طنجة تحتضن ندوة علمية حول مشروع قانون المسطرة المدنية: دعوات لتعزيز فعالية العدالة واستقلالية المهن القضائية    مجلس النواب يعقد جلسة عمومية تخصص لاختتام الدورة الأولى من السنة التشريعية 2024-2025    إيمان غانمي ل "رسالة 24" : تمرير قانون الإضراب يعكس توجها استبداديا    المقامرة الخطيرة والتحذير الأمريكي: كيف تحاول الجزائر إشعال المنطقة بتسليح البوليساريو؟    لسعد جردة: لم أكن أتوقع العودة بهذه السرعة لتدريب الرجاء البيضاوي    شكايات متزايدة ضد إدارة المياه والغابات بشفشاون بسبب تعرضات عقارية مشبوهة وحجز طيور زينة بموقع سياحي    كاني ويست يعلن إصابته بمرض التوحد    الدوزي يشوق جمهوره لجديده الفني "آش هذا"    وزارة الصحة تؤكد تعليق العمل بإلزامية لقاح الحمى الشوكية بالنسبة للمعتمرين    إطلاق حملة تلقيح ضد الحصبة بالمدارس وتوزيع استمارة الموافقة على آباء التلاميذ    عاجل.. "الأول" يكشف تفاصيل اختطاف سيدة بسيدي بنور بأسلوب العصابات    "الفيفا" تُوقف منافس المغرب في كأس العالم    كأس العالم 2030.. فرصة مهمة للشباب المغربي (لقاء)    السعدي: كتابة الدولة المكلفة بالصناعة التقليدية تستهدف تكوين 30 ألف متدرج في مجال الصناعة التقليدية    ولاية أمن مكناس… توقيف شخص للاشتباه في تورطه في سياقة دراجة نارية بطريقة استعراضية في الشارع تعرض حياة المواطنين للخطر    الفريق المغربي للدراجات "أكادير فيلو بروبولشن" يشارك في عدد من السباقات الدولية بتركيا    بنك المغرب: 78 في المائة من المقاولات تعتبر مناخ الأعمال "عاديا"    أنفوغرافيك | حسب الجهات ووسط الإقامة.. معدل البطالة لسنة 2024    الذهب يتجه نحو سادس مكسب أسبوعي على التوالي    شركة بريطانية تطلق خطين جويين نحو المغرب    سفير مصر بالمغرب يلتقي ممثلي الجالية لبحث قضاياهم وتعزيز التواصل    عقوبات أمريكية ضد المحكمة الجنائية    الصين تدعو إلى استبدال البلاستيك بالخيزران..    مجلس النواب ينهي دورته الخريفية الخميس المقبل بحضور رئيسة مجلس الحسابات    إسرائيل تشيد بمعاقبة المحكمة الجنائية    المغرب يوصي المعتمرين بأخذ اللقاح    مجسّد شخصية زاكربرغ: رئيس "ميتا" تحول إلى "مهووس بالسلطة"    رئيس رواندا يستقبل بوريطة والمنصوري وحديث عن وساطة مغربية لتلطيف الأجواء بين كيغالي وكينشاسا    طنجة.. اختتام منتدى "النكسوس" بالدعوة إلى تدبير مستدام للموارد    قرار جديد من السعودية يسهل أداء مناسك العمرة    طقس بارد في العديد من مناطق المملكة اليوم الجمعة    تعليق العمل بإلزامية لقاح الحمى الشوكية بالنسبة للمعتمرين (وزارة)    رغم التوتر.. كندا تبدي استعدادها للانضمام إلى مشروع ترامب    فيدرالية اليسار بأزيلال ترفع شكاية بشأن خروقات في تدبير الجماعة    عمدة ميونخ يرفض استضافة دوري الأمم الأوروبية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    تهجير الفلسطينيين: حملة تضليل مكشوفة.. كيف تُصنع الإشاعات لاستهداف المغرب؟    