بقلم ادريس رابح / قليل هم من يتعظون بمجريات السنن التاريخية وقليل هم من ينتبهون إلى أن التجارب الأممية، رغم تباعدها في الزمان أو المكان، تتشابه وتتكرر في أكثر من قطر، وإن ثبت هناك اختلاف في الشكل أو في جانب من سيرورة التحقق، إلا أن الجوهر لا يتغير والنتائج تتقارب رغم تباين الشروط والظروف التاريخية والسوسيوثقافية التي احتضنتها ووفرت لها أسباب الوجود. كل دول العالم تنتهج سياسة معينة تجاه نسيجها اللغوي الداخلي وفق ما تقتضيه مصلحة القوامين بالقرار السياسي، وتخضعه لنمط من التصورات الموجهة من طرف خلفيات الطبقة الحاكمة، وتتحدد طبيعة هذه السياسة بخلفيات تاريخية ورهانات هوياتية ومحددات اديولوجية وتوجهات براغماتية. لذلك، فالدولة التي تتوفر، مثلا، على الرغبة السياسية الحقيقية في النهوض بمكون لغوي معين، تلجأ إلى حمايته قانونيا وتوفير له ترسانة تشريعية تكون سندا ومرجعا لكل الهيئات والأفراد في ''التعامل مع وضعه الاعتباري، في المقابل، نجد أن الدولة التي يعوزها معنى ''الانتماء''وتروم تكريس مشهد لغوي محدد على حساب أحد مكوناتها اللغوية الأخرى، تسطر سياسة لغوية إقصائية تقوم على تهيئ الشروط الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والقانونية التي تجعل تنافسية السوق اللغوية تميل لصالح ''المكون اللغوي'' الذي يخدم إيديولوجيتها ومصالحها الإستراتيجية. تختلف إذن السياسة اللغوية من بلد إلى أخر، حسب الأهداف والخلفيات وتغيير موازين القوى داخل المجتمع. فكيف إذن، تتحدد نظرة الدولة المغربية إلى اللغة الأمازيغية ومستقبلها(وهنا أتحدث عن النظرة العميقة وليس ما يظهر على السطح) من خلال عدة مؤشرات أهمها ''واقع تدريسها في المنظومة التربوية'' و''تأخر إخراج القوانين التنظيمية للترسيم الفعلي للأمازيغية''وغيرها من مؤشرات ميدانية...؟ بالعودة إلى تجارب عالمية شاذة، فضلت من خلالها دول محددة أن تقصي إحدى دعائهما الهوياتية وإحدى مكوناتها اللغوية، سنجد أن هناك نقط مشتركة بينها وبين السياسة اللغوية التي تنتهجها الدولة المغربية تجاه الأمازيغية، رغم وجود اختلافات على مستوى التمظهرات والتكتيك المتبع والصورة التي تحاول أن تسوقها لسياستها البرغماتية والاحتوائية. إن سياسة الدولة تجاه الأمازيغية واضحة من حيث الهدف وملتبسة من حيث الوسائل التي توهم بعكس ما تخفيه، وتاريخها يبين أن الأمازيغية لها بعد هوياتي يشكل تهديدا للشرعية في نظر السلطة السياسية المغربية، لذلك وجب سن إجراءات تنحو تدبير هذه الملف وفق نهج يحافظ على الغاية المسطرة –طمس الأمازيغية-وفي نفس الوقت يأخذ بعين الاعتبار التغيرات والتحولات التجادبات المرحلية، كأن تتم الاستجابة لبعض المطالب وفق ممارسة محسوبة الخطوات تتشرب اندفاع بعض النخب والتيارات بالاستقطاب تارة وتحاول تقليم أظافر البعض الأخر تارة أخرى، ولعل إدماج الأمازيغية في المنظومة التربوية وإنشاء ايركام والدسترة الشكلية أهم تلكم الآليات التي يعتمدها المخزن في ترويض ''الأمازيغية المزعجة'' لحساباته. فالنظر إلى نمط التعامل مع الأمازيغية من طرف الدولة يجعلنا نقف على جوهر السياسة اللغوية المتبناة والتي لا تختلف في مضمونها ومراميها عن تلك المعتمدة في بعض الأقطار، كأندونسيا والصين في مقاطعة zhuang du guangziوالبرازيل تجاه اللغة الأصلية...