في بداية التسعينيات، دخلت فتاة ضئيلة بملامح عربية إلى قاعة اجتماع يضمّ مسؤولين سياسيين. تفحّصتها الأعين كما لو كانت قادمة من كوكب آخر أحد البرلمانيّين سألها إن كانت هنا لإعداد القهوة. لكنّ الشابة لم تكن إلا المستشارة القانونية لوزير الثقافة البلجيكي الأسبق، إيريك توما، واسمها فضيلة لعنان. بعد زهاء عقدين وقفت فضيلة لعنان تدافع عن أولويات الرئاسة البلجيكية الدورية لأوروبا أمام لجنة الثقافة والإعلام في البرلمان الأوروبي. لم تتغيّر كثيراً، فهي لا تزال نحيلة ولم تتحوّل إلى شقراء، ورغم ذلك لم يُنكِرها أحد. بل كان الجميع في انتظار المرأة التي سترأس، على امتداد ستّة أشهر، «مجلس وزراء الثقافة والإعلام» في الاتحاد الأوروبي.فما حكاية هذه السندريلا المغربية التي لم تحتج قطّ إلى حذاء ملكي ولا إلى صدفة ذهبية تضعها في طريق أمير الأحلام؟ «حكايتي بدأت معهما»، تجيب فضيلة. الضمير يعود إلى والديها، تلايتماس وبوزيان، المنحدرين من قرية «بني سيدال» الأمازيغية في منطقة الرّيف شمال المغرب. هاجرا إلى بلجيكا في بداية الستينيات لجمع بعض المال قبل العودة إلى بلدتهما الهادئة جنوب المتوسط. لكن بعد أربعة عقود من الاغتراب، أنجبا خلالها ثلاثة أبناء وأربع بنات، تحوّلت عودتهما إلى أمر شبه مستحيل. مستحيلٌ له طعم الحلم، خصوصاً بعدما تقلّدت فضيلة منصب وزيرة الثقافة والإعلام، و«أصبحت أحداً» كما كانت تُمنّيها والدتها وهي تحثّها على الاجتهاد في المدرسة. «والداي شجّعاني كثيراً على الدراسة، لكي أُفلِت من الظروف الصعبة التي عاشاها كمهاجرين. ولكي أوفّر المال اللازم لذلك، اشتغلتُ بائعةً ونادلةً وعاملة تنظيف. كانت تجربة مهمة تعلّمت خلالها احترام كل المهن، وعرفت خلالها مذاق الجهد وقيمة المال»، تقول باعتزاز. في الثامنة عشرة من عمرها، انخرطت فضيلة في صفوف جمعية «شبيبة مغاربية»، التي سترأسها بعد ذلك، مسارِعةً إلى طلب الجنسية البلجيكية. «كان همّي حينها أن يكون لي حقّ التصويت». حالما أنهت دراستها الجامعية التحقت بالنضال السياسي. «كنتُ مقتنعة بأنّ السياسة وحدها تستطيع تحريك الأشياء». تحرّكت الأشياء فعلاً تحرّكاً لم تتوقّعه حتى فضيلة لعنان نفسها. فهي امرأة أولاً، ومن أصل مهاجر ثانياً، وفي مقتبل حياتها السياسية ثالثاً. كلّها نقاط كانت ستلعب في غير مصلحتها. لكنّ إصرارها، وثقتها بجدوى الفعل السياسي، وإحساسها العالي بالمواطنة جعلتها كلّها تُحوّل ما يفترضه بعضهم نقاط ضعف إلى عناصر قوة. عملت مستشارة في ديوانين وزاريين للثقافة، ثمّ مستشارة في المجلس الأعلى للإعلام قبل أن تصبح عام 2004 أول امرأة من أصول عربيّة إسلامية تُعيّن وزيرةً للثقافة في بلد غربي ذي ثقافة مسيحيّة. صحافيون فرنسيّون أكّدوا حينها أنّ هذا التعيين مستبعد تماماً في «بلاد الأنوار»، هناك حيث الثقافة والجمهورية سيّان. كما أنّ بعض الأصوات هنا في بلجيكا حذّرت من خطر تعيين امرأة من أصول عربية إسلامية وزيرةً