أخليت شوارع المملكة مما خلف من ركام حملة انتخابية غير نظيفة بالكنس . وصدق التوقعات الأولية اكتملت مصداقيتها بين إضاءة و حرث شمل القرى و المدن. الآن بين أيدينا النتائج الرسمية النهائية، لكننا في هذا المقال لا نروم إلى قراءتها لا في توزيعها الخرائطي ولا في مناصبها التمثيلية لكل حزب، وإنما نسلك مسلك البحث عن الخلطة السياسية غير السوية التي أفقدت ثلة من الشعب المغربي الثقة في السياسة والسياسيين . لنقر جميعا أن الفكر السياسي المغربي يعيش تحولات باتساع قوس الدائرة الأكبر. تحولات أصابت المرجعيات المعرفية لأحزاب الحركة الوطنية كنظريات نضالية/ يسارية/ ثورية، وأخرى أصابت العينة الناخبة بالعزوف الجماعي (57%) عن السياسة والسفسطة السياسية الفارغة . لنعترف مسبقا أن الدولة لم ترفع يدها عن تدبير شباك كبار حيتان الانتخابات بتاتا ، بل نقر أن "المخزن " بات اليوم بعد التطويع القسري التاريخي لرموز المعارضة الراديكالية (الجذرية ) لا يهاب من يمتلك الأغلبية ولو المطلقة من الأحزاب (الطيعة) و التي قبلت منذ البدء الهرولة نحو السلطة والانخراط ضمن رقعة ضامة اللعبة السياسية الرسمية (بحكم دستور المملكة 2011) . سلة المسلمات الأولية لن تنتهي إطلاقا، لكن صوت الدولة العميقة "المخزن " علا و أصبح هو من ينادي بالديمقراطية وتخليق الحياة السياسية، وحكامة الفعل السياسي الوطني للأحزاب . لن أحدثكم عن مصطلح "اللعبة السياسية "،لأننا بالمغرب سلكنا درب اللعب السياسي بالمد والجذب مع كبار رواد الحركة الوطنية الأوائل، وتم تضيع نصف قرن بين أحزاب المد الثوري (اليسار التاريخي) وأبواب القصر الموصدة أمامهم بأقفال السلطة "المطلقة " المتمركزة بيد المخزن فقط. لكن لنعترف أولا وبإخلاص أن كل فجوة ديمقراطية مهما قلت مساحتها وضاقت أو أضحت فسيحة هي من صنيع جيل احترق شبابه لهذه اللحظة التاريخية التي نعيشها بالسلم الاجتماعي والأمن - (مقارنة مع دول الجوار ) - والانخراط السياسي التوافقي لمأسسة دولة الحق والقانون . الأمر الربيب الثاني الذي نستوثق منه في حياتنا الجماعية الوطنية بصدق، هو أننا نعيش لحظة تاريخية للتحولات السياسية والاجتماعية المكثفة بسرعة الأرقام القياسية المدرًة بدخل نتائجها النفعية على توطين مشعل دولة الحق والقانون، والسعي نحو التطبيع التام مع الديمقراطية بالإرساء التام. إنها التشكلات التحولية التي أربكت الساحة السياسة الوطنية وألقت بعصا موسى السحرية في أيدي أحزاب خبرت التسلل خلسة إلى قلوب الناس وأفكارهم، ومنحتهم الأمل مرة ثانية في تنفس العدل والكرامة الاجتماعية والحرية، وفي السعي نحو توطين أخلاق العناية (الدعم المادي للأرامل والمطلقات وذوي الاحتياجات الخاصة ...). أحزاب سمت نفسها بأحزاب الأيادى البيضاء النظيفة- (حزب العدالة والتنمية)- والتي تعمل خالصة على محاربة (عفاريت وتماسيح) الفساد، والعمل على تجاوز وضعية شادة سكنت الفعل السياسي المغربي الحديث بنفعية الكراسي وريع والنفوذ المسترجع . هنالك