الولايات المتحدة تأمر بوقف عشرات المنح المقدمة لبرنامج الأغذية العالمي    كأس انجلترا: ليفربول يتأهل للمباراة النهائية بفوز عريض على توتنهام (4-0)    ‪ إلغاء لقاح الحمى الشوكية للمعتمرين    فيدرالية الاحياء السكنية بالجديدة تستعرض قضايا المدينة وحصيلة انشطتها الاخيرة    إنتخاب المستشارة الاستقلالية مينة مشبال نائبة سابعة لرئيس جماعة الجديدة    الزهراوي: خبر إمكانية استقبال المغرب للفلسطينيين المهجرين "شائعات مضللة"    لقجع: افتتاح مركب محمد الخامس بالدار البيضاء نهاية شهر مارس المقبل    مسيرة عظيمة.. رونالدو يودّع مارسيلو برسالة مليئة بالمشاعر    غوغل تطور تقنيات ذكاء اصطناعي مبتكرة لتحدي "DeepSeek"    "جامعيو الأحرار" يناقشون فرص وإكراهات جلب الاستثمارات إلى جهة الشرق    الشاب خالد، نجم الراي العالمي، يختار الاستقرار الدائم مع أسرته في طنجة    بايتاس يكشف الإجراءات التي اتخذتها وزارة الصحة بشأن لقاح التهاب السحايا    نورا فتحي بخطى ثابتة نحو العالمية    إنتاجات جديدة تهتم بالموروث الثقافي المغربي.. القناة الأولى تقدم برمجة استثنائية في رمضان (صور)    6 أفلام مغربية تستفيد من دعم قطري    بعد عام من القضايا المتبادلة.. شيرين عبد الوهاب تنتصر على روتانا    جامعة شيكاغو تحتضن شيخ الزاوية الكركرية    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفل تكريم لرئيسه السابق العلامة عبدالله شاكر    أي دين يختار الذكاء الاصطناعي؟    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رهانات المقاطعة
نشر في العمق المغربي يوم 03 - 10 - 2016

مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي ل 7 أكتوبر 2016، تتصاعد حدة الهجمات على خيار المقاطعة ويجتهد المناوئون له في إظهاره كخيار "عدمي" لا يؤطره أي رهان حقيقي أو نظر استراتيجي ولا يفضي لأية مصلحة للوطن أو المواطن. وقد بلغ مستوى هذه الهجمات إلى حد اتهام من يقاطع الانتخابات ب"خيانة الوطن" كما ورد على لسان أحد الوزراء السابقين. هذا مع إحجام تام عن مناقشة المبررات التي يسوقها المقاطعون لتبرير موقفهم والتأسيس له منطقيا وسياسيا.
إن الثقافة والممارسة الديمقراطيين، في مستوياتهما الدنيا، يقران، بداهة ومنطقا، بخيار المقاطعة كنوع من التعبير المتمدن السلمي عن الرفض. وإن كل محاولة لإدانة المقاطعين أو الداعين للمقاطعة أو التهجم عليهم ورميهم بالنعوت المشينة أو قمعهم والتنكيل بهم لا يمكن إلا أن تكون سلوكات استبدادية مدانة من وجهة نظر حقوقية وديمقراطية. ولا يمكن لمن يملك حسا ديمقراطيا حقيقيا أن تصدر عنه هذه المواقف والسلوكات أو يكون متعاطفا معها. لذلك فإن استشراء التهجم على خيار المقاطعة في وسائل الإعلام دون منح أصحاب الخيار فرصة للرد هو دليل دامغ على فراغ إعلامنا من أي مضمون ديمقراطي حقيقي ما دام خادما ل"خيار أوحد" تحشد كل وسائل الإقناع وكل تقنيات البرباغاندا لترويجه وطرحه ك"رهان أوحد للتغيير وللاستقرار" مع قليل أو كثير من الإدانة السافرة أو المضمرة لخيار المقاطعة الذي يتم تقديمه ك"رهان عدمي" لا يمكن أن يفضي إلا للاضطراب.
في هذا المقال سأحاول، بحول الله، أن أوضح الرهانات الكامنة وراء خيار المقاطعة بعد تقديم تحليل للمقاطعة ك"واقع" ذي مغزى سياسي وازن رغم كل المحاولات اليائسة لتجاهله والقفز عليه.
