ظهر قلب ، بل كنت أتحمس في تجويد حروفها : " قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا انتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين ". غدا سوف يصفعني أيضا ، لم أتمكن من إتقان السورة بعد، ما أن أقف أمامه ، حتى ينسى كل شيء . استسلم للنوم ، اتجهت به إلى مكانه المخصوص يمين فراش أمي ، أضعه ، تطفو رائحة أبي عائدا منهوك القوى، يلقي بجسده القصبي ، فيسمع له تأوه وكلمات يلفها نبر حزين ، قبل أن يمسك بالمذياع الصغير بحجم كفه المعروقة، يلصقه بأذنه اليسرى ، وسبابته تقلب الموجات المتعبة ، أتذكر أبي الذي رحل مبكرا . ما أن أدركت المكان الذي يأوي إليه كلما عاد من العمل ، يلقي بجسده حتى اختطفته المنية ، قيل إنه مات بالسل المزمن ، لا يُعرَف شيء في حيِّنا لم يدخنه أبي ، وقيل إنه مات بالقلب الذي تباطأت دقاته ، حتى لم تعد أمي تسمع نبضه ، نحافته مع طول في القامة ، فتحت مخيلة الصبيان في الحي، ليلقبوه باللقلاق ، أو " بَلاَّرجْ " كما نسمِّيه ، يحني رأسه لاختراق الباب من غير مزلاج ، فيتقوس ظهره إلى الخلف ، لعل اللقب جاءه في الأصل من الرداء الذي الأسود الذي كان يحمله على كتفيه باستمرار ، لم يكن الإنسان بحاجة إلى كبير تفكير ، ليعرف أن أبي كان "حمالا "، تساعد على ذلك، بقايا ذرات شهباء تلتصق كالجذام بجنباته ، في إحدى مناوشات الجارة " راضية " مع أمي ، لم تتوان عن تعييرها بحمل أبي للدقيق إلى أسياده ،بينما يبيت بيته على الطوى ، كان خلف الباب ، وصلت إلى أذنه جملة : الموت أحسن له، لكن أبي لم يمت بعد ذلك ، باختيار الانسحاب من هذه الحياة البئيسة ، مضت على تلك المناوشة التي ظلت تكرر ، أكثر من خمس سنوات، قبل أن يلفظ أنفاسه بعد معانة شديدة مع السل المقيت ،لعله يستيقظ بعد حين ، اعتدنا على دخوله تلك الغيبوبة ، حتى أن أختي لم تعد تسارع للنداء على الوالدة في بيت الحاجة" القاسمية "، أكثر من مرة ، عادت مسرعة تتعثر بين نتوءات الحي القصديري ، أذكر ابتسامتها الضيقة في وجهه بعد الحالة : أنت كالقط بسبعة أرواح .. هل كان يسمعها ؟ لعله سيستيقظ ، بماذا سألقم فمه هذه المرة ؟ لم يتبق فتات ألهيه به عن غيبة أمي ، نظرت إليه وعيني على سورة " الكافرون " .