هوية بريس – السبت 08 مارس 2014 قاعدة المصالح والمفاسد في استعمال شيخ الإسلام ابن تيمية: وإتماما للكلام في سياق بيان أوجه الفرق بين ما ذهب إليه الأخ الشيخ القباج، من توسيع دائرة قاعدة المصالح والمفاسد حتى شملت عنده جواز العمل في ولاية من مهام صاحبها وصلاحياته التشريع للناس من دون الله، بل ومطط جوانبها حتى تجاوز به الأمر الانتقال من الموازنة بين الوسائل إلى الموازنة بين المبادئ، بل وتعدى به إلى حد عد المبادئ وسائل، دون تفريق منه بين حكم الأكثرية في الإسلام الذي هو وسيلة شرعية في الترجيح عند التعارض، وهذا هو ما يصطلح عليه الفقهاء (بقول الجمهور). وبين حكم الأكثرية في الديمقراطية الذي هو مبدؤها وأساس فلسفتها. الشيء الذي جره واستدرجه إلى تسويغ الموازنة بين أنظمة تقوم على غير مبدأ العبودية لله والتلقي عنه والتحاكم له، وذلك كموازنته بين العلمانية الديمقراطية والعلمانية الديكتاتورية، في مثل نقله عن صاحب كتاب "الموازنة بين المصالح والمفاسد":(فإذا كانت العلمانية أمرا واقعا لا محالة في هذه المرحلة، ولا قدرة لنا على تطبيق النظام الإسلامي المحض، فإن العلمانية الديمقراطية أهون من العلمانية الديكتاتورية…)(1). لا بد أولا أن نطرح بعض الأسئلة على أنفسنا عند قراءة مثل هذا الكلام. ما هي وظيفة المسلم في حال عدم القدرة على تطبيق الإسلام؟ وما هو المطلوب منه فعله في هذا الحال؟ وإذا كانت العلمانية أمرا واقعا وهي ليست النظام الإسلامي كما هو مثبت فيما نقله الأخ القباج، فمعنى هذا أن العلمانية هي نظام جاهلي*، وذلك باعتبار أن الجاهلية في اصطلاحها الشرعي هي كل ما ليس بإسلام. ومن ثم فما هي وظيفة المسلم عندما تكون الجاهلية أمرا واقعا؟ هل وظيفته هي أن يدعو الناس إلى الإسلام؟ أم وظيفته هي أن ينقلهم من جاهلية أشد إلى جاهلية أخف بدعوى أخف الضررين وأقل المفسدتين؟ وعند التأمل في كلام العلماء واستعمالاتهم لقاعدة المصالح والمفاسد عند تعارض الحسنات، أو السيئات. نجد استعمالاتهم لا تتجاوز مجال اكتساب العباد في حياتهم العامة والخاصة وكل ما يتعلق بهم في سياساتهم وولاياتهم وتدبير شؤونهم وأمورهم وما يلزمهم تحصيله عند ازدحام المصالح واجتماع المفاسد من ارتكاب نوعا من الضرر دفعا للأعظم منه، أوترك بعض النفع جلبا للأنفع. وذلك لأنه أمر لا انفكاك للمرء عنه، فهو أمر مجبول ومفطور في الإنسان كما يقول سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام: «اعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد نظرا لهم من رب الأرباب،…»(2). وعلى هذا جرى كلام ابن تيمية في تفصيل القاعدة وتأصيل القول فيها كما في مثل قوله رحمه الله: «فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما، فقدِّم أوكدهما، ولم يكن الآخر في هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة، وإن سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر. ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أحرم.»(3). فمدار الموازنة والترجيح بين المصالح عند اجتماعها، والمفاسد عند ازدحامها في كلام أهل العلم كما هو ظاهر لا يخرج في مضمونه عن تقرير أن تكون الموازنة بين واجبين ومندوبين وخيرين ونفعين ومصلحتين وحسنتين ومعروفين..، كما لا يتعدى في مدلوله أن تكون الموازنة بين حرامين ومكروهين ومحظورين وشرين وضررين ومفسدتين ومعصيتين وسيئتين ومنكرين. مما يكشف عن أن دائرة المصالح والمفاسد في كلام أهل العلم لا تتجاوز ولا تتسع لأكثر من ترك ما هو في حكم الواجب طمعا في حفظ ما هو أوجب منه، أو فعل ما هو في حكم الحرام دفعا لما هو أحرم منه. ولقد كرر ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا في مواضع من مؤلفاته بشكل ملحوظ لا مجال للغموض في فهمه أو الخطأ في مدلوله انظر مثلا قوله: «فالتعارض: إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما، فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح. وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما، فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما…»(4). وكذا قوله: "ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين"(5)، هذا فضلا عن توسعه رحمه الله في ضربه الأمثال تقريبا منه للأفهام قطعا منه للطريق عن تطرق أي انحراف أو زيغ في تحديد مراده، وذلك كما في قوله: «فالأول: كالواجب والمستحب، وكفرض العين وفرض الكفاية، مثل تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع. والثاني: كتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين، وتقديم نفقة الوالدين عليه…»(6). ومما يزيد كلامه إيضاحا تمثيله بما يناسب مهام الولاة في ولايتهم كقوله: «مثل: أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبر منها، فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية، مثل: أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه. ومثل: أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركاً لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات، فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر»(7). صدقا أخشى إن تكلفت شيئا من عندي تبيانا لهذه الواضحات، أزيدها بكلامي غموضاً ولا أفيدها وضوحاً. إلا أن مما ينبغي ادراكه هو أن قاعدة المصالح والمفاسد عند التعارض في كلام العلماء ليست على إطلاقها، وتأصيلاتهم ليس فيها ما يفيد جواز الموازنة من أجل الممارسة بين نظامين أو أنظمة كلها تقوم على مبدأ السيادة لغير لله، ليس فيها ما يفيد الموازنة بين علمانيتين أو قل إن شئت بين جاهليتين. لأن الله لا يريد منا أن نخلص الناس من جاهلية إلى جاهلية. لا يريد منا سبحانه إخراج الناس من عبادة العباد تحت اسم الدكتاتورية إلى عبادة العباد تحت اسم الديمقراطية، لا يريد منا الإسلام إخراج الناس من عبادة فرد إلى عبادة شعب. لا يرد منا إلا كما قال ربعي بن عامر رضي الله عنه ( نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد).من عبادة العباد تحت أي اسم كانت، إلى عبادة رب العباد تحت اسم واحد وهو الإسلام، كما قال الله تعالى "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ(19)" (سورة آل عمران)، وقال تعالى "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)" (سورة آل عمران). هكذا بهذه الصراحة وبهذا الوضوح وبهذا الحسم، الإسلام وحده، لا الإسلام الديمقراطي، ولا الإسلام الاشتراكي، ولا الإسلام الليبرالي،… ولا أي إسلام غير الإسلام الذي بعث الله به محمدا عليه الصلاة والسلام. لنكن صرحاء. هل العلمانية الديمقراطية في إطارها العام والتي هي عندك أهون من العلمانية الديكتاتورية، هل هي جاهلية أم ليست جاهلية؟ وهل مبدأها الذي لا انفكاك لها عنه الذي هو مرجعية الحكم للشعب هل هو كفر أم ليس بكفر؟ فإن كان هو كفر، فلماذا التحرج من وصفه بالوصف الذي يستحق أن يوصف به الذي هو الكفر. وذلك كما هو قول الأخ القباج طبعا على لسان محمد بن عبد الواحد كامل في قوله الذي نقله عنه: «ولو لم يكن إلا مبدأها الرئيس المتمثل في أن الشعب هو مرجعية الحكم؛ فإنه مبدأ باطل مخالف للشرع في أصله»(8)، هذه الجملة الأخيرة: (فإنه مبدأ باطل مخالف للشرع في أصله) لو اختصرت إلى قوله (فإنه كفر)، لكان قولا أبلغ في البيان، ولكنها الضرورة والمصلحة. قاعدة المصالح والمفاسد ووظيفة التشريع من دون الله: فكما أن تأصيلات العلماء ليس فيها -والحمد لله- ما يفيد الموازنة بين جاهليتين، فليس فيها ما يفيد إباحة تولي ولاية من مهام صاحبها أن يكون مشرعا للناس من دون الله، أو أن يكون من مهامه ما يستلزم من تركه له ترك لمقام العبودية. اللهم إلا أن يكون أخانا القباج لا يرى ولاية البرلمان ولاية تشريع فهذا أمر خطير، وإن كان يراها تشريعا، والتشريع من دون الله شرك به وتأله على عباده، ومع ذلك يدعو الناس إليه؛ فالأمر أشد خطرا. وذلك لأن التشريع من دون الله شرك وكفر. وفعل الشرك أو قوله لا يبيحه إلا الإكراه. لا يبيح الشرك والكفر ضرورة ولا مصلحة؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (أن المحرمات قسمان: أحدهما، منها ما يقطع بأن الشرع لم يبح منه شيئا لا لضرورة ولا غير ضرورة كالشرك والفواحش والقول على الله بغير علم والظلم المحض، وهي الأربعة المذكورة في قوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، فهذه الأشياء محرمة في جميع الشرائع وبتحريمها بعث الله جميع الرسل ولم يبح منها شيئا قط ولا في حال من الأحوال..)(9). ويقول أيضا: (إن الشرك والقول على الله بغير علم والفواحش ما ظهر منها وما بطن والظلم لا يكون فيها شيء من المصلحة)(10). لله درك. فيا لله العجب ممن يزعم أنه لا محالة ضرورة أو مصلحة من السلوك إلى إقامة شريعة الله إلا عن طريق العمل بغير شريعة الله؟!!! يتبع… * تنبيه: ليكن في علم القراء الكرام أن إطلاق الأحكام في مثل هذه المواضيع لا يلزم منها تنزيلها على الأعيان. فإنزال الحكم على المعين ليس هذا مجاله فقد ضبطه علماء السنة بضوابط وشروط وموانع من حديد لا يعذر المرء بعدم الرجوع إليها أو عدم الاعتبار بها. (1) الاستبصار والتؤدة (ص:83)، تأليف حماد القباج. (2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (ج1/ص:9). (3) مجموع الفتاوى (ج20/ص:57-58). (4) مجموع الفتاوى (ج20/ص:51). (5) مجموع الفتاوى (ج20/ص:54). (6) مجموع الفتاوى (ج20/ص:52). (7) مجموع الفتاوى (ج20/ص:58). (8) الاستبصار والتؤدة (ص:82). (9) مجموع الفتاوى (ج14/ص:470-471). (10) مجموع الفتاوى (ج14/ص:476). [email protected]