عالم الأدب المعاصر، وتحديدا أدب الأطفال، "يحبس أنفاسه" اليوم في انتظار "الورود الإنكليزية"، الجزء الأول من سلسلة كتبٍ للأطفال تحمل توقيع نجمة البوب الأميركية مادونا، وهو عمل من المقرّر أن يصدر في الخامس عشر من ايلول ب42 لغة في أكثر من مئة بلد على نحو متزامن، منها تشيكيا وليتوانيا والنروج واسبانيا والصين واليونان والبرازيل وروسيا والدانمارك وتركيا وبلغاريا...الخ. حملة الإطلاق المعولمة هذه هي الأكبر والأشمل من نوعها في تاريخ قطاع النشر، خصوصا أنها من المرات النادرة التي تجتمع فيها دور نشر بارزة من جميع أنحاء العالم وتتحد ضمن إطار مشروع مشترك. والكتاب بحسب ناشره قصّة عن الصداقة والبراءة والعائلة والقيم الانسانية، ويُحكى منذ الآن عن حساسية مادونا العالية ككاتبة وعن تميّز موهبتها وسحر اسلوبها وعمق افكارها، كما يُحكى ايضا وخصوصا عن شغفها بالأدب الذي يرافقها منذ الصغر. نحن طبعا لا نريد أن نغمط مادونا احتمال أن تكون كل ذلك واكثر، ولكن من الطبيعي أن نستغرب عدم ظهور علامات هذا "الشغف بالأدب" على النجمة وأحاديثها من قبل. وبغض النظر عن معرفتنا بأن وراء مشروع كهذا آلة تسويقية ضخمة تسعى الى الاستفادة من اسم مادونا، وبأن الجامع المشترك الذي وحّد دور النشر العالمية العريقة تلك ليس رسالة الأدب النبيلة بل دعوة العملة الخضراء التي لا تُردّ، وبأن المغنية "الحديثة الثقافة" لم تكتب على الارجح سطرا واحدا من القصة بل هي اوكلت الامر، على غرار سواها من المشاهير، الى ظلالٍ مجهولة الهوية... بغض النظر عن كل ما سبق، لا يسعنا إلا ان نتساءل: كيف يمكن نجمة كمادونا، لطالما كانت عنوان الاثارة والاستفزاز ورمز الانحلال بامتياز، مادونا التي أبرأ ما فيها، بحسب كلامها على نفسها، "الفاصل بين جلدها وظفرها"، مادونا المنتهِكة عن سابق تصوّر وتصميم قيما لا تُعدّ في مناسبات لا تحصى، كيف يمكن مادونا كهذه أن "تبيع" نفسها الى جمهور الاطفال وأن تخاطب هذا الجمهور وتقنعه؟قد يتبادر الى بعض الأذهان للوهلة الاولى ان أمومة النجمة ربما "غيّرتها" وقلبت مواقفها وانعكست على تصرّفاتها. ولكن سرعان ما تتبدد غيوم هذا التفسير عندما نراقب مادونا، عشية اطلاق الكتاب الشهير، في حفل موسيقي ضخم أقامته أخيرا مع كلّ من المغنيتين الشابتين بريتني سبيرز وكريستينا اغويليرا: فجل ما يمكن قوله هو إن القبلات الساخنة التي تبادلتها النجمة مع "تلميذتيها الشاطرتين" أثناء الحفل هي ابعد ما تكون عن عالم كتابها ذي البراءة المفترضة، أو على الأصح الإفتراضية. ونردّد، لسنا هنا في صدد اصدار حكم قيمة على اخلاقيات مادونا، ولا نحن نبغي الاعتداء على شروط حريتها الشخصية وعلى حقّها في أن تحيا انفصام شخصيتها بالطول والعرض، لكننا نشير ببساطة الى الهوة العميقة التي تفصل بين حقيقة الكاتبة ومضمون كتابها، متسائلين عن انعكاسات هذا التناقض على القراء الصغار وعلى طريقة تلقّيهم القصّة واستيعابهم حكمتها. بعيدا عن المشاهير وصرعاتهم، تحيلنا "قفشة" مادونا الأخيرة هذه، وإن على نحو غير مباشر، الى مسألة الشبه بين الأدباء وذريتهم، أعني كتبهم. فهناك كتّاب يشبهون أعمالهم الى مدى بعيد، ونذكر منهم على سبيل المثال الماركيز دو ساد الذي لم يكن يقلّ "سادية" وهلوسة في حياته عن شخصياته وكلماته وتخيّلاته المجنونة. نذكر أيضا الكاتب الروماني اميل ميشال سيوران الذي كان متعاطفا مع النازية ويكره الشيوعية الى اقصى الحدود، والذي لطالما عبّر كذلك عن مواقف مناهضة للديموقراطية. وقد كانت هذه النزعات العنفية والعدائية والسوداوية واضحة في كتابات سيوران كما في سلوكه وخطابه، وهو صاحب جمل شهيرة على غرار: "من لا يتحالف مع الشيطان لا معنى لحياته"، أو "التدمير هو المهمة الوحيدة التي يجب ان يمارسها الانسان" وأيضا "رؤيتي عن المستقبل واضحة حدّ أنه لو كان لي أبناء لخنقتهم على الفور". أما الكاتب الفرنسي سيلين والشاعر الاميركي عزرا باوند، فكانا لا يقلان عن سيوران قسوة وتطرّفا، شفهيا وكتابيا على السواء، وهما المتعاطفان مع الفاشية والمناهضان للسامية. ويمكن ايضا ان ندرج في هذا الاطار، وإن في الموقع المقابل، مثل الروائي والشاعر الفرنسي جان جينيه، الذي سجن مرارا بتهم التزوير والسرقة، وذهب حدّ كتابة رواية تحت عنوان "يوميات سارق"، وقد توسط كوكتو وسارتر لإطلاق سراحه. كان جينيه إنسانا متمردا وغير امتثالي، وقد عبّر عن عصيانه القدري هذا في كتبه التي تخيّل قسما كبيرا منها في السجن، كما في حياته الحافلة بالمشاركة في حركات ثورية وباتخاذ مواقف مثيرة للجدل، اذ انضم مثلا الى حركة "النمور السود" في اميركا، وكان حاضرا في بيروت أثناء مذبحة صبرا وشاتيلا، فكتب يومذاك أحد أبرز نصوصه السياسية تحت عنوان "4 ساعات في شاتيلا". يمكننا ايضا، قبل جينيه، ان نتذكر الشاعر الفرنسي من القرون الوسطى فرنسوا فيللون الذي كان خارجا على القانون، بل أكاد أقول مجرما تحوم حوله ظلال كثيرة. قتل فيللون مثلا أحد الكهنة اثناء شجار عام 1455، وقام بسرقات كثيرة كان يرفد ارتكابها بكتابة القصائد. وجدير بالذكر ان بودلير وفرلين وغيرهما كثر من كبار الشعراء الفرنسيين عبّروا عن افتتانهم بقصائد فيللون، رغم صورته الاسطورية كشاعر شقيّ، او ربما بسببها. هذا عن الذين تشبه صورتهم المكتوبة صورتهم "الشفهية". ولكن، ماذا عن اولئك الذين تكشف لنا حياتهم وجها مخيفا، أو لنقل مختلفا، يتعارض مع ادبهم الى حد غير قابل للتفسير؟ فصحيح أن التماثل والتناغم بين الكاتب والكتاب ليس شرطا بالتأكيد- لا بل قد يكون الاختلاف، على العكس من ذلك تماما، دليل غنى وتعدّد داخليين يتخطّى بواسطتهما الكاتب صورته الخارجية ويتجاوز حقيقته "السطحية" أو الاعلامية الضيقة- ولكن ثمة بعض الأسماء التي لا نستطيع نحن القرّاء إلا أن نشعر، عند انكشاف سرّها وانقشاع هالتها ، ب"الغبن" و"الخداع". لنأخذ مثلا الشاعر الفرنسي أراغون: من منّا لا يعرف "عينا إلسا" و"مجنون إلسا" وغيرها الكثير الكثير من الكتب والقصائد التي تغنّى فيها أراغون بحبيبته وزوجته إلسا تريولي، حتى بات شعره "كليشيه" عن الحب بين رجل وامرأة؟ فكيف يمكن القارىء إزاء كل هذا الحب ألا يشعر بالغرابة عندما يكتشف ما يقال عن ان اراغون كان في الحقيقة مثليا؟ لا نقول ذلك من باب الغمز أو النقد أو إصدار الأحكام، ولا أيضا من باب التشكيك في حب أراغون لإلسا رغم مثليته. ولكن، لا مفرّ من ان "ينجرح" رمز الحب المطلق هذا جراء اكتشاف مماثل، خصوصا اذا ما كان هذا الكلام مقرونا بما كتبته إلسا نفسها عن وحدتها القاتلة وتعاستها ومعاناتها. (وفي الحديث عن صورة إلسا الحقيقية وصورتها المتخيّلة من جانب الشاعر أراغون، نورد استطرادا، وإن كان في إطار مختلف، مثال الرسام سلفادور دالي مع زوجته غالا، التي كانت قبله زوجة الشاعر بول ايلوار وعشيقة الرسام ماكس ارنست. فطوال حياته وفي كل كتاباته، لم يكف دالي عن تمجيد هذه المرأة التي وصفها بالمنقذة الرائعة وأحبّها حتى الجنون. إلا أن الدلائل تشير الى أن الحقيقة كانت مختلفة تماما، فوراء صورة الحب المثالي هذا، المكتوب والمرسوم بقلم دالي وريشته، كانت غالا امرأة جشعة وانانية وعنيفة استغلت الفنان ما استطاعت وخانته حتى الثمالة). نحب ان نتذكر ايضا قضية الشاعر البريطاني تيد هيوز الذي كان متزوجا بالشاعرة الاميركية سيلفيا بلاث، والذي كتب عام 1962 قصيدة حب مهداة الى زوجته تتمحور حول حبّه وإخلاصه لها، قبل أن تكشف الوقائع اللاحقة انه كان في المرحلة نفسها يقيم علاقة مع امرأة اخرى هي آسيا ويفيل. وماذا عن سيلفيو داميلتشو، احد شعراء الرومنطيقية الايطاليين، الذي لم تخلُ قصيدة واحدة من قصائده من مشاعر الحب والحنين، والذي وجد مذنبا في ما بعد، بأدلة قاطعة، بتهمة اغتصاب قاصرين. فكيف يمكن ان نقرأ شعر هذا الرجل من دون ان نتخيل مشهد جريمته الفظيعة؟ حدّث ولا حرج ايضا عن الشاعر الأميركي تشارلز شيبارد الذي يعكس شعره روحا أرهف من ورقة خريف نائمة في ظل شجرة، والذي كان تاجر مخدرات دمّر حياة شباب كثيرين. ولا يحتكر الغربيّون في الواقع إرث الازدواجية هذا، فكم سمعنا نحن العرب عن ذاك الشاعر الذي عشقنا رقة قصائده ولكنه كان يضرب زوجته بعنف مرعب، وعن آخر أو آخرين حملوا السلاح ايام الحرب ولم يترددوا في قتل أشخاص بسبب اختلاف عقيدتهم السياسية او الدينية؟ حكي الكثير عن حياة الكاتب الخاصة وعن حق القارىء في محاسبة هذا على نصّه فقط، من دون التلصص على كواليسه. ولكن، ماذا لو لم نكن في صدد "المحاسبة"، بل "التأثر" رغما عنا بمعرفة هذه الواقعة أو تلك عن شخصية شاعر او روائي نحبّه؟ فبين من يؤكدون ان الأدب كذبة جميلة، واولئك القائلين بأن الكاتب حاضر في كل أعماله لا محالة مهما كانت هذه متخيَّلة، نتساءل أيهما افظع: أن يكون الكاتب أبشع من كتاباته، أم اجمل منها؟ في الحالين خيانة: هنا كاتب يخون قارئه، وهناك كاتب تخونه موهبته. في الحالين خسارة أيضا: الأولى خسارة على مستوى الإنسان، والثانية خسارة على مستوى الأدب. فأي الخسارتين أفدح يا ترى؟ النهار