أسئلة كثيرة تتناسل بالتزاحم عندنا عن وضعية ملمح السياسية المغربية الراهنة والتحالفات المستقبلية لما بعد انتخابات 7 من أكتوبر، وتدفعنا إلى نصب عدة علامات استفهام محيرة بين انتكاس السياسة النضالية / المعيارية بأفول نجم أحزاب بعينها ( الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ) . فيما الإضاءة القادمة - (حزب العدالة والتنمية)- حملتها الصناديق لزاما بالارتكان إلى منهل الدين، وفرع مقاصد القيم، والإصلاح ضمن استمرارية السلم الاجتماعي. فيما الوصيف الثاني- (حزب الأصالة والمعاصرة )- فخطاب التخليق السياسي بالالتزام والولاء التام للأمة والوطن، ونمط التحديث لمسارات الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي هو نهجه السريع للقفز على كرسي رئيس الحكومة (125مقعد لحزب العدالة والتنمية و 102 لحزب الأصالة والمعاصرة) . إذا ، لم تكن نكبة اليسار المغربي - (الترميز التاريخي ) - وما شاكله من الأحزاب التقليدية في انتخابات 07 أكتوبر 2016 إلا محصلة مسلمة سدت فتحة حصالة الصناديق الزجاجية عنهم بالتصويت الجماهيري لصالح لوائحهم، فنالت العقاب والمقاطعة. هنا بدا واضحا أن الناخب المغربي يمارس حقه في العقاب العلني والتقية في التعبيرعن رأيه (المقاطعة /العزوف)، وبدا كذلك أن الناخب قد غير وجهة دفة صوته نحو الانبهار بشعارات الحمولة الدينية والدفاع عن المقدسات الدينية والوطنية والوفاء للأمة الكبرى. إن انكماش الكتلة الناخبة المتوجهة بالطوع صوب صناديق الاقتراع (43% ) بات يحرك فينا استعمال أدوات التعجب والندبة بتمامها ، فهل المغاربة سئموا من نفاق الفعل السياسي ؟ هل فورة الناخب قتلت تباعا بالصدمات الانتخابية المتكررة، ومن فشلها لحد الآن من تخليق الحياة السياسية ؟ هل شاخ الفكر السياسي لأحزاب نشأة الحركة الوطنية وهرم منتوجها النضالي ؟ ما هي الأحزاب البديلة التي أينع خطابها وسيتم قطافها لاحقا (نموذج حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والذي جعلته الدولة العميقة عبرة للقطف المبكر) ولكل الأحزاب التنطعية ؟ ما هي انتظارات المواطنين البسطاء حتى في أبعد نقطة من المغرب العميق من الحلحة السياسية لما بعد انتخابات 7 من أكتوبر ؟ كيف تتحدد الاختيارات الانتخابية عند الناخب؟ وكيف تتشكل أوجه المقاطعة؟ هل يمكن تخوين مقاطعي الانتخابات (خطاب فدرالية اليسار)؟ لما بعض الأحزاب السياسية تركب قياداتها البرج العاجي وليست لهم قدرة الاستفادة من غرمائهم في الميدان السياسي ولو في خصلة التواضع والتواصل (البسيط) الفكري السياسي مع الناخبين؟. هنا لا يسعفنا المنهج التحليلي قولا، ولو بإصدار حكم قيمة (مجانب) كمسلمة بديهية أولية تعمل بالجهد المضاغف على إلحاق أحزاب الحركة الوطنية المغربية إلى حكم الإرث التاريخي الوطني الجماعي، بل نفطن مسبقا أن هذا الحكم القائم ما هو إلا تضليل سياسي صادر عن خصوم جدد خبروا سياسة احتلال مواقع ومعاقل أحزاب الحركة الوطنية التي كانت لصيقة بقضايا العدالة