إن علاقة الفرد باللغة تمر بعلاقته بالمجتمع، فاللغة مرآة ثقافية تثبت تمظهرات رمزية، وهي صدى لكل المسبقات الجاهزة.ومنذ ظهور كتاب «الجنس الثاني» لسيمون دو بوفوار تغيرت ثوابت كثيرة منها أن المرأة لا تولد امرأة ولكنها تصبح كذلك نتاجا للمجتمع، انطلاقا من هذا الفهم نتساءل هل للغة جنس؟ هل هناك أية علاقة جديلة بين اللغة والأشياء؟ ولماذا تحولت العديد من المفاهيم إلى لغات تدل على شيء محدد اجتماعيا بحيث لا يقبل الجدل؟ أسئلة وأخرى نطرحها بهدف استجلاء العلاقة القائمة بين المرأة واللغة في المجتمع؟ - النساء والكلمات ترى الباحثة مارينا ياكيلو في كتابها الشهير"النساء والكلمات" أن هناك خطابا مزدوجا في الثقافة، وهو خطاب يخضع الأنثى لنفس الازدواجية والمعنى، وتؤكد على أن الهيمنة في اللغة هي للمذكر على حساب المؤنث، بحيث يتم إدماج الأنثوي داخل الذكوري في الصرف، وقد تمحى الأنوثة في الانكليزية مثلا. إن الجنس الذكوري هو الأكثر قداسة، ولذا فهو الذي يهيمن كلما تجلا النوعان معا، فالمجتمع يفضل الذكورة قبل ظهور الديانات، ولذا فحين جاءت الديانات استمرت صفة القداسة للذكورة، فالفعل الإلهي هو فعل مقدس، وبالتالي الإله واحد، ومن ثم فكل الصفات التي أصبحت تمنح للذكورة من خلال المجتمع هي صفات برزت مجتمعيا، وتفرعت حتى صارت مثل أشياء ثابتة ومصنوعة قبلا. ومن ثم فإن العلاقة بين النوع والجنس قد طرحت إشكالا آخر، بحيث أصبح النوع وكأنه نتاج لرؤية العالم. ويرى رومان جاكوبسون بأن النوع هو حامل لوظيفة مجازية، بحيث لا تدل الشجرة على شجرة فعلا، بل هي شيء تم التواضع عليه، وعليه فإن العديد من الكلمات أصبح لها معنى مجازي وكأنها خلقت فعلا كي تعبر عن ذلك. ويمكن اعتبار اختيار العديد من الكلمات الأنثوية أشياء قابلة للسؤال فقط، كأن نجد معان أنثوية من خلال ألفاظ مثل سيارة، دراجة، دراجة نارية، طائرة، وهي كلها وسائل لركوبها في حين نجد القطار مذكرا وهو الذي يمشي دون التواءات ودون أن يخرج عن السكة مثلا، غير أن الأمر قد يصير أكثر خطورة حين نجد أن القذف والسب يتم دوما عن طريق امرأة حتى لو كان رجلا، فحين نرغب الحط من رجل، فنحن نقول له: امرأة أو “امريوة"، وحين نرغب في سب قبيلته نقول له ابن العاهرة أو أخ العاهرة، فهو يسب بانتمائه لجنس المرأة، والمرأة دوما ما يتم سبها عبر أعضائها الجنسية، فهي تصير في أحط المراتب حين تنتقل إلى عضو متسخ. و ترى الباحثة فرانسواز إيرتيي أن هناك اختلافا بشأن العديد من المفاهيم، خاصة فيما يتعلق بالجسد، فالمني هو أحسن من الحليب، والرجل يفقد دمه في الحرب إراديا، في حين تخضع المرأة للعادة الشهرية بشكل لاإرادي. وهنا تبدو الأشياء وكأنها مسلوبة لدى الأنثى، في حين يمثل الرجل مالك القضيب وضع الفاتح والغازي والفاعل. إن العديد من المفاهيم بنيت اجتماعيا وصار لها كيان ومعنى متداول يصعب خرقه والنقاش فيه، وما الأسماء إلا نتاج للمواضعات المحددة سلفا. - فحولة اللغة إن اللغة ليست من صنع المرأة، لذا فهي موضوع لغوي كما يقول الغذامي، وليست ذاتا فاعلة. فالأصل في اللغة التذكير، ولذا يقول ابن جني: «إن تذكير المؤنث واسع جدا لأنه رد إلى الأصل". فالفحولة في الرجولة هي سلطة، في حين المرأة الفحلة هي امرأة سليطة اللسان، وهي امرأة منبوذة اجتماعيا وثقافيا لكونها تتكلم في عشيرة الفحولة بلسانها السليط الذي يلغيها من مرتبة الأنوثة الصامتة المرسومة لها سابقا، ولذا نجد المقولة الشهيرة لبودلير:»كوني جميلة، واصمتي»، ففي هذه الثنائية تكمن الأنوثة وهي الجمال والصمت عن الكلام، لأنه ينقل المرأة إلى مفعول وأداة لتنفيذ الأوامر، ولذا ففي المجتمع نجد النساء اللواتي استلمن السيادة والقوة لا يحسبن ضمن عشيرة النساء، بل إن اللغة تحولهن إلى مسترجلات، ويتم التعبير عنهن بواسطة الرجال، أي أنهن دخلن إلى مراكز الرجال ألا وهي السياسة والتي تلغي الأنوثة من دائرة حسابها. إن اللغة الذكورية تفترض القوة والحروب، في حين تفترض لغة الأنوثة تصالحا مع الأمومة والفطرة، ولذا فإن المرأة تنتقل إلى مسار الذكورة حين تسود في خطاب لا تنتمي إليه، هو أساسا من صنع الرجل. ولا يسلم الأدب هو أيضا من هذه الازدواجية، رغم تطوره ورغم تراكم النتاجات التي أبدعتها النساء، فإنه ما زال تحت هذه الهيمنة الذكورية في جذوره وفي رؤيته للعالم. - لغة الآخر لا يمكن أن ننسى أن الرجل دون تاريخه في الكتابة قبل المرأة، فهو موجود ثقافيا وحضاريا وغرس جذوره اللغوية ورسخ بنياته ومتخيله فيها، ولذا فإن المرأة حين دخلت لمجال لم تكن موجودة فيه، فإنها اقتحمت بلسانه وصوته، وهذا ما يفسر ظهور الأسماء المستعارة سواء بأسماء ذكورية مثل جورج ساند أو جورج إليوت، أو أسماء مستعارة أنثوية مثل رفيقة الطبيعة أو بنت الشاطىء، وهي أسماء تحمل ازدواجية في الشخصية وخوفا من ضمير المتكلم الأنثوي الذي ليس له وجود في المجتمع. ولذا فلا عجب إذا وجدنا أدبا ملتويا يتخذ في كثير من الأحيان التعبير بلغة الآخر وبلسان وجوده، وبالرغم أن الكاتبة نوال السعداوي أصدرت كتابها “الأنثى هي الأصل"، فإنها في أدبها ما زالت تتحدث لغة أخرى تنتمي إلى لغة الذكورة وتقدم أدبا مزدوج الدلالة، يمكن القول عنه إنه خنثوي الأبعاد، أي أنه يضمر الأنثى والرجل وامتزاجهما، ويقدم صورة تخاف من ضياع القضيب أي السلطة التي يمتلكها الرجل بهيمنته في المجتمع، ولذا، فإن الكاتبة وهي تؤرخ سيرتها الذاتية في ثلاثيتها “أوراقي...