ثم قالت: «أخيرا.. أيُّها اللَّوحُ.. أيَّتها الدَّواةُ.. يا رفاق الصبا الجميل..». حَمَلْتُهما في كيس وضعتُه على كتفي وانطلقتُ أطوي المسافات إلى "مْسيد" الطفولة البعيد.. داعبتْ خاطري بشاشةُ وجهِ سيدي الفقيه وهو يُبصِرني عائدة إليه بعد زمن الفراق العصيب.. تبادر -مع هذه الخاطرة- سؤال إلى ذهني: «هل سيفرح لرؤيتي؟.. لعلّه ما يزال على عهدي به.. حازماً.. مُنصتا لهذا.. مُصَحِّحاً للَوْح ذَاكَ.. ثَانِيَ الرُّكبتَيْن.. مُحْمَرَّ الوَجْنَتَيْنِ.. تَتَحَرَّكُ لِحْيَتُهُ في هزات خفيفات، مُخْبِرةً أنُّه يتلو ما يُعالجُهُ قلمهُ بالتَّصحيح.. ثم تخمدُ حركتُها فَيْنَةً لتدفعَ صبيَّ اللوح إلى مطالعة سببِ سُكونِها -لِحْيَتُهُ- في عَيْنَيْ سيدي الفقيه، فيجدهما على المعتاد في كل مرّة.. مُغْرَوْرَقَتَيْنِ بالدمع.. لقد وجدَ هذا المُرَبِّي في اللَّوح ما أبكاه من جديد.. ثم تنطلقُ مشاعر الدهشة والفضول بالصبيِّ إلى حمْل لَوْحِهِ والانْزِوَاءِ به في مكانٍ من المسيد لمعانقة ذلك المستوى من خشوع سيدي الفقيه.. آه يا هذا الرجل الوقور.. لقد صنع فيك هذا القرآن الشيء الكثير!! ماذا لو علمتَ أن كتابَ ربِّنا العظيمِ هذا.. قد تجرّأ عليه اليوم خلقٌ كثير!! فهومٌ تقودها الأهواء، حامتْ حوله حوم البعوض على مشكاة النور.. كلّما اقتربتْ احترقتْ، فلم يكد تَلاشِيها رَمَاداً، يكون نذيراً لِباقي السِّرْبِ اللعين.. إلا رحمة ربَّانية تنتشل الغافل منها كومض البريق.. ثم يُكمِلُ الأخير- بعدها- ما كُتب له من حرقٍ في خلال الطريق.. وأنت يا سيدي الفقيه.. كنت دائما أنت أنت.. في كل سنة.. في كل شهر.. في كل يوم.. تبكي مع الحزب والربع والثمن والآي والتحقيق والترتيل والتدوير والحدر..». لا أدري.. هل هذا الذي بي شوقٌ إلى مطالعةِ صفحةِ وجهك المُشرق بذلك النور الذي نتذوقه نحن الذين نتشرب من نفس الفيض.. أم أنّ ما بي هو، شوقٌ إلى عينِ ذاتِ الفيض؟!". وقفتُ بباب باحةِ بيتِهِ، فاستقبلني تهليلُ زوجته وترحيبها: «أهلا.. بابنة المدينة.. لقد تغيَّرت كثيرا!! – هو لَسْعُ هواءِ المدينة البغيضُ يا خالة..». ارتميتُ في أحضانها التي لطالما احْتَوَتْنِي في طفولتي وداعبتني في إقبالي وإدباري.. ثم سرحتُ بعيني من خلف ظهرها، باحثة عن سيدي الفقيه. لا بُدَّ أنْ أكون أوَّلَ من تُخبِرُه بعودتي.. مشتاقةٌ أنا إلى مطالعةِ وجهه المهلل لرؤيتي.. لماذا بدتْ هذه الثواني المعدودات طويلة ممتدة على غير عادتها.. لم أُطق صبرا فصرختُ: لقد عدتُ يا سيدي.. أنا هنا من جديد!! لم أكدْ أُكْمِلُ جُملتي حتَّى طَالَعَتْنِي إطلالتُهُ البَهِيَّةُ من باب البيت.. آهٍ.. كم تمنيتُ أن أضعَ نفسي بين ذراعيه هو الآخر.. لأستنشق منهما عبير القرآن الجميل.. وأبكي بكاء تلك الطفلة الصغيرة التي كانت دائما تجد مع البكاء، سهلا يسيرا كل عسير.. لكنّ.. وجهَهُ كان ناطقا بغير ما رسمتُه في خيالي، من علامات البشرى والترحيب.. بدا شاحبا مضطربا.. يا إلهي.. لقد ذكّرني حالُه هذا، بتلك الرَّهبة التي كانت تَعْتَرِيهِ عندما