هي ذكريات من الزمن الجميل الذي احتضن فيه درب السلطان أبناءه المشاهير، عشاق الكرة ( الأب جيكو، بيتشو، الظلمي، الحداوي، اسحيتة، بتي عمر، الحمراوي...) وهي الذكريات التي أهدى فيها هذا الحي الشعبي الفقير أجمل الأعمال المسرحية والتلفزيونية والسينمائية التي أبدعها في زمن بيضاوي جميل أبناء من تاريخ عصفور، ثريا جبران، عبد العظيم الشناوي، محمد التسولي، عبد القادر مطاع، سعاد صابر، مصطفى الزعري، الحاجة الحمداوية، مصطفى الداسوكين، عبد القادر وعبد الرزاق البدوي، عبد اللطيف هلال، مصطفى التومي، عائد موهوب، أحمد الصعري، الشعيبية العدراوي... هو درب السلطان الحي الذي احتضن طفولة عبد اللطيف السملالي وسعيد السعدي الوزير الأسبق للأسرة والتضامن...، ومنح للتاريخ مناضلين يشهد شارع الفداء الشهير على تضحياتهم. بين المسرح ودرب السلطان عشقٌ اسمه عبد القادر البدوي، بين الإثنين يكمن الانتماء والتعلق والمسار والتاريخ المسرحي المشترك، إن سألتَ عنه خشبات التألق في زمن الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، فهو بالتأكيد أحد معالمها، هو البدوي الذي يمنح بنبرته «النوستالجية» الإحساس لمستمعيه بأنه الإبن المدلل والمحتضن من طرف درب السلطان. عن درب السلطان يقول المسرحي الكبير عبد القادر البدوي في بوحه ل«المساء»: «احتُضِنتُ من طرف هذا الحي الذي علمني معنى الحياة، وخبرت فيه بعضا من التاريخ والحضارة المغربية والعالمية، وقبل هذا وذلك، أقول إنني ابن درب السلطان, تحدرتُ رفقة عائلتي من مدينة طنجة، وحملت بي أمي الحاجة السعدية الريفي رحمها الله سبعة أشهر في هذا الحي، قبل أن تقصد طنجة لتلد إلى جانب عائلتها. وبعد ذلك عادت محملة بي إلى البيضاء، ليتم الاستقرار بحي «الحبوس». بين حي الأحباس ودرب اليهودي كبر الطفل عبد القادر الذي تلقى مبادئ التعليم وحب الشعر والثقافة. في هذه الفترة كنت أدرس، أمثل وألعب كرة القدم، إذ كانت الفرق الحرة الموجودة توجه أنشطتها ضد المستعمر الفرنسي وتنظم مباراة سنوية. في نفس الوقت أي في سنة 1948، أقيمت في درب السلطان خشبات للعروض المسرحية يشارك فيها تلاميذ وأساتذة ومؤطرون، وفق مشروع سياسي للدفاع عن الوطن. هذه الخشبات أقيمت بين أحياء درب الكبير، درب الإسبان ودرب «الأحباس». في هذا التاريخ لم يظهر بعد حي «بوشنتوف» ودرب الفقراء. في هذه المحطة بدأ عبد القادر البدوي يتلقى تكوينه في المسرح، وكنت مولعا بالثقافة والعلم وأعشق الشعر. خلال هذه المدة كان والدي يهيئني للتوجه إلى القرويين قصد الدراسة، إلا أن هجمة «ساليغان» على مدينتي البيضاء وفاس أجهضت الفكرة بالنظر إلى عدد الضحايا من المغاربة الذين سقطوا، من بينهم ابن عمي، وهذا ما منعني من الدراسة في القرويين. بالموازاة مع ذلك، كنت ألعب في بعض الفرق الوطنية، منها فريق الوداد البيضاوي الذي لعبت فيه ضمن فئة الصغار، قبل أن ألتحق بفرقة الشعب كهاو وفرقة «الراك» كلاعب تلقى مبادئ الأكاديمية الرياضية. في ذلك التاريخ، كان حي