يأتي هذا المقال في إطار النقاش حول معاشات و تعويضات البرلمانيين والوزراء، و مساهمة في هذا النقاش يهدف هذا المقال إلى إعطاء نظرة مقارنة للتطور التاريخي للتعويضات المرتبطة بممارسة مهام التمثيلية السياسية و لتقريب هذا الأمر سنأخذ النموذج الألماني و نرى كيف تمت معالجة هذه الإشكالية داخل سياق تطور "مهنة السياسة" ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر. قبل معالجة قضية تعويضات النواب والوزراء يجب البداية أولا بالحديث عن التطور التاريخي لمهنة السياسة و هي المسألة التي للأسف لم تمنح أي اهتمام من قبل الباحثين المهتمين بالنخب السياسة. ماكس فيبر هو أشهر من عالج موضوع السياسة كمهنة في محاضرته التي تحمل نفس العنوان من خلال تمييزه بين السياسي الذي يعيش السياسة والسياسي الذي يعيش من السياسة. و هذا الصنف الثاني حسب تعريف فيبر هو من يسعى خلال ممارسته للسياسة إلى جعل هذه الأخيرة مصدرا مستمرا و قارا للدخل المادي. في هذا الإطار تجب الإشارة إلى أن ظهور السياسة كمهنة جاء كنتيجة للتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية خلال القرن التاسع عشر المرتبطة بنشأة الأحزاب السياسية و ظهور ما سماه فيبر بالموظف الحزبي و ارتباط هذا الأخير بمراكز ممارسة السلطة السياسية مع بداية تجربة الدولة الديمقراطية في المجتمعات الغربية (فيبر 1919). فيما يخص التطور الذي شهدته تعويضات ممتهني السياسة، فقد تميز الأمر في الفترة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين و تحديدا من 1871 إلى 1906 تميزت هذه الفترة بغياب أي تعويضات للنواب داخل الرايشستاك و هو الأمر الذي كان منصوصا عليه في الفصل 32 من الدستور الألماني خلال عهد بيسمارك، الذي نص على أنه لا يحق لأعضاء البرلمان الحصول على أي تعويض، هذا الفصل أضيف تحت إصرار من بيسمارك الذي كان يرى أن التمثيلية السياسية يجب أن تحتفظ على وجاهتها الاجتماعية على اعتبار أن الفئات الميسورة فقط كانت تستطيع أن تُمارس العمل السياسي في غياب أي تعويض لتوفرها على الدخل المادي خارج مهنة السياسة (بورشيرت 1999). رغم ما سبق فقد كانت بعض الأحزاب تمنح تعويضا لبرلمنييها (40 ٪ تقريبا منهم) خير مثال هو الحزب الاجتماعي الديمقراطي، هذه المبادرة سمحت لفئات أخرى غير ميسورة من ولوج العمل البرلماني، و هذا الأمر كان من العوامل المهمة التي ساعدت على مأسسة العمل السياسي و هو ما سمح لماكس فيبر في تحليله "للسياسة كمهنة" بالقول أن هذا النموذج الحزبي لمهننة العمل السياسي ساهم في تراجع السياسي الهاوي إلى الخلف. فقط في سنة 1906 أقر الدستور الأماني أخيراً بمنح تعويض عن التمثيلية السياسية للنواب و رغم ذلك فلم يكن مبلغ التعويض يرقى إلى مستوى المهام المرتبطة بهذه التمثيلية. إلى هنا يمكن تجاوز الحديث عن الفترة الممتدة من بداية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية الحرب العالمية الثانية بسبب الظروف المرتبطة بصعود الفاشية و تأثير ذلك على التحليل المحايد لتطور مهنة السياسة خلال هذه الفترة. القانون الأساسي لألمانيا ما بعد الحرب أقر هذه التعويضات في فصله الثامن والأربعين حيث نص على أن لأعضاء البوندستاغ الحق في تعويض مناسب يضمن استقلالياتهم. قرار المحكمة الدستورية بتاريخ 5.11.1975 فصل في النقطة السابقة حيث اعتبرت أن مهمة النائب البرلماني أصبحت مهنة كاملة بحد ذاتها و أن مبلغ التعويض يجب أن يتناسب مع أهمية التمثيل والمسؤوليات المرتبطة بذلك. سأتجاوز الحديث عن المبلغ الذي يتقاضاه النواب والوزراء الألمان و أمر مباشرة إلى النقطة التي تعنينا ألا و هي كيف عالج المشرع الألماني التعويضات المتعلقة بنهاية فترة التواجد في البرلمان أو الحكومة. النموذج الألماني أقر ما سماه التعويض عن الفترة الانتقالية و هي التعويضات التي تصرف لأعضاء الحكومة أو البرلمان عند انتهاء مدة تواجدهم داخل هاتين المؤسستين. بالنسبة للوزراء تصرف هذه التعويضات لمدة لا تقل عن ستة أشهر على ألا تتجاوز السنتين، الثلاث الأشهر الأولى يحصل فيها على تعويض يساوي الأجرة التي كان يتلقاها كوزير(ة). نفس الشيء يخص كذلك أعضاء البرلمان على ألا تتجاوز فترة صرف هذه التعويضات ثمانية عشر شهرا. أما التقاعد فيصرف فقط عند بلوغ السن القانوني المحدد للتقاعد ألا و هو سن الثلاثة والستين، و هو ما يطبق على جميع المواطنين. أما الغاية من هذه التعويضات عن الفترة الانتقالية فهي تسهيل الطريق أمام الأعضاء السابقين للبرلمان والحكومة من أجل ولوج عالم الشغل من جديد بعد فترة انقطاعهم عنه. ختاما يمكن القول أن النموذج المغربي في صرف التقاعد للوزراء والنواب مباشرة بعد انتهاء خدمتهم داخل المؤسستين هو نموذج مغاير تماما لما عرضناه أعلاه و لا يمكن تفسير هذا "التقاعد" إلا من خلال رغبة النظام في شراء ولاءات جزء من الطبقة السياسية. الأنظمة السلطوية تواجه أخطارا عدة قد تعصف بديمومتها و في مقدمة هذه المخاطر توجد النخب السياسية، لذلك تحاول هذه الأنظمة بطريقة أو بأخرى استمالة أو شراء هذه النخب و من بين هذه الوسائل الريعية نذكر على سبيل المثال لا الحصر: - توزيع المناصب مثلا في المؤسسات العمومية أو السفارات، - إنشاء مجالس استشارية أو غرف ثانية رغم أنه يمكن الاستغناء عنها، - إرشاء فئات معينة كالشباب مثلا أو النساء للحصول على مقاعد نيابية رغم غياب أي شرعية انتخابية، - منح تقاعد من جوج فرانك مباشرة بعد نهاية مدة التمثيلية. النموذج المغربي يدخل إذن في هذه التعددية لنماذج الأنظمة السلطوية و هو نموذج ليس فريدا من نوعه إذ أن لكل نظام غير ديمقراطي طرقه في إرشاء النخب السياسية و ذلك لإطالة أمد حياة الحكم السلطوي. azizfarhat.fa@gmail.com