حياتي" نجدها ترفض عالم الأنوثة وتنتقده لأنه عالم الارتخاء و»الحلاوة» التي تسلخ جلود النساء، ودون أن تشعر تجد ذاتها تعيد منظومة الرجل وتتكلم بلسانه بحيث تقول إنها ترتدي الأحذية الجلدية السميكة وترفض كل أنواع المساحيق وتصير امرأة خشنة، وهي كلها أشياء تنتمي للرجل مالك الهيمنة والقوة، لذا تجد نفسها ترغب أن تعيد منظومته. فهذا التصور يجعلها تعيد منظومة الآخر في هيمنته اللغوية لأنها دون أن تشعر، تجد أن السلوكات الأنثوية تعيد إلى الخلف، لذا تتخذ لذاتها سلوكا آخر ينتمي للغة أخرى أكثر قوة. وهذا ما يفسر خوف المرأة من ضمير المتكلم الأنثوي الذي يحيل مباشرة على الذات الكاتبة. - ضمير المتكلم الأنثوي: بالرغم من أن هذا الضمير محطة سردية فقط، فإنه شكل في الأدب مزالق ومخاوف كبيرة، فالخوف من هذا الضمير جعل العديد من الكاتبات يراوغن في الحديث عن ذواتهن باسمه، ونجد أحلام مستغانمي حين كتبت روايتها"ذاكرة الجسد" كتبتها بضمير المتكلم الذكوري، وفيما بعد أعلنت عن أن هذا العمل هو سيرتها الذاتية. وبأنها كتبت بنوع من التزوير والتدوير، أي أنه ضمير يخيف لأنه سيتحدث عن الأنوثة. وحين كتبت مارجريت دورا روايتها»العشيق» وهي سيرتها الذاتية تركت المجال مفتوحا أمام القارئ ليعتقد ما شاء، سواء رواية أو سيرة ذاتية. إن الخوف من ضمير المتكلم هو خوف أيضا من الأنوثة، أي أن الأنوثة في اللغة مآلها التستر والانزواء إلى الخلف. إنها تكره الوضوح، لذا تعلن لغزيتها كما يقول فرويد، فهي لا تريد أن تكشف عن رغباتها، ولذا فنحن نجد أن السير الذاتية الأنثوية هي أكثر الكتابات رغبة في إخفاء لغة الجسد لأنه يكشف عن لغة الأنوثة، فالكاتبات لا يعلن عن هذه اللغة الجسدية إلا عبر وسيط الحلم، بحيث يتحدثن بواسطة الحلم فقط عن الرغبة الجسدية، في حين يتم كتمانها وإخفاؤها من لغة الواقع، وهن بذلك يتسترن عن صوت الأنوثة، في حين يمكن للأنثى أن تتحدث عبر التخييل الروائي عن رغبات الجسد أو إباحيته رغم العديد من الوسائل غير المباشرة مثل رواية»برهان العسل» التي تتحدث بواسطة لغة «المفكر» الذي يتحدث عن الجسد ويتلمس طريقه، ولكن كيف تكتب المرأة بلغة المذكر عن المؤنث، وكيف تستطيع أن تفكر بلغته في خلق الأشياء؟ - تهذيب اللغة: ترى الباحثة نورا غالي في مقالها «الكلمات الطابو والمرأة» أن المرأة لها علاقة مختلفة مع الطابو، بحيث أنها تتعامل معها بنوع من التلطيف، وقد تم إحصاء لوائح اللغة التي تستعملها المرأة، فوجدوا بأن المرأة تهذب اللغة وتصححها، كي تبرز بشكل مهذب ومنظم ومتصالح مع المجتمع. ولذا ففي لغة الشارع، لا نجد المرأة إلا مفعولا به في اللغة، وإذا وجدنا امرأة تمتلك لغة الشارع، فهي رجل لأنها تدخل عالم الرجال بفحولتها اللغوية غير المقبولة اجتماعيا، ولذا ففي الأدب يتم رفض تعابير لغوية فاضحة تستعملها الأنثى في الأدب، بدعوى أن المرأة هي كائن مهذب لا يحق له أن يتصرف في اللغة كما الرجال، وهذا ما يفسر رفض المجتمع لبعض الكتابات بدعوى أنها متحررة جنسيا كما