يَتَنَاثَرُ الغُبَارُ في السماء ويُدَوِّي "الشّرقي" في الأجواء.. فيكون يومنا في المسيد كأنّا على موعدٍ مع إنفاذ ما أنذرَ به الإله من وعيد.. وأحسَسْتُنِي -في هذا الاستقبال- كمن بات ليله يُعِدُّ لحفلةِ لقاءِ غائبٍ فانقلبتْ عزاء.. غُصَّةٌ في حلقي منعتْ عَنّي الاستعجالَ بالسؤال.. أو لعلَّه الخوف من أن يكون في الجواب ما قد يجمع عليَّ وَعْثَاءَ السَّفَرِ وأحزان ما فررتُ منه من ألوان الكدر.. فأُصبحُ على إثره -حِملُ الجواب من الإخبار- جسدا أضناه وهن على وهن!!.. – السلام عليك ورحمة الله وبركاته.. مرحبا بعودتك.. يا إله السماوات.. ما هذا السلام البارد المنفصل عن حرارة الإيمان باسم الإله المنطوق.. ما كان هذا مألوفا في ترحاب هذا الناطق الخَلوق.. لكن تبقى – رغم هذا الانفصال- رحمة الديان الذي شاء لاسمه "السلام" أن يقطع على الشيطان سبيل النفث بين المسلمين المبتدئين بالتسليم ، بارزةً في هذا المقام.. لك الحمد يا رحمن.. اللهم لك الحمد يا من أنت السلام.. تقدَّمَني صامتاً إلى حيث مقعده القديم.. تحتَ ظِلِّ شَجَرَةِ التِّينِ الظَّلِيلِ.. على الأرض الاسمنتية، جلسنا نفترش -لكلِّ منّا- إهابا مدبوغا في صمت رهيب.. طأطأتُ ناظرةً إلى الأرض يَفْْتَرِسُ فُؤَادِي الأَلَمُ والشّكّ والحيرة وبعض مُرادفاتها ولاحقاتها.. بينما شيطاني وكأنَّه أُخزِي عن صبَّ زيتِِه على نيرانِ ما يعتملُ في نفسي.. فلم أجد في فكري أيَّ وَقْعٍ لذلك النَّسج الذي اعتادَ -الشيطان- أن يعقِدَه على قلوبِ الحائرين إيقادا منه لفتيل الوسواس والرهبة التي تتجلى في فؤادهم -¬ على إثر ذلك – كالصنم المعبود.. فانتظرتُ مشلولة التفكير.. من ادَّعى عليكم بأنَّ الصمت سكونٌ.. فعُدُّوهُ فيكم رجلا أخرقا قد اعتراه الجنون.. والله ما الصمت إلا نار ملتهبة لا تستكين حتى يموت الفؤاد عما قُدِّرَ له في هذه الحياة من حياة.. هو نار قد تحرق وقد تنير.. إنّ ما بين صمت الواقف خلف باب غرفة العمليات.. منتظرا حبيبا له يتمدد -في الدّاخل- على سرير كميت من تأثير التخدير.. مستسلما لأدوات تعمل فيه ما بين قطع ومخيط يخيط.. وبين صمت المتفكر في ملكوت ربه العليم الخبير.. محلقا فيها بقلب ولسان يلهجان بالتسبيح.. كما بَيْنَ نَارِ الشَّكِّ وَبَرَدِ اليَقِينِ.. بُرْهَةٌ وانْقَطَعَ صَمْتُ سيدي الفقيه بصوتٍ يُشْبِهُ حَشْرَجَةَ الحزين: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ۗ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾. أغمضتُ عَيْنَيَّ واستسلمتُ للنور لعلُّه يلجُ فؤادي فيمسح عنه ما توالى عليه من مفعول إلحاق الذنب بالذنب حتى كان-تحت هذا الركام- هزيلا ضعيفا يصدحُ فيه أنينٌ كأنّه صرير السيف الكليل.. تلوتُ يَعْتَريني خجلُ الغائبِ من غير سببٍ والعائدِ بلوعةٍ ورهبٍ.. قرأتُ، فوجدتُ كل آيةٍ من الآي تُعَاتِبُنِي.. تعثَّرْتُ مُتَوَجِّسَةً جفاءَها، وهي لا تفعل.. غصتُ فيها كمن يعرف تفاصيل الطريق ويخشى من معاني تلكم التفاصيل.. ثم.. اعتراني إحساس عارم.. للحديث بقية إن شاء الله تعالى.