في غفلة مني طار القلب وهو يرفرف بعيني إلى المذكرة الصغيرة، توغل عميقا في أيام الطفولة البهيجة التي لا أتذكرها إلا وتطفح ذاكرتي بمشاهد عدة من قبيل مغامراتي إلى الغابة رفقة أصدقائي من جهة، و من جهة أخرى تذكري لوقائع قديمة لكرة القدم، هاته الأخيرة التي كانت تشغل أذهاننا نحن الصغار فنقضي الساعات بل النهار ...كله نجري ونلهث خلفها مدافعين عن شباكنا و هي عبارة عن حجرتين متوسطتي الحجم مبتعدة إحداهما عن الأخرى وتفصل بينهما بضعة أمتار. كنا لا نعرف معنى للراحة غير أن عودتنا إلى بيوتنا لا تلبث أن تكون سوى فناء و بطشا بأجسادنا، حيث يظهر ذلك على وجه كل صديق بعدما يتلمس آثار الآلام المنبعثة عن خشونة الخصم أو بفقدان التوازن و الانزلاق على تلك الأرض الصلبة التي لم تجد من هو أصلب منها، كنا بعد تناولنا وجبة العشاء نتفق على تقسيم الأصدقاء إلى فريقين خصوصا أيام العطل، حيث يبدأ اللاعبون في جمع الدراهم لشراء كرات من القماش أو البلاستيك، من منا لا يتذكر كرة ستين ريالا؟ حينها كانت تبدأ المناورات تالله لن تنتصروا؟ وهناك من يقول: نحن نملك لاعبين أفذاذا؟..... وبعد أن نستيقظ من قاعات النوم صباحا ونتناول طعام الفطور: فنجان قهوة بارد وقطعة خبز و مربى ممزوج بالماء وبعض الحشرات من صراصير وذباب وما شابه ذلك...... بل يصل أحيانا إلى شعيرات لعاملات مطبخ المؤسسة التي نتواجد بها، فمن شاء تناول ذلك لسد الرمق أما البعض الآخر فتفرض عليهم الضرورة الصيام ولو أن رمضان بعيد عن الأبواب. إبان ذلك يأخذ كل واحد منا صديقه ويشد الطريق إلى الغابة نحو هضبة مستوية وكل منا يحمل كيسا أسود من البلاستيك - مما بينت الدراسات الايكولوجية أنه لا يمكن أن يتحلل إلا بعد قرن ونصف - وكل منا يدخر به لوازمه المدرسية، وبينما نحن نتسابق إلى الملعب بعد سطوع الشمس قليلا حيث تكون أفواهنا ترسل بخارا بينما وجوهنا العارية تماما تبدأ بالارتعاش. بعد وصولنا إلى الملعب يعين اللاعبون صديقا لهم حكما حتى وأنه لا محالة سيصبح عدوا حالة انهزام أي فريق. كان السعيد منا هو الذي يسبق الآخرين ويقترب من حارس المرمى ويرسل قذفة مدفعية صاروخية يسجل بها هدفا، وهنا تبدأ الحزازات بين اللاعبين إذ أن الفوز سيؤدي إلى الظفر بالدراهم التي ترفض الاستقرار بداخل الجيوب لأنها تلجأ مباشرة من الملعب إلى صاحب المقهى لاقتناء أكلة تسد الرمق و تقي برودة العيش و لفح الجوع. أحيانا كنا نلعب الكرة في الأزقة أو قرب منزل مقر سكنانا . كان ذلك الرجل الذي لا يمكن لي وصفه إلا حاسدا و حاقدا على اللاعبين إلا أنه بمجرد اقتسمنا معا لفريقين للعب نتخذ عيونا لتخفي الكرة عنه حتى إذا ما أنبأونا بقدومه، لكننا ما نكاد نسرع في اللعب حتى يشتغل حال مراقبينا بالمباراة ويختلط الحابل بالنابل وتكثر الأرجل الضاربة للكرة ويحمى وطيس المقابلة . و يحدث مرات أخرى أن تتردد الكرة لتستقر أمام باب المؤسسة فإذا بالحارس يأخذها و يمسكها و يدخلها إلى منزله غنيمة باردة وكأنهما على ميعاد، وفي تلك اللحظة يبدأ صمت بارد يخيم على اللاعبين مما يدفعهم إلى الاجتماع أمام باب الحارس حشودا كأنهم على موعد نقل جنازة إلى المقبرة وهم يتوسلون إليه: رحم الله والديك وفقك الله يا عبد القادر ..... و هم يربتون على كتفيه و هو يرد عليهم " والله لأضربن أحدا منكم " يردها بلغة هجينة غامضة، لكن من يستمع لندائهم لأن سلطة المؤسسة التي نقطن بها أقوى منا. كان لزاما علينا يضعوننا تحت الأقدام و يدوسون على أجسادنا من كل الجوانب، بيد أنهم كانوا يسجنوننا ليلا و يمنعون خروج أي نزيل من المؤسسة إلى الخلاء و لو للهو أو لنسيان كل قبيح كان يطفو على مخيلة أحدنا و علق بذهنه، أو لمشاهدة أفلام أو مباريات رياضية، هاته الأخيرة وصلت بي إلى درجة الموت حيث أنني أصبحت لا أقوى على الحركة بخصوص المقابلة التي جمعت منتخبنا الوطني ونظيره من الزايير القديمة بمناسبة إقصائيات كأس إفريقيا للأمم حيث أن أنفتي أرغمتني على الخروج لغياب تلفزة المؤسسة و التي استولى عليها المدير لصالحه. أما بخصوص النهار فإن لم تكن لنا التزامات دراسية صباحا يمنعونا من البقاء داخل المؤسسة ويرغموننا على الخروج و لو أن الثلوج أصبحت جبالا أو أن الأمطار تحولت إلى فيضانات، وحتى تلك اللحظة يصبح المسؤولون "المقتدرون" خائفين على سرقة الحاضر لأخيه الغائب، هي مجرد دعايات وتخاريف وأراجيف. كل يوم أحد كنا نغادر المؤسسة نهارا إلى الغابة حيث العيون المتدفقة وبعض أشجار السنديان التي ناطحت السماء والخنازير المتوحشة التي تطاردنا فنفر هربا لنتسلق أغصان أشجار البلوط ونلتجأ إلى بحيرة كبيرة تحيط بها أشجار الكاليتوس والريحان فنخلع ملابسنا ونرتمي جميعا تحت مياه باردة، نجلس لحظات طويلة ننسى من خلالها كوابيس ومعاناة ورتابة الدراسة إلا أن ذلك اليوم لا يدوم طويلا، و حدث أن جرت المياه بما لا تشتهي السفن فصعدت وسط البحيرة صخرة كبيرة كانت بداية لانطلاق تساقط الحجارة علينا، دوى أول انفجار وجدت نفسي أسبح رفقة زملائي دون علم بما حدث حتى استرجاعي لوعيي "الشقي"، خرجت من البحيرة و الدم يلونني بخيوطه الحمراء، جلست تحت شجرة وارفة الظلال حتى هدأ الألم و ارتديت ملابسي وتابعت الطريق إلى القرية.