، مع فرق بسيط أن تلك الدول تمارس سياستها على ''لغات الأقليات'' بينما في المغرب تمارس هذه السياسة على لغة الأغلبية وهو ما يعني تكييف لتلك السياسة لتلائم الخصوصية المغربية، وهنا تنبع في البيئة المغربية تلك المقاربة التي تمزج بين الدين والعروبة في الوجدان المجتمعي وتحريك بعض التيارات لتخوين المطالب الأمازيغية وربطها بالاستعمار والصهيونية...وهي وسائل أتت أكلها في مجتمع أمي تحركه العاطفة أكثر ما يميل إلى اعتماد العقل والمنهجية العلمية. يقوم هذا النمط من السياسة المسماة'' سياسة الاستيعابpolitique d'assimilation ''، على اعتماد وسائل غالبا ما تكون عبارة عن تخطيط مسبق وواع لتسريع وثيرة جعل بعض المكونات الهوياتية واللغوية أقلية ومصادرة رصيدها ومعالم تميزها. وتبني سياسة الاستيعاب لبناتها على ''سن قوانين المنع والإقصاء والتهميش الاجتماعي للناطقين، ويحدث أن تتظاهر الدولة بتبني العدالة اللغوية في القوانين ولكن في عمق الممارسة تتوسل بسلوكيات تغترف من التمييز والإقصاء تجاه مكون لغوي معين. وهذا ما ينطبق في جزء كبير منه على السياسة اللغوية المغربية تجاه الأمازيغية، ويبرر الوضعية المزرية التي تتخبط فيها داخل المنظومة التربوية. تحاول الدولة أن تمارس الحياد السلبي تجاه وضعية اللغة الأمازيغية، وهو الدور الذي تمارسه عادة الدول الليبرالية التي تتمتع ساكنتها بعدالة لغوية دون تمييز وحين تكون لغاتها قد وفرت لها كل الشروط القانونية والسوسيولسانية. وهذه السياسة مقصودة بل وتخدم اديولوجية المخزن باعتبار أن الأمازيغية لم تحظى بعد بالوضع القانوني والتشريعي والاهتمام المستحق حتى نخضعها لمقتضيات تنافسية السوق اللغوية. إن من النتائج المباشرة لسياسة الاستيعاب هو ذاك التخبط الذي تعيشه اللغة الأمازيغية في المدرسة المغربية، وكنت قد نبهت في مقال نشر في المسار الصحفي في الجمعة 8 نونبر العدد 94، بمناسبة الموسم الدراسي الماضي 2013.2014، أن الدولة المغربية لا تملك رؤية واضحة تجاه تدريس اللغة الأمازيغية نتيجة غياب الرغبة السياسية لدى صانع القرار الرسمي، مما يعني معه غياب إستراتيجية ذات أهداف محددة ووسائل التقويم والمتابعة وبالتالي المحاسبة. وأولى انعكاسات ذلك على المستوى الميداني، أن يترك تدبير ملف إدماج اللغة الأمازيغية في المنظومة التربوية خاضعا لمزاجية النواب الإقليميين ورؤساء المصالح ومدراء المؤسسات التعليمية. فالمشاكل تتكرر كل سنة والتراجعات في المكتسبات لازالت تسجل في العديد النيابات الإقليمية، فمن خلال معطيات استجمعناها على مستوى الكنفدرالية المغربية لجمعيات أساتذة اللغة الأمازيغية، فقد قام بعض النواب بسحب تكليفات أساتذة اللغة الأمازيغية وإزالة مادة اللغة الأمازيغية من البنية التربوية لهذا الموسم كما حدث في نيابة خنيفرة، كما أن هناك نواب طالبوا أساتذة اللغة الأمازيغية الجدد المعينين من طرف الوزارة بتدريس مواد أخرى كالعربية والفرنسية لسد نقص الموارد البشرية، بالإضافة إلى غياب كلي إلى أي مذكرة وزارية تعنى بالإمازيغية كما أعتيد على استصدارها عند بداية كل موسم دراسي. إن إفشال تدريس اللغة الأمازيغية ليس في أخر المطاف إلا وجه من أوجه سياسة الدولة الإقصائية التي تروم استيعاب الهوية والثقافة الأصلية للبلاد وليس كذلك إلا توفيرا لشروط إضافة لإنجاح مسلسل التعريب الجذري للإنسان والحجر والشجر وطمس الهوية الأمازيغية وتاريخها.