ذ. الكبير الداديسي بعد جزأين في موضوع ( المرأة في مشروع يوسف زيدان الروائي) قدمنا فيهما نظرة الروائي والمفكر يوسف زيدان للمرأة من خلال روايتيه (النبطي) و(عزازيل) نواصل هذه السلسة في هذا الجزء الثالث بإطلالة على رواية (ظل الأفعى) وهي أولى الروايات التي أطل من خلالها يوسف زيدان كروائي على القارئ العربي وفيها أعلن بصراحة عن الخطوط العريضة لمشروعه الروائي و موقفه من المرأة... صدرت رواية (ظل الأفعى) عن دار الشروق سنة 2006 في 135 صفحة من الحجم المتوسط ، تحكي قصة رجل يسعى لاسترضاء زوجته التي هجرته دون أن يعرف السبب. فحاول الاستعانة بجدّها الباشا لإعادتها إلى صوابها. ليكتشف يوم واحد وهو الثلاثين من شهر يونيو من عام 2020 ميلاديّة. الموافق للتاسع من ذي القعدة سنة 1441 هجرية أنها كانت تتوصل برسائل من أمّها التي عاشت بعيدة عنها . حاول يوسف زيدان من خلال تلك الرسائل إبراز قيمة و أهميّة الأنثى والمرأة خاصة ، وكيف تحولت مكانتها من التقديس في الحضارات القديمة ، الى التدنيس في الحضارات الحديثة التي هيمنت فيها الثقافة الذكورية التي تنظر للمرأة نظرة دونية . فكيف قدم زيدان المرأة من خلال تلك الرسائل ..؟؟ لقد شكلت رواية ظل الأفعى صرخة في وجه البنية والعقلية الذكورية الاحتقارية للمرأة، وفي وجه النظرة التي جعلت المرأة تتوارى بعد إزاحتها من عرش الأولهية والتقديس وتقنع بأن تمدح (بأنها ربة خدر).. وعلى الرغم من بداية الرواية التي تبدو نسبيا ثقيلة ، تجعل القارئ ينتظر أن تكون رواية جنسية، فسرعان ما يخيب أفق انتظار قارئ ( ظل الأفعى) لما يكتشف أنها رواية دسمة، تطلبت من صاحبة عناء بحث في اللاهوت والناسوت، ليظهر موقف زيدان من المرأة أوضح منه في باقي رواياته الأخرى... مما جعلها - وهي أولى روايته- تشكل تدشينا لبرنامجه السردي، وإعلانا عن موقف في مشروعه الروائي من قضية المرأة، ومساندته اللامشروطة لقضايا الأنثى، حتى ليشك القارئ أن الرواية صادرة عن رجل ، إذ قد يتبادر إن ذهن القارئ – لما في الرواية من تنوير حول تاريخ المرأة و وانتقاد للفكر الذكوري- أن كاتبها قد يكون امرأة متعصبة لمقاربة النوع ، من خلال تقديسه للأنثى بفطرتها وأمومتها بشكل مختلف عما هو معتاد عند من يتناول القضية من جانب حقوقي أو إنساني ، لذلك كان في الرواية رفض لطرح أولئك النساء اللواتي يدافعن عن قضية المرأة بمنظور ذكوري ، فعبرت الأم في إحدى رسائلها عن موقفها ذاك فيما كتبته لابنتها عن إحدى محاضراتها : ( قلت إن المتنوِّرات اللواتي يطالبن بما يعتقدن إنه حقوق المرأة، هُنَّ نسوةٌ أفرغن أنفسهن من الأنوثة الحقّة، وحشونها بالذكورة! فصرن كائنات ممسوخة تطالب الرجال، بمنطق الرجال، أن يجعلن من النساء رجالاً فهاجت علي أقلام النسويات الرخوة . وأقلام الجماعات الدينية الصلبة التي كانت هائجة أصلا ضدي)[1] ، ولتأكيد موقفه