المقبرة التي أتحدث عنها ليست كباقي المقابر. فالقبور فيها ليست مبنية ومطلية بالجير ولا تعلو رؤوسها شواهد. إنها عبارة عن أكوام من التراب لا تلبث أن تستوي مع الأرض بفعل المطر، فإذا هي رموس يكسوها القُرّاص . ومع ذلك فقد كانت ذات رهبة خاصة، لا تجهلها حتى الكلاب الضالة التي لم تجرؤ قط على دخولها أو حتى النباح بجوارها، وهي رهبة يعرف عنها أهل المنطقة حكايات لن تمحوها جرافة النسيان. كانت المدينة تزحف باتجاه المقبرة، فالهكتارات تتحول إلى أمتار مربعة، والفضاء إلى أمتار مكعبة، بينما الحشائش والقبرات والأشجار والثغاء وجرار الماء... تترك مكانها، متراً فمتراً، لعائلة الإسمنت التي لشجرتها جذور من حديد. كانت الجرافة تزمجر في وجه المكان، وكانت أسنانها العملاقة تنغرز في لحم الأرض فترديه غباراً. وحين جاء دور المقبرة كان أهل الموتى قد تحلقوا حولها لا يملكون سوى قلوبهم لتغيير هكذا منكر. القراص والتراب فالأحجار والرفات وسط ذهول الجميع. الجرافة تتلو رسالة المحو والناس يتمتمون بعض الآيات والأدعية. الجرافة تغتصب المكان. الجرافة تفتض الموتى. الجرافة تقتلع الموت وتكومه بعيدا. فالجرافة تتوقف فجأة . يشغلها السائق فتأبى. ثم يحاول فتأبى. الجرافة لا تتحرك قيد عظم. ثم بدأ الهمس يسري. أكثر من حكاية كانت تجري على الألسنة. ولعل أكثرها تداولا تلك التي تقول بوجود أحد أولياء الله بالمقبرة، ولابد أن الجرافة تعطلت عند رفاته. وتوقفت الأشغال. وبدل الجرافة جاء رجال محترمون بسيارات محترمة وأجهزة لا تزمجر. ذهب هؤلاء وجاء آخرون. وصارت للناس حكايات غريبة عن المكان، يتداولونها بينهم في خشوع واضح: الغرانيت ، الجيولوجيا، البازالت... وكلمات أخرى لا يذكرونها وربما كانت صعبة النطق . ... ... وفي رواية أخرى أن الجرافة تعطلت عند ذلك القبر وقد بدأ ينزف دما، والله أعلم.