الثامنة والنصف صباحا رن الهاتف. أخبرني محدثي وهو يجهش بكاد ان سعيد اسلم الروح. كان محدثي هو (سي احمد) ابن الراحل. قال لي كلمات قليلة وودعني. صدمة هذا الصباح 18 - 2 - 2012 مدوية. كنت اتهيأ للخروج الى السوق للقيام بمشتريات الاسبوع كلما عدت كل سبت صباحا. ارتديت ملابسي على عجل وخرجت في الاوطور ستراد بين الرباطوالدارالبيضاء. تذكرت انني نسيت الدواء الذي أتناوله بسبب مرضي المزمن. واصلت طريقي لأنني اعرف انني سأتدبر امري عندما اصل الى سطات.وانا داخل السيارة كانت المكالمات تتعاقب والرسائل القصيرة. ولان من عادتي ان لا أرد على المكالمات ويدي على المقود فانني لم ارد على اية مكالمة. كنت اعرف انها اخباريات بموت سعيد. يوم 18 فبراير اتصلت برقم هاتف الشاعر - هي في الحقيقة لثلاثة ارقام - اجابني صوت انثوي. اخبرت ان الشاعر نائم كانت الساعة السادسة مساء. قلت مع نفسي ان الرجل في حالة سيئة: قلت لمحدثتي انني سأتصل به غدا (الجمعة) قلت ذلك فقط على سبيل انهاء المكالمة، وانا اعرف ا نني سأتصل ثانية. كان الامر واضحا. لذلك انتظرت طيلة يوم الجمعة ان يتصل بي الشاعر اذا كان بخير. لكن لم يتم ذلك الى أن اتصل بي (سي احمد) ليخبرني بالفاجعة. ضيف جديد في الحي في 1960 جاء ضيف جديد ليقطن حينا انزالت الشيخ. ولد في قامتي خفيف الحركة قادم من بادية سطات من منطقة سد سيدي معاشو الذي طالما حدثني عنه. كما حدثني عن انتماء الكاتب مبارك ربيع الى تلك المنطقة. اندمج الولد في طقوس الحي كلها باستثناء لعب كرة القدم والجري السريع الذي كنا نقوم به دائما. لم أسأله ابدا لماذا لا يمارس كرة القدم و الجري والسباحة ايضا. فاناصديقه الاول في الحي كنت امارس هذه الهوايات على درجة كبيرة من الالتزام. كان تعارفنا قبل مجيء سعيد الى حينا. في المدرسة كان التعارف في مدرستنا (الامير مولاي عبد الله) كنا مجموعة من اصدقاء الحي ندرس فيها (مصطفى، العربي، مختار، حسن، الخ) في المدرسة كان الراحل لا يعرف الا الدروس. لم يسبق أن مارس الرياضة في حصصها داخل الساحة/ الملعب في المدرسة مع مدربنا ابن الخميسات (ماكيني الرجل الطيب والرائع. هكذا بدأنا نترافق في الطريق من المدرسة أو اليها او النزول الى وسط المدينة للبحث عن كتب للمطالعة، فهذه الهواية اوالغواية، غواية قراءة الكتب هي التي لم يكن أحدفي الحي يتفوق فيها على سعيد،ومع الوقت بدأنا نتنافس في شراء الكتب خاصة كتب جرجي زيدان، محمد عبد الحليم، عبد الله، احسان عبد القدوس، يوسف السباعي، نجيب محفوظ وغيرها ونقوم بتبادلها فيما بيننا وبين تلامذة اخرين. في سطات لا أحد كان يحب القراءة لم يتعامل مع (بوسدرة) الكتبي الصحراوي عاشق فريد الاطرش. بحيث لا يمر يوم دون ان نزوره في محله الضيف المكتظ بالكتب كانت هواية القراءة اذ هي القاسم المشترك بيني وبين الشاعر الراحل. عرس تحت قمر غشت ربما تخونني الذاكرة عذرا، لا أتذكر التاريخ جيدا ربما 1968 او 1969 دعانا سعيد الى حضور زفافه في البداية. كنا قد كبرنا نحن ابناء