الداعم للأنثى عامة والمرأة خاصة استشهد بعدد من النصوص القديمة منها ما يرجع للحضارة السومرية، وما يرجع للحضارة المصرية القديمة فخصص السارد عدة صفحات (من ص53 - إلى ص60 ) كلها نصوص تشيد بالمرأة نكتفي بالإشارة إلى واحدة منها أحال إليها ب(ترنيمة مصرية ، الدولة القديمة ) جاء فيها: (أنا أم الأشياء جميعا سيدة العناصر بادئة العوالم حاكمة ما في السماوات من فوق وما في الجحيم من تحت أنا مركز القوة الربانية ...) ترنيمة مصرية الدولة القديمة[2] (أنا الطبيعة أنا الأم الكونية سيدة كل العناصر ... عبدت بطرق شتى وأطلقت علي أسماء كثيرة )[3] ليؤكد أن المرأة في الحضارات القديمة كانت تحظى بمكانة مقدسة، اعتبرت فيها المرأة أما وسيدة كل الأشياء، المعبودة والحاكمة في السماوات والأراضي، مركز القوة الربانية والأم الكونية... قبل أن يتم أنزالها من على عرش ملكوتها، محملا الديانات مسؤولية تدني وضعية المرأة وتدنيس سمعتها: (كن حاكمات وقاضيات في معظم الحضارات القديمة ... ثم تغير الحال فجاءت اليهودية لتحرم على المرأة أن تكون حاكمة وقاضية بعدما دنس كتبة التوراة بضربة واحدة المرأة .. فأفرغ شعار الربات والأرباب والملكات العظيمات من مضمونه القديم )[4] وعندما وصف الباشا أم الساردة بالأفعى لم تثر في وجهه، بل على العكس اطمأنت وأعجبها الوصف( قال لي بل أنت الأفعى .. سعدت بالوصف) وكأنها وجدت فيه مناسبة لإظهار قوة المرأة وخصوصيتها ومقارنتها بالأفعى التي اقتبس منها الفكر الذكور معنى الزحف لإطلاقه على جيوشه المخربة ، مبرزة أن (الأفعى رمز لكل الإلهات على اختلاف أسمائهن ) ومنتقدة تحول الأفعى بعد ذلك (شعارا لآلهة ذكورية مصطنعة :لإله الحكمة المزعوم هرمس.. ولأله الطب عند اليونانيين إسكليبيوس ولآلهة كثيرة غيرها )[5] إن يوسف زيدا في رواية ظل الأفعى، منتصر للمرأة مدافع عنها، باعتماد حجج تاريخية دامغة ، محاولا إتباث أن (الإنسانية كانت لا ترى بأسا في أن تحكم النساء، بل ترى أنه من الطبيعي أن تحكم النساء )[6] ليقدم عشرات من الأمثلة لآلهات نساء، ولنساء حكمن وكن حاكمات قاضيات فكن رمزا للسلم والاستقرار فقد (عاشت تلك الحضارات زمنا طويلا في سلام وأعطت للإنسانية في الزمن الأنثوي الأول كل بذور الحضارة الزراعة الثقافة الاستقرار الحنين إلى الوطن الضمير الديانة... السلام ) [7] في مقابل ذلك ربط الحروب ، والدمار والتخريب بزمن الذكورية ( لم يجد الآثاريون أثرا لصناعة حربية بين حفرياتهم مثلما وجدوا في المجتمعات الذكورية اللاحقة) [8] ، وفي إطار دفاعه عن المرأة والأنثى عامة، استشهد بآراء بعض المدافعين على المرأة كما ورد في رسالة ابن عربي فيما لا يعول عليه حين قال ( المكان الذي يؤنث لا يعول عليه )[9] ، رافضا فكرة وأد البنات التي روجت عن العصر الجاهلي مبرزا أن الفكرة تدولت بعد الإسلام وفي عصر التدوين ويستشهد على ذلك بوجود شخصيات نسوية كان لهن نفوذهن في الجاهلية ، و كون الجاهليين عبدوا وأخلصوا لآلهة مؤنثة أهمها (اللات ، العزى، مناة ، نائلة ..) وأسموا قبائلهم بأسماء نساء أو نسبت لأسماء مؤنثة( كندة، ثغلبة ، أمية ، ربيعة ،ساعدة..)