كان يستعدُّ لقيلولة قصيرة حين سمع الخبر من الراديو القديم... نَتَائجُ الامتحان قدْ تَمَّ الإعلان عَنْها، وعلى الناجحين الذهاب إلى مُؤسساتهم لِسَحْب الشواهد قبْل يَوْم الاثنين... لم ينتظر اليوم الأخير ليعرف مصيرَهُ، فالناس في عُطلة، والثانوية قد تُغلق أبوابها في أي لحظة، وإذا لم يذهب الآن فانتظار انقضاء شهور العطلة عذابٌ لا يُطاق. وبداخل الروندروفيل التي أقَلّتهُ من قريَتِه النائية، شعَرَ لأول مَرَّة أنَّ الحُقُولَ الجميلة المحيطة بالطريق لمْ تسْتفزهُ كعادتها، وأنَّ الطريقَ إلى المدينة بعيدٌ جدا، والسيارة لا تتجاوز سُرعتها 30 كلم في الساعة، والزمَنُ يَمْضِي بِسُرعَة البَرْق الوَامِض، وكل دقيقة تأخر قد تُكلفهُ سفرا جديدا وحديثُ القرويين يثيرُ الضجيجَ ورائحة العرق تزكم الأنوفَ. بعد ساعتين أو أقل وصل إلى المدينة، ولحُسن حَظِّه قبل السائق أن يُنزلهُ أمام باب "ثانوية الحسن الثاني"... وجدَ الشمسَ تدْلِفُ إلى المغيب وتسْتَعِد لتُغَادِرَ في الأفق مُرسِلَة شَرَارَة بُرتقالية على المدينة، دفع الباب الصغير فطاوعهُ، وجال بعينيه في الباحة الأمامية للإدارة الثانوية، فلم يجدا بها سبورة أو إعلانا، لكنه كان مُصِرا على معرفة الأخبار لإسعادِ أمه، ولِمَ لَا فَقَدْ قَطَعَ مَسَافَة طويلة، ثم إنه لا يَعْرِفُ أحَدا بالمدينة، والداخلية قدْ تَخَلَّصَت من ضجيج نُزلائها من التلاميذ، ولا يُريد أن يعود إلى منزله بخُفي حُنين. خرج الحارس العجوزُ من غُرْفَته الصغيرة بعدما سمع صوت الباب، فسأله سعيد: - أريدُ أن أعرف إن كنْتُ من الناجحين! - إنها الخامسة والنصف، هل جُننت؟ لم يأبه لكلام الحارس، فهو يعرفه تمام المعرفة، بلوزته الزرقاء لا تفارقه وقبعتهُ الصوفيةُ لا تُبارحُ صَلْعَتَهُ، يتصنع الصرامة ليخيف التلاميذ، بيدَ أن ملامحهُ تفضحُهُ سريعا، وتكشف عن طيبوبة لا مثيل لها، وأحيانا يسرق تلميذٌ مشاغبٌ قُبعَتَهُ وتَتَقَاذَفُها العشرات من الأيادي في الهواء فيلهث وراءها صارخا: الله يهديكوم... الله يهديكوم... ولا يهدأ إلا حين يدخل التلاميذ إلى فصولهم، وفي غرفته الضيقة يردد مواويل الحاجة الحمداوية، ولا يقطع سكينته إلا صوت الجرس. جند كل قُدراته الحركية واللغوية لإقناعه فقال: - جِئْتُ من الدوار، أنتَ تعرفُ، لمْ أجِد مَنْ يقِلني، انتظرتُ طويلا شاحنة أو سيارة، وإن منعتني، فأنا مُضطر للعودة غدا، والمصروف والوالد ميت والبُعد و... رَقَّ قلْبُهُ فجأة فقال له بامتعاض: اذهب إلى مكتب سي حسن، لَوْ تأخَّرْتَ دَقِيقَةً أُخْرَى لَن تَجدَهُ، لا شك أَنَّهُ يَسْتَعِدُّ لِلْخُرُوج. ركض إلى الإدارة، وأمام مكتب الحراسة استَوْقَفَهُ سي حسن. - آش كاين آولدي؟ - هل نجحتُ؟ - ألَمْ أقُل لَكَ إنك سَتُشَرفُنَا سَنَةً أخْرى بالثانوية؟ أحَسَّ بنبضات قلْبِهِ ترْتَفِعُ فجأة وأحس بدوار شديد، أخفى عنه ملامح سي حسن قليلا، كاد يفقد على إثره تَوَازُنَهُ... - متى قُلَتَ لي إنني لَمْ أَنْجَح، فأنا مُنْذُ اجتَزت الامْتِحَان وأنا في الحقل، انظر إلى أصابعي لتتأكد.. - لا وقت لي لِتَفَاهَاتِك، انْصَرِف... - يا سي حسن أنا لا امْزَح مَعَك، وأنت تَعْرِفُني جيدا، رُبما تشابهت عليك الوُجُوهُ والتسميات، ثم إن الله قدْ جَعَلَ من الشبَهِ أربعين.. تَفَرَّسَ في وَجْهِه هُنيهة فرأى تباشير البكاء في العينين الصغيرتين واحمرار الوجه المُدور، فَكَفَّ عن الكلام ثم فتح الباب بِعُنْفٍ وَغَابَ بين الأوراق، أما سعيد فلم يتحرك من مكانه، إذ بقي واقفا كالصنم، ولأول مرة يكتشف أنَّ الحارسَ العام رغم صرامته الدائمة يَمْلِكُ قلْباً رحبا، لم يره يوما يَبْتَسِمُ أو يَضْحَكُ، لكنه رحيمٌ، ومن الداخل سمع صوته يقول: - ادْخُل... ! استعَادَ توازُنَهُ المفقود فدخل بعد أن طرق الباب. - ما اسمُك؟ - سعيد... سعيد الروداني..! - مبروك، لقد نَجَحْتَ بِمِيزة حسن..! تَسَمَّرَ في مَكَانِه كالوتد الواقف في الجُرْن، كاد يُعانقه من شدة الفرح وتراجع في آخر لحظة، فاكتفى بشكره وانصرف دون أن يطرق الباب كعادته. فَضَّلَ أن يَنْقُلَ الخبرَ السعيدَ لأمه على مائدة الطعام التي تَضُم خبزا لذيذا ودقيقا مطبوخا في الماء، نهض مُبتسما وقد بَسَط يَديَه كمنَ يَتَهيأ لِلْعناق ثم قال: - أُمَّاه...افرحي لقَدْ نَجَحْتُ.. وَحَصَلْتُ على شَهَادَة البكالوريا.. تهللت أسارير وجهها الهادئ، فقالت وقد توقفت اللقمة في فمها: - متى ستبدأ العمل إذن؟ متى ستتزوج؟ ابنة عمك جميلة وخدومة، ولن تجد أفضل منها في الدوار. أجابها وهو يلعق أصابعهُ: - قريبا يا أماه! في غُرْفتِه الصَّغيرة تَأكَّدَ عَشَرات المرات أنَّ الوَرَقةَ الصّفراء التي حصل عليها تَضُم اسمه الشخصي والعائلي، وَلِمَ لا فَقَدْ تُخطئ الإدارةُ فتُسَلمهُ شهادةَ غَيْره، ولذلك فقدْ بَحَث في أرشيفه عن عقد ازدياده وَقارَنَ الحُروف المكتوبة بِخَط اليَد بِالحُرُوف المرقونة بعناية بالشهادة فَوَجَدها مُتطابقة، وَبَعْدَها اسْتَسْلَمَ لأحلام لذيذة.. الحسين أزاوو يتبع