الاجتماعية، وبالشعب صنعت مجدها التاريخي. فيما أحقية منطق الجدلية - (بمعنى الإجابة الخبرية، ووضع الأسئلة، وتوليد الحوار) – فيحكم على المنهج التحليلي ويفرض عليه توليفات وسيطية تستدعي البسط بين خطاب الفكر الاديولوجي غيرالمتجدد، والارتكاز على نقطة محورية أصبح ظلها يخفت (أحداث التاريخ الماضي وقضايا شهداء الحزب...). الآن، ولزاما بعد انتخابات 7 من أكتوبر لا بد من إعادة بناء خطاب اديولوجي جديد بالحداثة التطورية والتحولات الاجتماعية والسياسية الوطنية ، ثم أخيرا بقراءة افتحاصية مغايرة تستحضر التحولات والتقلبات الدولية والوطنية ، والوضعية السياسية المغربية المتقدمة نحو إرساء النهج الديمقراطي - (لا نقول بالفريدة ) - بشمال إفريقيا وعموم الوطن العربي / الإسلامي . إن التشرذم الحزبي الحالي والانشطارات البركانية التي لا مبررلها إلا التدافع السياسي النفعي /الوصولي الذي تعيشه أحزاب سياسية مغربية بعينها ومتوالية " أنشق وأكون حزبا " أفقد تلك الأحزاب شعلة الريادة الانتخابية، وطوح بها نحو هاوية عدم وصول معدل العتبة المرجعية الإحتسابية ، وحتى إن ولجت البرلمان فإنها لا تقدر على أن تكون فريقا برلمانيا. فالانقسامات واختلافات الرأي أنهكت ببينة مبيتة مجموعة من الأحزاب ذات الشعاع النضالي التاريخي كإرث وطني جماعي. هي ذي الحقيقة النقدية التي يجب بسطها بين هياكل الأحزاب سليلة الحركة الوطنية التحررية . حقيقة لا مناص من استحضارها الآن وليس غدا ، النقد الداخلي البناء الذي يعيد إصلاح الذات العليلة – (الهياكل التنظيمية / القاعدة الشعبية / الولاء التام للتنظيم ...)، والارتقاء نحو الهيكلة الإصلاحية الداخلية باعتبار الحزب ملك للجميع ، وحوض خطابه الاديولوجي السياسي بابه واحد ومتجدد من النبع الشعبي القاعدي، وأن أرض الحزب وأبوابه تسع بامتياز جميع المناضلين ولو باختلاف الآراء والتوجهات . دستور المملكة 2011 يوحدنا جميعا ، فلا استئصال ولا متحف آثار. فالتفاضل الذي برز في نتائج انتخابات 7 من أكتوبر هو قائم في قوة الخطاب والإقناع، والبرامج الانتخابية ، هو نابع في الثقة بين الأجزاء المكونة للعبة السياسية (الناخب /المرشح ) ، هو في انتهاج سياسة القرب من المشاكل المعيشية للمواطنين البسطاء ومعالجتها بالتواصل والسماع والحلول الإرضائية ، حتى ولو بتسويق الأمل. هو في رشد الناخب وتمييزه بين من غمست أيديهم بالفساد المتكرر، وبين من حافظ على الأيادي البيضاء . لكل انتخابات أعطاب مدوية ولو بالصمت ، لكن أعطاب الانتخابات المغربية كانت متنوعة، فمن عدم التسجيل في اللوائح الانتخابية ، إلى مقاطعة صناديق الاقتراع ... أعطاب تتشكل من خليط يجمع بين ما هو تنظيمي قانوني وبين الفعل التنزيل الإجرائي . فيما الأعطاب الكبرى تكمن في العادات القديمة التي فطمت بها الانتخابات المغربية منذ الاستقلال بنزول وجوه الأعيان واستنساخ وكلاء اللوائح ، و نزول مول الشكارة وسفسطائيي الانتخابات. ذ محسن الأكرمين / مكناس[email protected]