المقاطعة كخيار تاريخي
يجمع المراقبون للشأن السياسي في المغرب على أن المقاطعة الانتخابات كانت "سمة غالبة" ملازمة للانتخابات في المغرب منذ اقتراع 14 شتنبر 1984 لتسجل مستوى قياسيا خلال اقتراع 9 شتنبر 2007 الذي لم تستطع الجهود الكبيرة التي بذلها المخزن إعلاميا وسياسيا لدفع المغاربة نحو المشاركة. إذ لم تتجاوز نسبة المشاركة المعلن عنها رسميا حدود 37 بالمائة كأدنى نسبة مشاركة على الإطلاق اعترف بها رسميا. فما الذي يجعل المقاطعة "خيارا شعبيا مفضلا" في المغرب ؟
المقاطعة كتعبير عن التوجس واهتزاز الثقة في الدولة
في عهد الملك الحسن الثاني كانت المشاركة في الانتخابات مرتبطة ب"الاستجابة لإرادة الملك" وتجسيدا لسلطة المخزن الذي يلجأ إلى ما يشبه الإكراه لدفع الناس للمشاركة. فعلاقة المواطن بالدولة لم تكن، على العموم، علاقة "ودية" فكان، ولا يزال، النفور والتوجس طابعا ثابتا في تعامل المغاربة مع الدولة وتقييمهم لمبادراتها. فيكفي أن تكون الدعوة للانتخابات صادرة عن المخزن/الدولة لتكون مثارا للشك لدى المواطن وموضوعا للتوجس وطرح الأسئلة عن جدواها ونفعها.
وقد عرف هذا النوع من السلوك التحكمي تراجعا بينا في عهد الملك محمد السادس وتغيرت أشكاله دون أن يختفي تماما بعدما تواترت الأنباء عن ممارسة ضغوطات على المواطنين للتسجيل في اللوائح الانتخابية مقابل حصولهم على وثائق إدارية أو للحصول على بطاقة "رميد". وجود هذه الأشكال من الإكراه كاف جدا لخلق "رد فعل نفوري" لدى المواطنين من الانتخابات إذا ما أضيف إليها الموقف السلبي العام للشعب من الدولة.
المقاطعة كخيار شعبي معبر عن "فقدان الجدوى"
الشعب المغربي، في عمومه، شعب متفاعل مع الواقع منفتح على كل جديد لم تؤثر كثيرا أميته الطاغية على مواكبته لكل ما يظهر نفعه وجدواه. فقد اشتهر المغاربة بسرعة استيعابهم وتفاعلهم مع المستجدات بل وتطويعها بما يحقق لهم استفادة قصوية منها. ففي قمم جبال المغرب يمكنك أن تجد شيخا أميا أو سيدة مسنة يحملان هاتفا نقالا ولديهما معرفة مدققة عن "جغرافيا وجودة شبكة الربط" في محيط مسكنهما ! المغاربة، إذن، شعب "حريص على ما ينفعه" لا تعوزه القدرة على الاستطلاع والاستكشاف وتحصيل المعلومة متى تأكد لديه نفعها وفائدتها في حياته المعيشية ومستقبل أيامه. فلماذا لا نرى، إذن، اهتماما مماثلا بالانتخابات؟
عرف المغرب منذ استقلاله 8 استحقاقات تشريعية و12 استحقاقا محليا. قبيل كل استحقاق تقدم الوعود بسخاء بتحقيق النمو والرفاهية للشعب والمكانة الرفيعة للوطن بين الأمم. ويجند الإعلام الرسمي لتقديم الانتخابات كباب سحري سيفتح على الشعب إمكانات لم تكن متاحة له من قبل. لكن النتائج كانت على الدوام أبعد ما تكون عما يقدم من وعود. مما يولد "رد فعل شرطي" طبيعي يفيد "اللامبالاة" لتحقق "إشراط متكرر وثابت" مؤداه "فقدان الجدوى".
فطبيعي أن لا يلتفت المستمع حين تأكده من أن "النداء لا يعنيه" ما دام قد استجاب مرات من قبل دون أن يتحقق "مضمون النداء". هذا "الإشراط" غير متعلق بالمستوى التعليمي أو الثقافي وإنما هو متعلق بمدى "مطابقة النداء لانتظارات المنادى عليه". بعبارة أخرى : الانتخابات لم تشكل يوما تحديا بالنسبة للمواطن المغربي بعدما ثبت، بالتجربة المتكررة، أنها "فاقدة للجدوى" بالنسبة إليه وإن كانت "ثابتة الجدوى" بالنسبة للمرشح والحزب والنظام السياسي.