[10] وحتى اللغة العربية منتصرة في الأصل للمرأة بدليل وجود (اسم مفرد لا يمكن جمعه ، واسم جمع لا يمكن إفراده المفردة التي لا تجمع هي كلمة (المرأة) والجمع الذي لا يفرد هو كلمة (نساء) فالمرأة ،أبدا واحدة ، والنساء صورتها المتكررة ، المرأة ربة فرد، والنساء مقدسات.. ثم صرن (أو صار أغلبهن )اليوم مثلما أريد لهن مدنسات )[11] ، ومن مظاهر تكريم اللغة العربية للمرأة والأنثى كون (المصادر الصناعية كلها مؤنثة(الإنسانية، الوطنية، الاجتماعية، الإلهية ، الواقعية) بل إن الرجل عندما يصل مرتبة من العلو والكمال تضاف لصفته تاء التأنيث (إلحاق التأنيث بالرجل إذا بلغ مرتبة عالية فيقال علامة، فهامة ، نابغة ، رجالات ( لا يقال رجالات إلا للرجال ذوي المكانة العالية في الجماعة ) [12] لتنتهي الرواية إلى أن الوضعية المتدنية التي تعيشها النساء اليوم، واعتبارها من أكثر الفئات هشاشة في المجتمع المعاصر ، أنما يرجع لهيمنة الفكر الذكوري، مستغربا من تمثيلٍ في اللغة ضربه ابن منذور في لسان العرب تقول أم الساردة (قرأت في لسان العرب : الأنثى خلاف الذكر في كل شيء والجمع إناث وأُنُث كحمار وحمُر )[13] إذ انتفت كل الأمثلة أمام ابن منذور فلم يجد إلا الحمار ليقيس عليه جمع إناث، مستغربة كيف تم تطويع اللغة للفكر الذكوري وإزاحة المرأة من علوها المقدس، إلى موضعها المدنس، مستشهدة بوصف الزوج بالبعل ووصف المرأة بالحرمة موضحة لابنتها كيف ( استعيرت لفظة بعل للدلالة على الزوج وجعلوا للزوجة لفظ حَرَم انظري كيف جلبوا لوصف الزوج اسم الإله الذكر القديم الذي أزاح عشتار عن عرش الأولهية ولم يصفوا المرأة يوما بأنها بعلة وفي المقابل جعلوا الزوجة، فقط، هي حرم الرجل ولم يصفوا الزوج بأنه حرم لزوجه .. للرجل الحرمة ،والحريم، والحل والتحريم صورة الله الذي ورد في الخبر أنه خلق آدم على صورته، للرجل فضل التفضيل الإلهي ، وحظ أنثيين والحور العين في وعد الجنة ... ولا شيء للمرأة حاملة الأجنة، إلا الدعوة إلى الرفق بها، ومن تم الوصاية عليها، والزعم بأنها في الأصل معوجة )[14] ، إن الفكر الذكوري من وجهة نظر الرواية فكر عنصري متعصب يحمي فيه الأب ابنه إن اعتدى أو اغتصب فتاة، وله في أسطورة اغتصاب إنانا السند والمرجع التاريخي إذ استنتجت كاتبة الرسائل النسبة الأبوية الحامية للرجل حتى ولو كان مخطأ ، وأن الرجل بين إخوته الرجال آمن حتى لو عم الخراب العالم من حوله فمن خلال اغتصاب شو كاليتودا ( الرجل الأرضي) للربة إنانا ووقوف أبيه إلى جانبه إفلاته من العقاب فلا بأس إن اغتصب أي رجل امرأة شريطة تدبر أمر إفلاته