درب السلطان يعج باللاعبين الكبار، من بينهم: بيتشو الأب، الحاج العربي بنمبارك، عبد الكبير الزهر... وكان والدي رحمه الله عنصرا من عناصر المقاومة الوطنية وعضوا مؤسسا للنقابة الأولى في المغرب وعضوا كذلك في جمعية نادي الشعب. مساري الكروي كان متميزا بشهادة من عايشوا لحظة انتمائي إلى المجال الكروي، إذ كنت أحظى بإعجاب العديد من اللاعبين الكبار. هذا المسار كان من الممكن أن يأخذ أبعادا أخرى، إلا أن إصابتي في مقابلة بين الراك والوداد عجلت بمغادرتي كممارس من الراك. وأتذكر أن والدي قال لي بعد الإصابة: «أنت طالب مجتهد وعاشق للمسرح، فتعلق بالمسرح ودع كرة القدم، إذ إن الأخيرة موهبة إذا تحولت إلى عنف فقدت قيمتها». وللمسرح علاقة روحية مميزة مع البدوي، يقول عنها: «وأنا شاب صغير التحقت بفرقة الرجاء البيضاوي مع عبد القادر بمنبارك، وهو جزائري وعضو في جبهة التحرير الجزائرية، هذا الرجل كنت مساعدا له وأعتبر نفسي «متعلم عندو»، لأنه وجد نفسه في حب المسرح والإخلاص للعمل ولفكر أستاذه. وإذا كنت قد نجحت فبفضل الأساتذة الذين تربيت على أيديهم، لهذا فأنا أقدرهم وأترحم عليهم، مع العلم بأن الذين كونتهم يقولون «كنا مع البدوي» ولا يقولون «كنا مع الأستاذ البدوي»، وأنا ألتمس لهم العذر ماداموا لم يمروا في أكاديمية ولم يعرفوا الفرق بين الأستاذ والتلميذ... رفقة فرقة الرجاء البيضاوي قدمنا الروائع التاريخية، وأظن أن هذه كانت محطة أساسية في مساري، إذ تعلمت على يد أسماء تكبرني سنا وتجربة، من بينها المعطي بوعبيد، عبد الله ولد الحاج الهواري، مصطفى الحريزي، المختار الحمداوي، العبدي الركيبي... هم أساتذة للعلم والفكر، وهذا لم يمنع من انضمام بعض العاملين المسيسين الذيk يؤمنون بالفن كرسالة وليس كوسيلة للارتزاق. وبدأ عبد القادر البدوي يكبر، وشاءت الظروف السياسية أن تتغير ويموت الأب، لهذا سألتحق بشركة التبغ، هناك أسست سنة 1952 فرقة «أشبال العمال» التي ترأسها مؤسسو نقابة الاتحاد المغربي للشغل قبل الاستقلال، وحينما بلغت يد المستعمر المناضل التونسيَّ فرحات حشاد، طلب مني أن أنتج مسرحية، فكتبت أول مسرحية لي بعنوان «البياعة ما تشوفو رسول الله» مدتها 20 دقيقة، وأتذكر أنه أثناء العرض طوقت القاعة وقبض على النقابيين وأعضاء الفرقة المسرحية، وأنا من بينهم، وسجنا مدة شهر كامل بدون محاكمة، قبل أن يتم الإفراج عنا. واستمرت العروض مع الاستقلال، إلى أن أسست فرقة العهد الجديد في الزنقة 10 بدرب الفقراء، وكان أول ناد من النوادي المسرحية بالمغرب، وكان معي العربي بنمبارك. في هذا النادي كان لا يقبل الشاب أقل من عشرين سنة إلا بموافقة ولي أمره، وكان المكتب المسير يتكون من آباء وأولياء الطلبة. في هذا النادي كان هناك العديد من الأساتذة الكبار الذين يوجهون الطلبة، من بينهم: الركيبي، الهواري، أحمد الآسفي، مصطفى البعداوي، العبدي... وبعدما قدمنا عروضا مسرحية وطنية، عرضنا مسرحية «في سبيل التاج» ومولتها ب3 ملايين فرنك، هذا المبلغ كان ممكنا أن أشتري به العديد من العقارات آنذاك، إلا أن عشقي للمسرح كان يجذبني. في هذه الفرقة كنت ألح على تعلم الطلبة للسياقة وعلى حسن المظهر، وكنت أصر على ضرورة إيمان الممثل بما يقوم به، للأسف أن بعض الممثلين الذين تعلموا عندي لم يستفيدوا من هذه النصائح ودخلوا في عمليات استرزاق....». ويضيف البدوي: «درب السلطان احتضنني، وكنت محتضنا من طرف شباب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كمناضل مسرحي وليس كمناضل سياسي، وكانت لي فرصة اللقاء معهم في النوادي. ألفت أول مسرحية «التطهير» مع تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في سنة 1959. وبعد عرضها اختطفتني فئة رجعية من شارع الفداء في الواحدة ليلا، ولولا بعض الأصدقاء لانتهت مسيرتي. هذا الاختطاف كان حدثا سياسيا كبيرا ترافع فيه كبار المحامين، من بينهم المعطي بوعبيد. وكتب عني صحافيو جريدة التحرير كإعلامي رغما عني، إذ كنت أشرف على الصفحة الفنية لجريدة التحرير. بعد هذه التجربة حلت تجربة المسرح العمالي، ولينطلق مسار مسرحي آخر». « ولدرب السلطان فضاءات مسرحية تاريخية، من بينها سينما الكواكب، سينما شهرزاد، مسرح المامونية وسينما الملكي، هذه الأخيرة كانت تضم فضاء خاصا بالأسرة الملكية، وأتذكر أن زيارة الممثل الراحل يوسف وهبي للدار البيضاء تركت بصمات خاصة، إذ اصطف الجمهور البيضاوي من القصر الملكي إلى درب السلطان ليشاهد رمز المسرح العربي. في هذه الفترة كان المغاربة ينظرون إلى المسرح كرسالة. في مسرح الملكي تفاعل الجمهور مع المسرحي الكبير، إذ بمجرد ما قال: «سأعود إلى هذا البلد، وهو حر مستقل، اهتزت القاعة التي استضافت فريد الأطرش وسامية جمال، لوقع الكلمات. من جهة أخرى، إذا أردنا أن نتكلم عن الفن في درب السلطان، لا بد من الحديث عن محمد عصفور، وهنا أود أن أصحح بعض المعطيات، إذ إن الكل ينوه بدور عصفور في السينما المغربية، ولا يعير أي اهتمام للرجل الذي بفضله ظهر عصفور، ويتعلق الأمر بأخ زوجة عصفور، إذ إن الزوجة وأخاها هربا من القوات النازية واستقرا بالمغرب. وبحكم أن الشاب الألماني كان مكونا في السينما، فقد بدأ يشتغل فيها، وبدأ عصفور يأخذ عنه أسس السينما، وحينما عاد الألماني إلى بلده، ترك المعدات لعصفور الذين حاول تطويرها، وزكى ذلك باحتكاكه مع منتجي السينما العالمية، مع الإشارة إلى أنني اشتغلت معه في مشروع فيلم قصير رفقة الظريف، كما صور معه أخي عبد الرزاق- وهو صغير جدا- فيلما آخر». وبعيدا عن المسرح يحكي البدوي عن إحدى محطات حياتها الثقافية، قائلا: «أسعفتني الظروف أن أتلقى دعوة من الشبيبة الاستقلالية لاستقبال الأديب الكبير طه حسين بفيلا في حي «الأحباس» في درب السلطان، وكانت أجمل لحظات العمر أن أستمع إلى طه حسين وهو يحاضر محاضرة مقتضبة في هذه الفيلا، قبل أن ننتقل إلى المسرح البلدي الذي ألقى فيه طه حسين محاضرته الثانية. هي ذكريات قليلة من ذكريات درب السلطان الذي أحتفظ له بكل العشق والود والانتماء».