المقاطعة كخيار شعبي معبر عن الرفض
في مستوى معين من مستويات الوعي، يدرك المواطن أن حرص الدولة والأحزاب على الانتخابات ليس حرصا على مصلحة المواطن كما يتم التأكيد على ذلك في الخطاب الرسمي. فالمواطن يقيم مستوى خدمات الدولة وطبيعة تعاملها مع احتياجاته الأساسية وأسلوبها في التعامل مع مطالبه فيتحصل لديه أن هناك "قطيعة بين الخطاب والممارسة" فيتولد لديه "موقف الرفض" الواعي للانتخابات لكونها "نوعا من الاستدراج" لتحقيق مصالح أطراف أخرى بعيدا عن نطاق مصالحه. المواطن، في هذا السياق، يقاطع تعبيرا عن "رفضه أن يستعمل كأداة" أو أن يكون "موضوعا للتسخير والاستعمال" دون أن يستفيد أو تعود عليه العملية بفائدة ما. في هذا السياق يفهم لجوء الأحزاب إلى "إرشاء المواطن" كنوع من "تبادل المنافع" وكمنهجية لتطويع هذا "المستوى" من "الوعي".
المقاطعة كخيار سياسي واع معبر عن المعارضة والاحتجاج
وفي مستوى متقدم من الوعي السياسي، غالبا ما يرتبط بمستوى تعليمي متقدم أو/وانتماء سياسي منظم، يتخذ المواطن المقاطعة موقفا سياسي "مفكرا فيه بعناية" ومؤسسا على دفوع ومبررات ذات طابع سياسي مبنية على موقف الرفض للنظام السياسي والإطار الدستوري والقانوني والتنظيمي والتقني والسياق الحزبي والسياسي الذي تجري فيه الانتخابات. والمثير للاهتمام أن المبررات المقدمة بهذا الخصوص تكاد تكون متماثلة عند عموم المقاطعين من هذا الصنف رغم تباين مرجعياتهم وانتماءاتهم السياسية. ويكتسب هذا الصنف من المقاطعة طابعا واعيا من خلال قدرة المقاطعين على التأسيس للخيار والمحاججة عنه وتقديمه كخطوة تأسيسية لخيار سياسي جديد.
فإذا كانت المقاطعة الراجعة إلى "غياب الجدوى" أو "المعبرة عن الرفض" مرتكزتين على خيارات فردية شخصية دون رهانات محددة تروم التأسيس لخيارات بعينها على أرض الواقع السياسي أو المجتمعي، فإن "المقاطعة السياسية الواعية" تستبطن رهانات سياسية ومجتمعية متعددة ذات أبعاد متفاوتة.
المقاطعة كثقافة سياسية مجتمعية
لا يحتاج الباحث في علم الاجتماع السياسي لعناء كبير لملاحظة وإثبات أن مقاطعة الانتخابات قد أضحت مكونا أساسيا للثقافة السياسية لدى المواطن المغربي. فالإقناع بالمشاركة الانتخابية أصبح مسألة أولى على أجندة الأحزاب السياسية بل إن منها، في مفارقة غريبة، من يدعو المواطنين للتصويت ولو كان لصالح أحزاب أخرى! "فالمهم هو المشاركة"!
ويشهد على ذلك اتجاه النظام السياسي، قبيل كل استحقاق، إلى استفراغ كل طاقته الإعلامية والترويجية والمالية لإقناع المغاربة، من الجنسين ومن الشباب على الخصوص، على الإقبال على صناديق الاقتراع. فالمقاطعة أصبحت "موقفا شعبيا أصليا" من الانتخابات تبذل الجهود بكل قوة لتغييره من طرف النظام والأحزاب السياسية من أجل الحفاظ على حد أدنى من مشروعية النظام في أعين الأقلية المشاركة في الانتخابات وفي أعين الشركاء والمراقبين في الخارج.
رهان الوعي وتجديد الخطاب السياسي
يراهن المقاطعون على بث الوعي بالمقاطعة ك"خيار واع" ذي طبيعة إرادية يتبناه المواطن كتعبير ناضج عن كرامته واستعصائه على أساليب الاستمالة الإعلامية والحزبية. فيقدمون الحجج المؤسسة للخيار كتأكيد لعجز الانتخابات عن فرز تمثيل حقيقي للشعب وانتفاء أية إمكانية لتحقيق عائد مفيد للمواطن من وراء المشاركة بالنظر إلى "الكوابح" المتعددة والقوية المبثوثة على طول "آلية اتخاذ القرار وإنفاذه" في كل مفاصل السلطة في الدولة.