ومن تم فكل النساء فرائس يمكن لأي صياد ماهر قادر على تدبر الأمر أن يظفر بهن [15] لقد كرس الفكر الذكوري سلطة الرجل وقوته رغم دوره الثانوي في دورة الحياة، وأن أهم ما يستطيع فيعله في هذه الدورة (لا يتم إلا في لحظة إطفائه الشبق ، في لحظات قصار يفرغ فيها قطرات بيضاء دون أن يدري كنهها لانشغاله ساعتها بالرعدة السحرية الناجمة عن ولوجه في باطن المرأة )[16] ، لذلك فالرجل في نظر الرواية لا يستحق لقب الوالد قالت :(إنما أنا الوالدة ، الرجل لا يلد ولا يصح وصفه بالوالد )[17]، حاولت الرواية إذن إبراز أن هناك قصدا في تدنيس المرأة ما دامت كل دواعي تقديس الأنثى لازالت على حالها (فلا تزال المرأة تحيض، وتستدير أعضاؤها، وتلد وتتعهد غير أن الوعي الإنساني المتأخر .. بلغ فيه العهر الذكوري من العتي والمخاتلة بحيث صار ينظر لدواعي القداسة في المرأة على أنها علامات الدنس )[18] ، ذلك أن تقديس وتأليه المرأة حسب الرواية يرجع إلى عاملين أساسيين: الأول منهما مرتبط بطبيعة الأنوثة وجوهرها ( الحيض،الولادة، الاستدارة ..) و الآخر يرتبط بالوعي الفطري للإنسان ( ربط الدم بالحياة والتضحية والقرابين) الدم سر الحياة والدم يفيض في المرأة كل شهر وهو إعلان دوري لامتلاكها سر الحياة[19] ... وقد تدرج هذه التدنيس المقصود، والتقليل من شأن المرأة المدبر عبر مراحل فقد (كان الرجال يقدمون جزءا من جسمهم ثم صاروا يقدمون جزءا من المال ويسمونه مهرا، والمهر في اللغة التوقيع !ثم غلبهم الشح فجعلوا مهر النساء جزءا مقدما وآخر مؤخرا ثم نسوا أنفسهم واستباحوا الطلاق ثم تجرأوا على الجمع بين الزوجات ثم تبجحوا بالادعاء أن المرأة خلقت من ضلع الرجل الأعوج. قلبوا الأمور فانقلبوا قوامين على من أقاموا من رحمها المقدس فتقلبت أحوال البشر... سرنا على غير هدى فصرنا إلى ما نحن فيه.) وبذلك خلق التفاوت في المجتمع الذي أصبح باستبداد الفكر الذكوري نصفان: رجال ونساء (الرجال بحكم الواقع المفروض والتاريخ المصنوع هم الأعلى ، وعلى الأدنى (النساء) أن يقمن بالدور المقدر عليهن بحكم انتماء المجتمع للبنية الاحتقارية[20] لتتكرس فكرة الأبوة وهي غير الأمومة( الأمومة .. طبيعة، والأبوة ثقافة. الأمومة يقين، والأبوة غلبة ظن. الأمومة أصل في الأنثى، والأبوة فرع مكتسب)[21] لأن الأمومة مرتبطة بمعاناة الولادة ومنوطة بالشفقة والألم لدرجة أن الولد و البنت كلاهما عند الأم (ضنى ) وليس من عاده الرجل ان يصف ذريته بهذه اللفظة المليئة بدلالات المعاناة والآلام والشفقة فإلام هي التي( تضنى) وهى وحدها التي تعرف بطبيعتها الأصلية معنى الأمومة... وكأننا بالرواية تتغيى إعادة اكتشاف الذات وتصحيح مفهوم الإنسانية وصورة المرأة، وتغيير مسار التاريخ ، وتجنب الهاوية التي تقود الثقافةُ الذكورية ُالعالمَ نحوها ما دام الرجال يخربون العالم الذي بنته الأنثى بالحب .