الحي. لم نتردد في الذهاب. جميع ابناء الحي الذين كانت تجمعهم جلسات الحي، جميعهم رافقوا العريس الي باديته. قضينا ليلة رائعة تحت قمر غشت في جو بدوي لم نحلم به ابدا. كانت المرة الاولى والأخيرة التي جاد بها الزمن علينا بحضور عرس في البادية. ليلة لا تنسى على الاطلاق. فيما بعد سأقول في قرارة نفسي حسنا فعل سعيد بزواجه في سن الواحد والعشرين«. المقام في فرنسا في غفلة منا في الحي سافر سعيد الى فرنسا. قضى هناك بضع سنوات. عمل هنا وتمتع بمباهج الحياة في باريس وفي الضواحي. شاهد المسرح على الدوام وواظب على قاعات العرض السينمائي. حاول تجريب المزاوجة بين الدراسة في جامعة (نانتير) وبين العمل، لكنه لم يتمكن. نالت منه الغربة مداها. كان في رسائله: يحكي لي عن كل ذلك. عندما سافر الى فرنسا كان قد تزوج، لذلك فقد كان الحنين يأخذه الى أسرته الصغيرة. من ثم لم يجد بديلا لذلك غير المسرح والسينما والقراءة ومباهج الحياة لذلك لم يندم على الفترة التي قضاها في فرنسا كما كان يقول لي دائما. مارس 1965 في البيضاء قبل الزواج وقبل السفر إلى فرنسا عاش تلك التجربة الرائعة والصعبة في الدارالبيضاء: أحداث 23 مارس 1965. كنت أقيم عند خالي في حي الفيلات: بولو. كان سعيد يتوزع بين الحي المحمدي، حي السعادة ودرب غلف عند أقاربه لإتمام الدراسة الإعدادية والثانوية بالمفهوم القديم للتسمية. من أمام مدرسة الأزهر وثانوية مولاي عبد الله ومدرسة الرشاد، انطلقت المظاهرة آتية من مدرسة لحلو وانضمام المدارس الموجودة على الطريق بهذا الحشد من التلاميذ. كان شارع الفداء هو المكان الذي تمترست فيه قوات الشرطة والجيش. وضعوا المتاريس بالآجور. اخترقت المسيرة شارع 2 مارس باتجاه ثانوية محمد الخامس، حوصرنا بالقرب من شارع فيكتور هيغو وحديقة مردوخ (من يكون مردوخ هذا؟ مازلت أتساءل الى اليوم؟) كنا نفر من البوليس باتجاه الحبوس والقصر الملكي ومنطقة المكتبات التي تزورها كثيراً لشراء ما جد من كتب. في الحقيقة، إن 23 مارس إنما هو يوم الانتفاضة، في حين كان 20 و 21 مهداً للإرهاصات الأولى، ظل سعيد يرافقني طيلة هذه الأيام. وحتى الآن ما أزال أتذكر دخولنا إلى المنازل بالقرب من سينما الكواكب. كانت النسوة البيضاويات الرائعات يفتحن لنا الأبواب وينظفن أعيننا بالبصل لإزالة آثار القنابل المسيلة للدموع. في الرابع والعشرين، عدنا إلى سطات. اتفقت مع سعيد أن نحرض التلاميذ داخل ثانوية ابن عباد على الإضراب. دخلنا ساحة المدرسة، لكننا لاحظنا أن الجو غير ملائم ولا يمكن أن تنجح المحاولة، لذلك ألغينا الفكرة. فرنسا وداعاً في لحظة من بداية السبعينيات، عاد سعيد إلى الحي، إلى المغرب، إلى الأسرة. قرر ذلك عن طيب خاطر. لقد هزمته الغربة خاصة وأنه آنذاك أصبح أباً. انخرط في الادارة العمومية وكان له ما أراد، أي ممارسة التنشيط الثقافي والمسرحي في دار الشباب. ولكي لا يستهلكه الروتين الاداري، فقد اختار المسرح كواجهة لإبراز ما في داخله، بحيث ظل يحمل هاجس المسرح حتى الأيام