إن قوة حجج المقاطعين وتوجهها نحو القواعد المؤسسة للنظام (الدستور، القوانين، نمط الاقتراع، إلخ) يجعل من المقاطعة موقفا "منتجا للوعي" السياسي العميق بالاعتماد على خطاب معقلن رصين في مقابل الخطاب التخويفي أو الاستقطابي أو الصراعي أو الترويجي أو الديماغوجي الذي يطبع حملات الداعين للمشاركة. ليشكل بذلك خطاب المقاطعة سبيلا ل"تجديد الخطاب السياسي" والارتفاع به عن رداءات التنابز والاتهام والضرب تحت الحزام التي تشكل سمة غالبة على خطاب وسلوك النظام والأحزاب السياسية قبيل انتخابات 7 أكتوبر 2016.
رهان القضم المتدرج من شرعية النظام الحاكم
تراهن القوى السياسية، المطالبة بالتغيير، على خيار المقاطعة الانتخابية كإستراتيجية سياسية مدنية سلمية تقضي بعدم منح التزكية للنظام السياسي والنيل التدريجي من شرعيته من خلال تعميم المقاطعة الشعبية وجعلها خيارا أغلبيا يتجه نحو التحول إلى "خيار شامل". ولا يخفى ما يمكن أن تشكله "المقاطعة الشاملة للانتخابات" من ضغط سياسي هائل على النظام يضعه في موقف المضطر للتنازل في اتجاه الاستجابة للمطالب السياسية لقوى التغيير المتعلقة أساسا بإقرار دستور ديموقراطي حقيقي شكلا ومضمونا وصياغة ومصادقة يكفل السيادة الكاملة للشعب من خلال مؤسسات ديموقراطية تمثيلية حقيقية تعكس بصدق ودقة إرادة الشعب.
رهان تأطير الرفض/الاحتجاج
من خلال خطابهم السياسي المعقلن، يسعى المقاطعون لتأطير "الأغلبية الصامتة" التي يقاطع طرف كبير منها تعبيرا عن "عدم الجدوى" أو تعبيرا عن "الرفض". وهو دور هام للغاية يساهم بشكل عميق في استقرار المجتمع متى كانت التنظيمات المقاطعة والمؤطرة للمقاطعة تنظيمات مدنية تؤمن بالديمقراطية وبالصراع السياسي السلمي. ف"تأطير الرفض" في بيئة استبدادية من أجل تصريفه في قنوات سلمية مدنية وظيفة سياسية لا تقل أهمية ونبلا عن تأطير المواطنين في سياق مشاركة انتخابية في بيئة ديمقراطية حقيقية سليمة.
رهان المصداقية والحفاظ على مسار التغيير السلمي
لا ترى القوى المقاطعة للمشاركة الانتخابية أي جدوى من الرهان على النظام ك"منبع إرادي" ممكن للتغيير. لذلك فهي تتجه كليا بخطابها السياسي لعموم الشعب باعتباره "أداة التغيير" والقوة الوحيدة الكفيلة بالضغط من أجل فرض التغيير على نظام يشكل الاستبداد "محوره المركزي الثابت" الذي تدور في فلكه كل السياسات والتوجهات الكبرى للدولة. لذلك فهذه القوى معنية بشكل كبير بالحفاظ على مصداقيتها في أفق التجذر وسط الشعب وتأطيره للسير معه على درب التغيير الديمقراطي. وبالموازاة مع هذا الرهان على الحفاظ على المصداقية من خلال مقاطعة الانتخابات، تتآكل مصداقية القوى المشاركة تحت سقف الاستبداد مما يضاعف من التفاف الشعب حول القوى المنحازة إلى خيار الرفض الشعبي.
إن صمود قوى التغيير على موقفها المقاطع وحفاظها على كامل مصداقيتها يشكل عنصرا هاما وحاسما في معادلة التغيير. وإلا فالشعب سيجد نفسه مندفعا نحو الفوضى والاضطراب في حال غياب قوى ذات مصداقية منحازة إلى خياره الرافض عند بلوغ تناقضات نظام الاستبداد وإفرازاته مستوى لا يمكن احتماله شعبيا. فعند تؤجج الاحتقان في أوساط الشعب مع غياب "تأطير سياسي للرفض" يصرف هذا الاحتقان في مسالك التعبير السلمي المنضبط قد تتحول الفوضى العارمة إلى انحراف خطير يهدد استقرار الوطن ويشرعن لاستبداد جديد بأسماء جديدة وشعارات تداعب تطلعات الشعب.
رهان التأسيس لإرادة الشعب
يركز دعاة المشاركة على إمكانية تحقيق "شرعية الانجاز" من خلال "المشاركة الانتخابية" تحت سقف دستوري مطعون في ديموقراطيته وتمثيليته للشعب في ظل آليات الضبط والتحكم التي يحيط بها النظام دستوريا وقانونيا وتنظيميا وتقنيا وعرفيا صلاحيات المجالس المنتخبة.