للثقافة. فالثقافة هي التراث والتاريخ. فضيلة تجيب بهدوء: «أعتقد أنّ هذا التراث هو تراثي أيضاً. فقد ولدتُ في بروكسل، وتاريخي موجود هنا. ببساطة أنا لديّ شيء إضافي. وهذا الثراء الثقافي والغنى في الانتماء هو ما يجعلني أنظر إلى قضايا الجالية المغاربية مثلاً بعين أخرى، وبإحساس أكبر. أنا أعرف صعوباتها ومشاكلها من دون أن أكون بالضرورة حاملة للوائها. فأنا لست وزيرة المغاربة، أنا وزيرة كل الفرنكوفونيّين في بلجيكا». بعد ستة أعوام على التعيين الأول لفضيلة لعنان في هذا المنصب الذي تقلّدته للمرة الثانية على التوالي في 2009، تعيش الوزيرة البلجيكية الآن مغامرة جديدة بعد تنصيبها ممثلةً لقطاع الثقافة والإعلام، ليس في المنطقة الفرنكوفونية وحدها، بل في بلجيكا ككلّ. بلجيكا التي يتحدث أكثر من نصف سكانها اللغة الهولندية. فهي تتولّى اليوم إدارة أعمال المجلس الوزاري الأوروبي، المكوّن من نظرائها وزراء الثقافة والإعلام الأوروبيّين. ومع تسلّم بلجيكا الرئاسة الأوروبية، تجد فضيلة نفسها على رأس قطاع الثقافة والإعلام في الاتحاد الأوروبي حتى نهاية العام الحالي. حيث سترأس بنت «بني سيدال» اجتماعات وزارية قد تمرّ دون اهتمام إعلامي، ف«الثقافة والإعلام ليسا من القطاعات التي يسلَّط عليها الضوء، وخصوصاً في سياق الأزمة الاقتصادية الراهنة. لكن، هذا لن يمنعنا من تحمّل مسؤولية الرئاسة بقناعة تامة، وبكثير من التواضع والعزم»، تقول. حين نسألها عمّا ستقدّمه من جديد خلال فترة الرئاسة البلجيكية، تقول إنّ «الرئاسة لن تعيد اختراع كلّ شيء... لقد أخذنا في الاعتبار الأجندة الدائمة خلال إعداد برنامجنا. وأولوياتنا تراعي عمل شركائنا، وخصوصاً الإسبان، الذين سبقونا، والمجرّيين الذين سيتسلّمون منّا المشعل في آخر السنة». لكن فضيلة لم تكن لتدخل هذه الرئاسة من دون جدول أولويات، تؤكّد من خلاله ارتباطها بأصولها وبقضاياها الأثيرة. فقد جعلت على قائمة عملها هماً رئيسياً وهو دمج البعد الثقافي في السياسات الوطنية والأوروبية لمكافحة الفقر والإقصاء الاجتماعي. كأنّ فضيلة التي خبرت الفقر والإقصاء تريد أن تعطي للثقافة معنى الأمل. الأمل الذي يجعل هذه السيدة، وهي أمّ لطفلين مَكِّي ومينة تؤمن بضرورة كسب رهان المواطنة. رهان تبقى الثقافة أحد مداخله الأكثر حيويةً: «الثقافة في رأيي مرادف للتعدّد. وعلى كل الأقليات أن تجد نفسها في إطار السياسات الثقافية المعتمدة... لا أريد ثقافة للنخبة وأخرى للمبتدئين». منذ تنصيبها أول مرّة وزيرةً للثقافة، صارت فضيلة لعنان جزءاً من المشهد السياسي في بلجيكا الفرنكوفونية. النساء من أصل عربي ينظرن إليها كمرجع إيجابي في إطار نضالهن من أجل مواطنة كاملة. وفي انتظار حصيلة الرئاسة البلجيكية حيث تدير شؤون الثقافة الكبرى للاتحاد الأوروبي، تظل هذه «الماروكسيلواز» (مغربيّة بروكسل) مخلصةً لاختياراتها الثقافية الخاصة، هي التي تعشق المغنية البلجيكية موران تماماً كما تعشق فنّ.