تطرح الوثائق المنشورة في موقع ويكيليكس ، ومن خلالها باقي وسائل الإعلام المكتوبة أو السمعية البصرية او الالكترونية تساؤلات على أصعدة و مستويات مختلفة إعلامية و سوسيولوجية و فلسفية و سياسية.فعلى صعيد الممارسة الصحافية المهنية،تظهر أهمية إعادة النظر في النماذج المعرفية المتحكمة في مفاهيم الخبر و الحدث و الآنية و مصدر الخبر و علاقة الصحافي بالمصدر و حدود العلاقة بين الصحافي و مصادره و بين التحرير المهني و نشر وثائق "خام" ذات صبغة إدارية أو أمنية أو شخصية. كما تبرز ضرورة الانتباه للالتباسات و التداخلات بين الإعلام و الاتصال ؛ بين تقديم أو نشر معلومات جديدة و ذات ملاءمة خاصة بالسياق أو تخلخل الواقع و إدراكه ،و بين الاتصال الذي يلجا إليه الساسة و المسؤولون لتشييد صورتهم و تسويق أنشطتهم وأفعالهم السياسية.و تشكل سطوة العلاقات العامة و تحكمها في العمل الصحافي من المشكلات المهنية و المعرفية التي عرت عنها ويكيليكس بشكل لافت، حيث يذهب الإعلام ضحية التغليط أو التسخير لخدمة مصالح الساسة ، مقابل إخفاء الحقائق و تداولها على نطاق ضيق بين الدبلوماسيين و قادة الدول.. و هذا ما يطرح سؤال تجديد مشروعية وجود الصحافيين و العمل الصحافي في ظل العولمة و فورة المعلومات و التهافت على الفرجوي و الفضائحي و المثير.كما تبرز مسؤولية الصحافيين في الإخبار الحقيقي للجمهور، بدل ترديد التصريحات و البيانات و البلاغات الصحافية المكتوبة على المقاس. إن الانفجار الرقمي الذي قلص من السلطة الإعلامية للصحافي و أتاح إمكانيات الفضح و "الإخبار" للجميع و كيفما اتفق أحيانا، يفرض على مهنيي الإعلام طرح أسئلة الوضع الاعتباري للصحافة المهنية و للصحافي المهني في عصر العولمة و أمام تحديات تكنولوجيات الإعلام و الاتصال و ظواهرها السلوكية و الاتصالية المتعددة و غير المضبوطة أحيانا.في هذا السياق، يتم نشر وثائق إدارية و دبلوماسية بمثابة تقارير و محاضر اجتماعات حررها دبلوماسيون لصالح بلدهم. من ثمة، فان نشر" المواد الخام" التي تتيحها الثورة التكنولوجية الرقمية يستدعي الوقوف على أشكال تجديد العمل الصحافي و سبل إعادة صياغة و تطوير الكفايات المهنية الصحافية التي لا تتوفر بالضرورة عند ناشري أي وثيقة أو مادة مكتوبة أو سمعية بصرية، بدل أن تكون مجرد مصدر من مصادر أخرى... لقد أصبحت المواقع الالكترونية( مواقع جديدة أو مواقع وسائل الإعلام التقليدية) هي الأكثر استقطابا للزوار و المتصفحين لموادها المتعددة( مقروءة، سمعية، سمعية بصرية..)، ناهيك عن إتاحتها الفرصة للنقاش و التعليق. و ما تدني نسب مشاهدة النشرات الإخبارية مقابل ارتفاع عدد من يجعلون الانترنت وسيلتهم الأولى للاطلاع على الأخبار إلا دليل على بزوغ فجر الإعلام الالكتروني و تتويجه سيدا في القرن الحادي و العشرين.و هذا ما يفرض التفكير الجماعي في ضوابط مهنية تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الوسيط الجديد وتغيير علاقة المجتمعات العالمية بوسائط الاتصال خاصة و بالاتصال عامة، لا سيما في ظل ما يسمى بمجتمع المعلومات العالمي. بناء على ما تقدم، يمكن اعتبار ظاهرة ويكيليكس من صميم ظواهر المجتمع ما بعد الحداثي الذي تكسرت فيه الحدود بين المهني و العمومي ، بين السري و العلني، بين الشخصي و العام، بين الأخلاقي و غير الأخلاقي .انه مجتمع يروم الشفافية المطلقة و الاتصال المطلق الذي تتكسر فيه ضوابط التمييز المعتادة بين الباث و المتلقي والرسالة/الإرسالية و تتضحم فيه أشكال الانفلات من جميع السلطات و القواعد.لكن، ألا يشكل النشر المعمم لكل شيء احد أكثر الأشكال خبثا و مكرا لإخفاء و طمس حقائق أخرى؟.بالتأكيد، سيكشف التاريخ عن حقائق و وقائع و تصريحات لم ترد في ويكيليكس أو من في حكمه.إن غدا لناظره لقريب.