بينما يركز دعاة المقاطعة على محدودية ما يمكن تحقيقه في ظل مشهد سياسي متحكم فيه ويصرون على ضرورة "مراكمة شرعية الانجاز من خلال الضغط الشعبي" القائم على "إسماع صوت الشعب" عبر الاحتجاج السلمي القوي والحضور الكثيف المنظم في الشارع كوسيلة نضالية ضاغطة تؤسس ل"إرادة الشعب" خارج إطار مؤسسات النظام التي يعتبرونها صورية لا تفيد إلا في إضفاء الشرعية على النظام في أعين الخارج.
وقد شهد المغرب، منذ سنة 2015، حركات احتجاجية شعبية سلمية وازنة تمكنت من تحقيق "شرعية الإنجاز" وتقديم نماذج تحتدى لقدرة الشعب على فرض أجندته على نظام الاستبداد. فاحتجاجات مدن الشمال ضد شركة "أمانديس" وحراك الطلبة الأطباء والأساتذة المتدربين كانت لحظات قوية على درب إقرار "إرادة الشعب".
وفي الساحة الآن حراك ال10 آلاف أطارا تربويا المطالبة بالإدماج وحراك الموظفين المتنامي والمطالب بإلغاء ما سمي "إصلاحا" لأنظمة التقاعد وعشرات الحركات الاحتجاجية للمعطلين ومختلف الفئات الاجتماعية. إن تنامي الاحتجاج في الشارع مرتبط بشكل وثيق بوجاهة المقاطعة الانتخابية بصفتها تأكيدا ل"إرادة الشعب" في مواجهة "إرادة الاستبداد" ورفضا عميقا للمؤسسات القائمة على انتخابات صورية وتعبيرا عن اليأس التام من إمكانية تحقيق التغيير الديمقراطي المنشود من خلال هذه المؤسسات.
رهان القطيعة والتأسيس
المقاطعة الانتخابية، في كل مستوياتها من حيث الوعي، تعبر عن الرفض. لذلك فهي من القواعد الهامة "لتشكيل الوعي الشعبي الاحتجاجي" الذي يمكن أن يتطور، تدريجيا، على أساس ما تتم مراكمته من "شرعية الانجاز". ليتحول هذا الوعي نوعيا إلى "إرادة شعبية" ضاغطة تطالب بالقطيعة مع الاستبداد وإقرار "مبادئ جديدة مؤسسة للدولة" ترجع في كليتها إلى "إرادة الشعب" المعترف بها ك"أمر واقع" اكتسب شرعيته بما راكمه من انجاز لصالح فئات واسعة من الشعب.
وتدريجيا تقدم "إرادة الشعب" نفسها ك"أمر واقع" جديد يسعى بصلابة ليكون "بديلا" لأمر واقع استبدادي كان يكتسب شرعيته من سلطة القوة المادية الباطشة ومن سيطرته على دواليب الدولة وعلى التعليم والإعلام. ليتجه مسار التغيير نحو إعادة تأسيس الدولة على قيم الكرامة والعدل والحرية والسلام التي يمثلها النظام الديمقراطي النابع من إرادة الشعب.
المقاطعة الانتخابية، إذن، تعبير أولي جنيني عن إرادة الرفض القابلة للتطور، متى صادفت تأطيرا سياسيا مناسبا من قوى سياسية ذات مصداقية وذات أجندة وطنية واضحة، لتشكل قاعدة لتأسيس إرادة الشعب.
ولابد من التأكيد، على سبيل الختم، على أن المقاطعة الانتخابية لا تشكل إلا نوعا من المقاطعة يمكن أن تتأسس على أرضيته أشكال أخرى من المقاطعة والفعل النضالي المعبر عن الرفض أكثر تقدما وأثرا وقدرة على الضغط على النظام في سيرورة تطور طبيعي لأساليب الاحتجاج والتعبير عن إرادة الشعب.
وفي هذا السياق يمكن فهم التخوف الكبير الذي تبديه الأنظمة المستبدة تجاه المقاطعة الانتخابية. فهي لا تراها مجرد مقاطعة انتخابية وإنما تمهيدا سياسيا للقطيعة والتغيير الجذري المؤسس ل"سلطة الشعب" المناقضة كليا ل"سلطة الاستبداد".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.