القليلة من وفاته، حيث حدثني عن عمل مسرحي يكتبه. كان ذلك قبل أسبوعين من مغادرته لنا أسرة وأصدقاء وأحبة. شاعر الحي يطرب تواكبت هواية المسرح بشغف شديد مع كتابة الشعر. نشر شعر في الكفاح الوطني، في المكافح، في البيان (عندما كانت صحافة الاتحاد ممنوعة). كان شاعر حيناً بامتياز، بل شاعر المدينة بتميز. إذ لا أتذكر أن مدينتنا أنجبت شاعراً. من ثم استمر سعيد يجمع بين الهوايتين/ الغوايتين حتى غيبه الموت. المسرح في رحاب الصديقي إذا قلت للمسرحي سعيد من هو الرجل المسرحي الذي ترتاح لفنه؟ سيجيبك بدون تردد: الطيب الصديقي. وعندما تسأله لماذا؟ يجيبك: لأنه مارس الحفر في كل ماهو كلاسيكي وفيما هو تراثي. عندما استقر سعيد في مدينته وترسخ في وظيفته وفي نشاطه المسرحي محلياً وفي مشاركاته في مسابقات مسرح الهواة، لم يكن يحرم نفسه من مشاهدة الجديد المسرحي. لذلك عندما يعرض الصديقي مسرحية في الدارالبيضاء، كان يتصل بي لكي نلتقي لنشاهد عملا مسرحياً. كنت ألتحق به في الدارالبيضاء لنشاهد مسرحيات مثل: سيدي عبد الرحمان المجدوب، الإمتاع والمؤانسة (التي كتبها الطيب الصديقي عن (أبي حيان التوحيدي)، الفيل والسراويل، إلخ. وحدها مسرحية (الغفران) التي كتبها الكاتب التونسي عن (أبي العلاء المعري) لم يشاهدها سعيد. وعندما حكيت له عنها، تأسف لكونه لم يتمكن من مشاهدتها. كتابة عز الدين المديني استنبتت نصاً جميلا وقوياً. كنت قد اتفقت معه على مشاهدتها لاحقاً سواء في الرباط أو في الدارالبيضاء. لكن للأسف، لم تعرض ثانية وإلى الآن. وكان الكاتب التونسي عز الدين المديني قصد حضر عرضها الأول. وبالنسبة لي، فإن الذي حيرني هو أنه في كل الحوارات التي أجريت مع الصديقي، والتي قرأتها، لم يطرح أي صحفي هذا السؤال على ابن موكادور: لماذا عرضت (الغفران) مرة أو اثنين ثم توقفت عن العرض؟ والسينما أيضاً كان سعيد عاشقاً للسينما. منذ الطفولة كنا نتردد على قاعة العرض الوحيدة في المدينة (سينما كاميرا)، تلك القاعة التي تعرضت للهدم فيما تم هدمه وسط المدينة. الذين حضروا لحظات هدمها سيقارنون ذلك بهدم المسرح البلدي بالدارالبيضاء. في تلك القاعة، شاهدنا أفلام عبد الحليم، فريد، عبد الوهاب، فريد شوقي، عمر الشريف، شادية، ماجدة، نادية لطفي، أفلاماً عن روايات لكتاب أمثال يوسف السباعي، إحسان عبد القدوس، نجيب محفوظ، إلخ، كما شاهدنا أفلاماً تاريخية: سبارتكوس، لي كلادياتور، طارزان، زورو، أفلام رعاة البقر بالأبيض والأسود، حسب السينما رافق سعيد حتى الأعوام الأخيرة، إذ كلما اتصلت، يخبرني أنه بصدد مشاهدة فيلم كذا في قناة فرنسية. من بين الأفلام التي شاهدها سعيد في باريس وظل معجبا بها فيلم آخر طانغوفي باريس) مع الممثلة الفاتنة رومي اشنايدر ومارلون براندو إذا لم تخني الذاكرة. بالنسبة للأفلام المغربية كان آخر فيلم شاهدناه معا في الدارالبيضاء هو (وشمة) للمخرج حميد بناني، في الأسبوع الأول من عرضه، إلا أنه لم يستمر في القاعات (على الأقل قاعة راياطو) إلا أربعة