الشأن في كتابات ليلى العثمان أو مليكة مستظرف مثلا. إن المرأة بامتلاكها القلم، ترفض أن ترى الآخر، فالعين القضيبية هي العين الرائية وهي الفاعل في الآخر، أي أن العين الرائية هي دوما عين مهيمنة وفاعلة، وهي التي تقوم بدور الغزو والفتح، ولذا نجد أن الأدب والتشكيل والسينما هي كلها أشكال تعبيرية ترى المرأة، وتبرز جسدها، وتلمعه، في حين يتوارى الجسد الرجولي ويختفي من دائرة الرؤية لأنه جسد غير مرئي على المستوى الجمالي، أو لكون الإثارة هي جسد أنثوي يمتلك لغة المفعول به في دائرة الرجال. لذا نجد الأديبات غالبا ما يبحثن عن ضمير المتكلم الذكوري الذي يمنح مساحات من الحرية ليتحدثن بلغة الرجل، إلا استثناءات أدبية قليلة حاولت في السنوات الأخيرة الخروج من أسر اللغة الذكورية لتصنع لغة الأنوثة . - صنع لغة الأنوثة: هل يمكن أن نصنع لغة الأنوثة؟ هل يمكن للأنوثة أن تبني ذاكرة خاصة بها؟ اللغة لا تكفي كي يتم إقصاء التنوع الجنسي من المجتمع، فدونية التصورات والمفاهيم هي أشياء تشكلت اجتماعيا، وينبغي محاربتها في المدارس والمؤسسات ووسائل الإعلام إلى غيرها، لأنها تبنينت وأصبحت استعارات لاواعية تسير الذوات المتكلمة. وقد عمل النقد النسائي على تأسيس ذاكرة للأنوثة عبر إعادة النظر في العديد من الموروثات سواء تلك التي أرخت للأدب مثل نقد كتاب «زمن الرواية» لجابر عصفور الذي لم يشر في معرض حديثه عن السيرة الذاتية إلى أية كاتبة، ويمكن أن نشير إلى ظهور كتاب «مائة عام من الرواية العربية» لبثينة شعبان التي انتقدت إهمال مؤرخي الأدب للبدايات الروائية التي يبدؤونها برواية»زينب» لهيكل، في حين تعود البداية لرواية زينب فواز»حسن العواقب»، وأيضا تتبعها سبع روايات للكاتبة عفيفة كرم أولها «بديعة وفؤاد». وقد أعاد النقد النسائي سواء الغربي أو العربي على بناء آخر لذاكرة قديمة، ولهذا ظهرت كتب هامة مثل كتاب «قالت الراوية» لهالة كمال، والذي أنتجت فيه العديد من الكاتبات حكايات تحكيها نساء بغرض تأسيس حكايات بديلة لا تقوم على العنصرية ضد النساء، ومحاولة بناء لغة بديلة لللغة المسكونة بوعي غيري. إن محاولة بناء لغة بديلة وتغيير مفاهيم سواء عبر الأدب أو تأريخه، أو إعادة قراءته من جديد بهدف تغيير أنماط الرؤية السلبية فيه هي محاولات جادة وهامة، غير أنه تلزم قرون كي نغير الموروث اللغوي الذي نستعمله لأن اللاوعي فيه مبنين كلغة محملة بالعديد من المفاهيم السلبية عن المرأة. إن علاقة المرأة باللغة تخص كل المجتمعات، حتى المتقدمة منها لأنها تحيا بداخلها كبناء لهيمنة الذكورة عن الأنوثة، ولذا على الكاتبات أنفسهن الكتابة عن الأنوثة اللغوية لأنها ما زالت في حاجة إلى عمل آخر. فهن يعبرن عن الأنوثة بمفاهيم الذكورة لأنها لغة الأب المهيمنة وهي اللغة السائدة التي يتحدثها المجتمع.