أخذتُ منه اللّوح بعد أن صحّح الرّبع من الحزب الذي أملاه عليّ.. ثم استويتُ في زاويتي المعهودة من المسيد.. نظرتُ إلى لوحي بعينين غارقتين في التفكير.. تتجوّلان بين الحروف فقط لتمرّ الآيات عبر فمي مرورا عارضاً يذوب بسرعة إذ لم يجد له مكانا للاستقرار.. سرح ذهني بعيداً جدّاً.. بعيدا إلى حيث وجودُ الأرواحِ في عالمٍ مليءٍ بالضّوضاء.. أخبار جُلُّها مكذوب.. ومحلّها من القلب مهزوز.. وقراءتها كأنها فرض مفروض.. ماذا سأكتبُ لهم اليوم؟! تساءلتُ.. ثمّ غاب الذهن في جبّ عميق ينظم مقالات تحمل دلالات ورسائل أحبكها حبكةَ من يُبَهرِجُ سفينته ويخشى عليها من الغرق.. فجأة.. داخل الصمت الذي أسبح فيه رغم التراتيل الكثيرة التي تُحيط بي من أفواه الطّلبة.. جاءني اسمي مُناديا به سيدي الفقيه.. تجمّد الدّم في عروقي.. حتى اكتسحتْ قشعريرة الرهبة كل جلدي.. انتفض قلبي.. واصفرّ وجهي.. يا إلهي لم أضبط الرُّبُع بعد!! حملتُ اللّوح ومشيت حبواً إليه.. وكل أمنيتي أن أتبخّر قبل الوصول.. جلستُ.. مددتُ اللّوح بيدين مُرتعدتين.. وانتظرتْ قَدَري العسير.. هممتُ بتلفّظِ الآية الأولى.. والدمع يعبث بالرؤية حتى يبدو المشهدُ أمامي مُتراقصاً غارقاً بالدّمع.. لكنّه قاطعني: حزب "ألم" يا إلهي.. ما هذا الحظ الودود.. سورة البقرة.. التي أستطيع استظهارها حتى لو غبتُ عنها سنة.. توارى الدمع.. سكنَ تسارعُ دقّات قلبي.. عادتْ العروق تستمد حيويَّتها في تناغم مع دفعات القلب من الدّمّ.. وانطلقتُ في التِّلاوة منتعشةً بادية الابتسام.. تلوتُ الحزب بعد الحزب.. مُنتشيةً مزهوَّةً أسترق النظرات إلى وجهه الذي لم يُبْدِ أي انشراحٍ لتلاوتي.. وصلتُ أواخر البقرة.. وعلى عهدي، جمعت يدي لأتلوَ ما أُوتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في معراجه المُعجز.. تلوتُ بنية الدُّعاء رجاء أن أكون فردا في صفّ أولئك الذين أدركتهم هذه الرّحمات.. أمّنَ معي عند نهاية السورة ثم قال: حسبُكِ.. أجيبيني عن سؤالي "بماذا أحسستِ خلال تلاوتك هذه؟!".. خيّم صمتٌ جافٌّ على وجهي.. ارتجفتْ شفتاي وأحسستُ انكفاء الرّيق عن حلقي.. نظرتُ نظرةَ مُثقلٍ بالخطايا يَرْجُو رحمةً تلتقطه من وسط العثرات والهفوات وضعفِ نفسٍ تمرّغت بالذنب حتى ألِفت فيه مكروهات الأمس.. آآآي.. يا ظهري.. أثقلتك سقام النفس حتى صيّرتك مُفارقا لوعظ القلب.. أيّها القلب الأليم هل هذا الأنين وليد اللحظة أم كان محجوبا عنّي بُكاؤك الحزين.. هل عليّ أن أقول لك رفقا بي أم تُراني أنا من كان عليها الرِّفق بك قبل زمنٍ من هذا الحِين.. جاءت جُملته كالسّوط: أعيدي استظهار سورة البقرة.. بسملتُ ووَلَجْتُ على وجلٍ.. كأنّي بذلك الرُّعب الأول يُصبِح بثقل الجبل القوي الدكّ.. أرعبتني الآيات بشدّة وخِفتُ خوفاً شديدا.. حسبتُ كل وعيدٍ مُقبل في ثنايا الآيات سيحكي بعضا من فعالي.. أحجمتُ.. أو لعلّه بكائي ما أعجزني عن الاسترسال.. لم يحاول حتى مواساتي.. فوضعتُ صفحة وجهي بين يديَّ وأجهشتُ وأجهشت… بعد زمنٍ.. ربَّتَ على كتِفي: ما ظنُّك بغريقٍ ظل يستنجدُ طويلا حتى اهتدى إلى قشةٍ عائمةٍ تعلّقَ بها إلى أن وصل إلى سفينة كبيرة ترسو وسط البحر برُكّابها في أمان.. لكنّه بعد أن أصبح على سطحها لاحتْ له أيادي غرقى مثله.. ما رأيك، هل من الحكمة أن يسبح إليهم وحده تاركا قشّته، ليتعلّقوا به -بدل القشّة- على يأْسِهم فيُغرِقوه معهم؟! – لا، ليس من الحكمة ولا من المنطِق حتّى!! سكتَ ناظراً إليّ.. أطرَقتُ بِعينيّ إلى الأرض.. ودمع عينّي ينسكبُ هادئا على خدّيّ.. أومأ إليَّ بالانصراف.. فوقفتُ وأنا أضمُّ لوحي إلى صدري كأنّي به قشّةُ نجاةِ ذلك الغريق أنا.. أو كأنّ القشّة هي محمول اللوح من الوعظ.. أو كأنّها ما وقر من وعظ اللّوح في الصدر.. أو كأنّها ما منه أصبح حياةً تدبُّ بين اللَّحم والعظم.. أو… لعلّها هذه الرّحمة الإلهية المبثوثةُ في كلّ تفاصيل حياتي.. تنهَّدتُ مُستديرةً إليه: هل نحن فعلا نَقسُوا على أنفسنا. – في مراحل مُتقدِّمة من الإقدام.. لا يكون للرِّحلة معنى إلا بفناء النّفس في غاياتٍ عناوينها مراتب الإيمان وزمانها تقصُر عن عَدِّهِ الأرقامُ لكنّ محطاته هي ما يُؤَجِّجُ الشوق إلى مآلاته توقاً وطلبا للنّجاة.. لكن اطمئني إنّ كلّ نفسٍ محكومةٌ بقانون الفناء، فإمّا في حقٍ فسعادةٌ وحياةٌ وإمّا في باطل فضنكٌ وشقاء..