أيام، اضطر صاحب القاعة الى تعويضه بفيلم ا جنبي. آنذاك، أي في بداية السبعينيات لم تكن للجمهور المغربي علاقة مهمة أو حميمية مع السينما المغربية. كوكبة الأحبة في اتصالاتنا هاتفيا أو عندما أزور مدينتي، كان الراحل سعيد يحدثني عن بعض من أصدقائه الذين يتصلون من حين لآخر: فقرة الخمسينات للمسرح التي لعبته عدة نصوص وهو يعتز بجميع أفراد الفرقة، سالم كويندي، الشاعر محمد عزيز الشبيهي الذي ارتبط معه بعلاقة انسانية وابداعية جيدة عندما جاء التحق هذا الأخير للعمل بإدارة فلاحية في سطات وانتقل بعد ذلك الى الجديدة، من أحبته من المبدعين أيضا الولد الفاسي مهدي الودغيري الزجال، وكاتب مجموعات قصصية . أما أحبة المدينة فهناك عبد السلام (ابو ابراهيم) وهناك هادن الصغير، وهناك صاحب مقهى (فلسطين)، المقهى الذي يرتاده سعيد عندما يريد خلوة بنفسه ربما هناك آخرون، بل بالتأكيد هناك آخرون، أيضا لا أنسى أنه كان يسألني عن صديقنا الشاعر أحمد صبري، الذي كان يقول عنه إنه الشاعر المغبون من بين شعراء جيله. السيد أحمد الأعرج للراحل سعيد ولداسمه سي احمد.من المؤكد انه سماه تيمنا بوالده السيد أحمد. كان سعيد يسمى اباه (الاعرج) عندما نكون في الحي معا ويكون سي أحمد قادما، بسرعة يقول سعيد: »ها هو الأعرج قادم«. عند يسلم علينا ونسلم عليه يقول بضع كلمات متفكهة ثم يمضي الى منزله، ونفس الشيء، عندما نلتقيه وسط المدينة. لم يكن هناك خوف من الأب بل محبة واحترام. كان الرجل بشوشا مبتسما على الدوام ومتفكها. من ثم قد يكون أخد عنه سعيد سمة التفكه تلك. بالفعل كان سي احمد الأب اعرج لأنه أصب في ساقه التي قطعت في احدى حروب الهند الصينية كما يقال عن كل المحاربين الذين ععاشوا تلك الحرب في مناطق من آسيا. الشاعر والسكرتيرة الخنساء هي إحدى بنات سعيد، كان مرتبطا بها في كل صغيرة وكبيرة في مجال الكتابة. عندما لم يعد يقوى على القراءة بفعل المرض الذي امتد الى عينيه، ولم يعد يقوى على الكتابة لأن بصره خانه، وجد البديل في الخنساء. كانت هي عينه ويده. كانت ممرضة وكانت سكرتيرته، من ثم لم يكن ممكنا أن تتأثر البنت بالوالد. إذ صارت تكتب الشعر. هكذا عندما اخبرته ذات صباح بمولد شاعرة في بيت سعيد، قال: كيف قلت له ان (العلم) في ملحقها الأدبي نشرت لها قصيدة. ضحك ضحكة اعتزاز وارياح. قال لي: شكرا على النبإ الطري. عن الشاهد رقم 1585 عندما انتهى المشيعون من الدفن وبدأ الدعاء على قبر الراحل، وضع حفار القبور لوحة مكتوبا عليها بحبر صيني (رقم 1585)، تلك اللوحة الحجرية هي شاهد قبر الشاعر الراحل سمعلي سعيد أحمد. حميميات في الذاكرة ما كتبته لم يخضع لترتيب اكرونولوجي. انها زخات مما كان أقرب الي من غيره. . مع ذلك فقد تركت بعض الحميميات الخاصة بي وبه في ذاكرتي. تركتها أتلذذ بها وحدي في غيابه. هل هي انانية؟ ربما. ذات مرة جاء سعيد الى المقهى فلم يجدني، لحظتها قال لصديقي الذي سأله عني (فتح الله حفظي): »جئت اليك كدا لكي اراك وتراني. لعلك في الآتي لن تلقاني«.